‏المقدّمة[1]

من أقدس المفاهيم وأجملها عند المؤمنين مفهوم (المنبر الحسيني)، هذا المنبر الذي طالما اعتلاه أغلب أئمة الهدى(عليهم السلام)؛ لبيان مظلومية الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته(2)، فأصبح منبراً لذكر المصيبة وإقامة العزاء، وكان أوّل مَن نصب مجلساً على الإمام الحسين(عليه السلام) ـ في رأي من الآراء ـ هو ولده الإمام زين العابدين(عليه السلام) في الجامع الأموي، وأخذ ينعى أباه، ويعدّد صفاته، ويبيّن مظلوميّته، والناس من حوله تبكي(3).

وأخذ الحال يتطوّر عملاً بتوصيتهم(عليهم السلام) لشيعتهم ومحبّيهم أن أقيموا المجالس باستمرار(4)، حتّى أصبح هناك منبر يعتليه الناعي والذاكر للإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وفضائلهم، ثمّ تطوّر الحال أكثر، وأصبح هذا المنبر يُذكر فيه جميع الأئمة(عليهم السلام)، ويُذكر فيه أيضاً الوعظ والإرشاد، فأضحى منبراً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وباختصار: أصبح المنبر الحسيني القناة الصافية للقلوب الإيمانية للتزوّد الديني والمعرفي والاجتماعي والسياسي... فللمنبر الآن المكانة السامية بسمو صاحبه(عليه السلام)، وفي نفس الوقت هو مهم جداً؛ إذ إنّه أصبح يغذّي الأفكار والقلوب، ويؤثّر في التصرّفات الاجتماعية ككلّ، فلا بد أن يُراعى ويُحافَظ عليه، بأن يكون الخطيب الذي يعتليه مؤهّلاً تمام التأهّل لأن يعظ الناس ويرشدهم لدينهم، ويبيّن الدين الحقّ عن دراية وأهلية.

من هنا ينبغي أن يكون هذا المنبر ـ ليعطي ثماره ـ محاطاً بأجواء خاصّة، من ناحية الخطيب، والحضور، والجهة التي تنظِّم هذا المجلس، وهذه الأجواء هي من أهمّ الركائز للمنبر الحسيني، وسنتحدّث عنها لاحقاً.

ابتداءً نرى أنّه من الضروري أن نعمل إطلالة على مفهوم المنبر، وكيف تطوّر المنبر الحسيني بالخصوص، ثمّ نعرّج بالكلام على المبحث المهم، وهو أهمّ ركائز المنبر الحسيني، فهنا مباحث ثلاثة:

المبحث الأول: مفهوم المنبر

(المِنْبَر): اسم يُطلَق على المنصّة التي يصعد عليها الخطيب من إمام وغيره؛ ليسمعه ويراه الناس، والجمع (منابر)[2]، وقد رأينا على مرّ التاريخ منابر متنوّعة لكلّ منها أهمّيته ومكانته بالنسبة لأبناء المجتمع الإنساني، فهناك منبر للقضاء، ومنبر للحكم، ومنبر للرأي وغيرها.

ومن بين هذه المنابر اكتسب (المنبر الحسيني) قدسية خاصّة في أفكار محبّي أهل البيت(عليهم السلام) وسلوكهم، وأُحيط بهالة من الرفعة والعزّة شملت القائمين عليه أيضاً، فمن أين جاءت هذه القداسة؟ ولِمَ اكتسب الخطيب ـ الرجل أو المرأة ـ ذلك الاحترام وتلك الهيبة في أذهان شيعة أهل البيت(عليهم السلام)؟

من الواضح أنّ المنبر الحسيني قد اكتسب قداسته من الإمام الحسين(عليه السلام)، فالناظر إلى (المنبر الحسيني) لا ينظر إلى منصّة اعتيادية يرتقيها أيّ شخص ليخطب في الناس، وإنّما يستحضر في نفسه جميع صور التضحية والكرامة والإباء والفداء التي تمثّلت في شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام)، إذاً فهي قدسية (الإمامة) التي تقودنا إلى قدسية (النبوّة) المتمثلة في شخص الرسول الكريم محمّد(صلى الله عليه واله)، ومن ثَمّ فالنبوة تقودنا إلى الله سبحانه وتعالى، وبهذا نجد (المنبر الحسيني) قد اكتسب هذه القدسية من قداسة أُصول ثلاثة هي: الإمامة، ثمّ النبوة، ثمّ التوحيد.

ولهذا يجب على خطيب المنبر مطلقاً ـ رجلاً كان أو امرأة ـ أن يعي هذه القداسة ويعطيها حقّها، فالمنبر الحسيني يمثل فكراً وثقافة ومدرسة ومعلماً للأجيال في كلّ وقت وحين.

المبحث الثاني: تطوّر المنبر الحسيني

لقد ذكروا عدّة مراحل لتطوّر المنبر والعزاء الحسيني تاريخياً إلى عصرنا الحاضر[3]، كما يشهد بذلك الوجدان والواقع، فبعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته في كربلاء، أقام آل البيت(عليهم السلام) مجالس عزاء جرى فيها استذكار واقعة كربلاء، ومقتل الإمام الحسين(عليه السلام) وأهله وأصحابه[4]، وقد شمل هذا الاستذكار جانبي النثر والشعر على حد سواء[5]، ومن ثمّ توسّعت هذه المجالس إلى أن وصلت إلى ما أصبحت عليه اليوم.

والذي يهمنا هنا أن نسلط الضوء على قضية مهمّة نشأت في (المنبر الحسيني) أثناء تطوّره التاريخي هذا، ألا وهي قضية (المأتم والمجلس الحسيني).

(المأتم): كلمة تطلق أساساً على جماعة من الناس في حزن أو فرح، ولكن الغالب استعمالها في الدلالة على الحزن إثر وفاة، أو في مراسم الجنازة، والجمع (مآتم)[6]، أما (المجلس): فهو مكان يخصص لطائفة من الناس يجتمعون فيه[7] للنظر فيما يخصّهم من أعمال وأفكار وعلوم.

وعندما نتتبّع تاريخ (المنبر الحسيني) سنلاحظ أنّ أغلب الأماكن والمشاهد التي أُقيم فيها العزاء الحسيني كانت عبارة عن (مأتم)، يقوم فيه الخطيب باستذكار فاجعة الطف بصوت عذب شجي؛ لإبكاء المستمعين، وإثارة عواطفهم ومشاعرهم نحو القضية الحسينية، إذن كان (الجانب العاطفي) هو البارز في المآتم الحسينية.

وقد استمرّت إقامة المآتم على ذكرى سيّد الشهداء(عليه السلام) وأهل البيت(عليهم السلام) في أماكن عدّة من العالم الإسلامي، إلى أن دخل العالم في القرن العشرين الذي شهد تطوّراً وثقافة بارزة ميّزته من القرون السابقة[8]، فتطوّرت فكرة (المأتم) لتحلّ محلها تسمية (المجلس الحسيني).

والمجلس الحسيني شعيرة حسينية تتطلّب من القائم عليها تقديم خطبة ذات أهداف عقائدية أو سياسية أو اجتماعية... يفيد منها أبناء المجتمع، ثمّ ينهي كلامه بذكر أبيات في مصاب آل البيت(عليهم السلام)، وهنا نرى تطوّراً ملحوظاً في (المنبر الحسيني)، فبعد أن كان التأكيد على البعد العاطفي للقضية الحسينية، صار الحديث في المجلس الحسيني الآن يشمل البعدين (الفكري والعاطفي).

ومن أكثر الأماكن التي نشطت فيها المجالس الحسينية هي (إيران والعراق) في القرنين التاسع عشر والعشرين، خصوصاً في (قم وطهران ومشهد، والنجف وكربلاء وبغداد)، فقد ظهرت فكرة (الحسينية)، وهي مكان كبير يتسع لعدد كبير من الناس، يجتمع فيه محبّو أهل البيت(عليهم السلام)، وتجرى فيه برامج تثقيفية، ومحاضرات فكرية، فضلاً عن المهرجانات والمسابقات الشعرية والأدبية، وما إلى ذلك.

ومن أوائل الحسينيات التي شُيّدت هي: (الحسينية الحيدرية) في الكاظمية عام (1297هـ/1876م)، وأوّل حسينية شُيّدت في النجف هي (الحسينية الشوشترية) عام (1884م)، وأوّل حسينية بنيت في كربلاء عام (1906م)[9]، أمّا في إيران فمن أقدم الحسينيات فيها حسينية (سيّد إبراهيم سادات أخوان)، وقد بُنيت في زمن مقارب لبناء (الحسينية الحيدرية) في الكاظمية.

وكذلك نشطت فكرة المجالس الحسينية في (الكويت)، وكانت حسينية (سيّد علي الخباز) أوّل حسينية رسمية عام (1856م)، ثمّ تعدّدت بمساهمة أهل الكويت وتشجيعهم، وتركت أثراً كبيراً في واقع الكويت السياسي والديني والاجتماعي[10].

ومن الملاحظ في (العراق) أنّ أغلب الأماكن التي أُقيم فيها العزاء كانت تابعة لبيوتات معروفة من وجهاء المجتمع العراقي، حيث لم تلق الحسينيات في العراق الانتشار ذاته في إيران مثلاً؛ وذلك نتيجة للتضييق السياسي الذي مارسته الحكومات المتعسّفة ضدّ الشعب العراقي؛ ولهذا كانت أغلب التعزيات الحسينية عبارة عن (مآتم) يؤكّد القارئ فيها على الجانب العاطفي أكثر مما يؤكّد على الجانب الفكري أو النهضوي أو العقائدي؛ خوفاً من المنع والتعسّف والجور الذي يتعرّض له من قبل الحكومات الجائرة.

وقد استمر هذا الأمر إلى سقوط النظام البائد في العراق عام (2003م)، إذ فُتِحَ المجال أمام محبّي آل البيت(عليهم السلام)، فانتشرت الحسينيات في أكثر محافظات العراق، ولاقت إقبالاً واسعاً من قِبَل أبناء المجتمع، وقد تصدّت العتبات المقدّسة والقائمون عليها لخدمة المنبر الحسيني، وتطوير الوعي الفكري والثقافي للناشئة، وكذلك نشط الجانب المؤسّساتي الفكري لخدمة المذهب الإمامي في شتّى المجالات.

المبحث الثالث: ركائز المنبر الحسيني

نظراً للتطوّر الثقافي الذي يشهده العصر الحالي، ونظراً للمكانة المقدّسة (للمنبر الحسيني) والقائمين عليه، يجب علينا أن نبيّن أنّ عملية تطوير المجلس الحسيني والارتقاء به لا تتمّ إلّا بالعمل على تطوير ركائزه الأساسية جميعاً، وهذه الركائز هي:

1ـ الشخص (خطيب المنبر).

2ـ الجهة المنظمة للمجلس الحسيني.

3ـ الحضور.

وسنذكر هنا مجموعة من الخصائص التي ينبغي توفّرها في كلّ ركيزة من ركائز المجلس الحسيني اليوم، حتّى يحقق غايته المنشودة، وينقل رسالة الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته إلى العالم أجمع، نقلاً ينبع من وعي وفكر صادقين.

أوّلاً: خصائص الشخص المنبري

لا بدّ أن تتوفّر في الخطيب المنبري خصائص محدّدة تجعل منه شخصاً جديراً بالمكان الذي يرتقيه، وتصنع منه قدوة يتعلّم منها أبناء المجتمع، فهو لا يمثّل نفسه فقط، وإنّما هو سفير للإمام الحسين(عليه السلام)، ومن أهمّ هذه الخصائص ما يأتي:

1ـ أن يتمتّع الشخص ـ رجلاً كان أو امرأة ـ بمستوى علمي ديني وعقائدي رفيع، فضلاً عن الثقافة العامّة، فلا يعتمد على جمال صوته فحسب؛ ففي الآونة الأخيرة ظهر عدد من الرجال والنساء ممّن يرتقون المنبر الحسيني، وهم معتمدون على أصواتهم فقط، أمّا الجانب المعرفي فنجده ضئيلاً عندهم.

وأهمّ قضية في الجانب المعرفي هي معرفته للإمام(عليه السلام)؛ ذلك لأنّ الإمام(عليه السلام) هو «النموذج الأعلى الذي كانت الإنسانية على طول تاريخها تشعر بالحاجة إليه»[11]، فالبشر يبحثون باستمرار وبدافع الحاجة الملحّة عن المثال والقدوة والنموذج الأعلى للفضائل الإنسانية، فوجدوا في هذه النخبة المعروفة بـ(الأئمة) غايتهم.

ويجب على المنبري أن لا يغفل قضية مهمّة وهي أنّ (الإمام) قد اكتسب هذه القدّسية والمكانة في قلوب الناس؛ لأنّه (إنسان) سعى في طريق تكامله حتّى وصل إلى مرتبة جليلة عُرفت بـ(الإمامة)؛ فهو ليس أُسطورة من الأساطير، بل هو حقيقة عاشت وتعاملت مع الناس مدّة من الزمن.

وقد كان مع ذلك مثالياً في كلّ شيء؛ مثالياً في أُبوّته، ومثالياً في أُخوّته، وفي تعامله مع أُسرته، ومع الناس، وفي عبادته لربّه، وفي علمه وتقواه، وفي إصلاحه للفرد والمجتمع، ولهذا كان الحسين(عليه السلام) الإنسان الأسمى، والمصلح الحقيقي؛ فصار في روح كلّ مصلح، وفي ضمير كلّ مجاهد قبس من ضيائه(عليه السلام)[12].

2ـ أن يسهم المنبري في إصلاح الفرد والمجتمع.

لا يخفى علينا جميعاً ما وصل إليه التواصل الاجتماعي اليوم، فقد بلغ ذروته عبر شبكات الإنترنت، فضلاً عن أجهزة التواصل الأُخرى، وكذلك لسنا بغافلين عن قضية استغلال المجتمعات بوسيلة العولمة، وما تدعو إليه بقناع التحرّر والحضارة والديموقراطية، ممّا يمكّنها من السيطرة على عدد كبير من عقول شباب جيلنا المسلم.

ليس هذا فحسب، بل أصبح لدى كثير من شباب هذا الجيل نفور كبير من الدين والإنسان المتديّن، وهذا لا يرجع إلى الدين طبعاً، بل إلى الطريقة الخاطئة التي يتّبعها بعض المنبريين والمبلّغين في الوقت الحالي؛ وهي طريقة يمكن تسميتها بطريقة (افعل كذا، ولا تفعل كذا)، من دون معرفة ووعي كاملين بطريقة التعامل مع أبناء المجتمع، مع أنّ الدين المعاملة! فهذه الطريقة بهذه الصفة لا تُصلِح الفرد ولا المجتمع، بل تعمل على هدمهما أكثر، ولهذا يجب العمل على إصلاح الناس من منطلق التفهّم، واحتواء الآخرين، والتفاهم معهم، كلٌّ بحسب مستواه الفكري وبيئته الاجتماعية.

وينبغي للمنبري أو المبلّغ تعريفهم بـ(المثال السامي) الذي يقتدون به معرفة حقيقية، فلا يكتفي بالتأكيد على الجانب العاطفي لهذه الشخصيات السامية فقط، ولا يقف عند الجانب التاريخي لهذه الشخصيات، ثمّ يطلب منهم أن يكونوا مثلهم، كأن يقول مثلاً: (كن مثل الحسين(عليه السلام))، و(كوني مثل زينب(عليها السلام))، وإنّما يُعرِّفهم مَن هو الحسين(عليه السلام)، ومن هي زينب(عليها السلام)، فالتأكيد على الجانب المعرفي أكثر من الجانبين (العاطفي والتاريخي) يزيد من تأثّر أبناء المجتمع بقدوته وبمثاله السامي.

وهكذا سيسهم المنبريّ في إعطاء هذا المثال وهذا النموذج الأعلى حقّه ومكانته الحقيقية في المجتمع، فالشخص المنبري لا يقدّم خدمة للمجتمع، وإنّما يسعى لإصلاحه، ولهذا لا بدّ لنا من وضع أساس صحيح لعملية الإصلاح هذه، وهذا الأساس يتمثّل في تعريف مفهوم: (القدوة)، (المثال)، (الإمام) في أذهان أبناء الجيل الإنساني الناشئ.

وخير مثال للإنسانية والقدوة والإمام بعد النبي(صلى الله عليه واله) هو الإمام الحسين(عليه السلام)، فهو مثال للإنسانية كلّها لا للمسلمين فحسب، ولهذا نرى قضية الإمام الحسين(عليه السلام) الإصلاحية قد أخذت بُعداً عالمياً، وقد أدّى ذلك إلى أن يتأثّر بشخصيته العظيمة مجموعة كبيرة من شخصيات العالم، من أمثال: غاندي، وتوماس كاريل، وفردريك جيمس، وإدوارد براون، وآخرين.

وهذا البُعد العالمي للإمام(عليه السلام) يكشف لنا عن أنّ إنسانيته(عليه السلام) المتفرّدة والمثالية كانت السبب وراء تأثر هذه الشخصيات به(عليه السلام)، فمنطلق تأثّرهم به ليس عقائدياً مثلنا، بل هو منطلق إنساني، فالحسين(عليه السلام) وارث آدم(عليه السلام).

3ـ أن يمتلك المنبري كفاءة لغوية، ومعرفة بمنهجية البحث التاريخي والروائي؛ فلا ينبغي أن نراه يستشهد بوقائع تاريخية من دون دليل، أو اعتماد على سند صحيح لها، أو يستشهد بروايات من دون التفحّص في دقّة سندها وصحّته، فيذكرها أمام الملأ بلا تمحيص؛ مما يسبب الفهم السلبي لبعض فئات المجتمع الإسلامي[13].

ثانياً: خصائص الجهة المنظّمة للمجلس الحسيني

لقد تنوّعت الجهات المنظّمة لمجالس الإمام الحسين(عليه السلام)، فلا تختص إقامة المجالس بمحبّي أهل البيت(عليهم السلام) من أبناء المذهب الإمامي فحسب، بل شملت الطوائف الأُخرى، من عموم المسلمين والمسيحيين والصابئة، سواء أكانت هذه الجهات من رجال الدين، أو الأكاديميين، أو شعراء، أو من أصحاب الحِرف والمهارات، فضلاً عن باقي أبناء المجتمع.

وبرغم هذا التنوّع والاختلاف الثقافي والمذهبي لجميع هذه الجهات المنظمة للمجالس الحسينية نجدها قد اجتمعت على قضية واحدة، وهي قضية الإمام الحسين(عليه السلام)، ولهذا ينبغي لها التحلّي بخصائص مهمّة، تُظهر المجلس الحسيني بأبهى صورة، وتجعله يسهم في إصلاح أبناء المجتمع، ويوحّدهم تحت راية الحقّ، ونصرة المظلوم على الظالم، ومن أهمّ هذه الخصائص:

1ـ اختيار الشخص المنبري

يجب أن يكون للجهة المنظّمة دور واضح في اختيار الشخص المنبري، فعليها البحث عن أفضل الأشخاص المنبريين ديناً وخلقاً وعلماً وثقافة، فضلاً عن قدرته على مراعاة طبقات المستمعين إليه في المجلس؛ ذلك لأنّ المستمعين من طبقات ثقافية واجتماعية متنوّعة، فهناك العامّة، وهناك الخواص من الناس، فالمنبري الجيّد هو القادر على مراعاة هذا التنوّع أثناء محاضرته؛ بغية الحصول على الفائدة المرجوّة من إقامة المجلس الحسيني.

2ـ عدم تسييس المنبر الحسيني

يجب على صاحب المجلس الحسيني وضع ميوله أو انتمائه السياسي والحزبي جانباً عند إقامته للمجلس، ولا يجعل من المنبر الحسيني وسيلة تخدم مصالحه وأهدافه السياسية أو الحزبية، فالإمام الحسين(عليه السلام) إمام الجميع، وليس خاصاً بفئة معيّنة من المسلمين.

3ـ مشاركة المنبري في إصلاح المجتمع

بيّنا سابقاً أنّ من أهمّ خصائص المنبري هو إسهامه في إصلاح المجتمع؛ لما يتمتع به من مكانة بينهم، بصفته خطيب المنبر الحسيني، فيجب أن يكون ذا دور فاعل في إصلاح بعض الأعراف والتقاليد التي تظهر في المجتمع من وقت إلى آخر.

وبما أنّ الشخص المنبري يتنقّل من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى أُخرى فهو بحاجة إلى معرفة أهمّ المشاكل التي يتعرّض لها أبناء هذه المجتمعات، ولهذا ينبغي للجهة المنظمة لهذه المجالس التي تستضيف المنبري لإلقاء محاضرته على مسامع أبناء مجتمعاتها، أن تقدّم له دراسة مفصّلة عن الظروف التي يعيشها أبناء المجتمع، والمشاكل التي يعانونها؛ لكي يستفيد منها في محاضرته الدينية، ويذكّرهم بها، ويعرض أفضل الحلول لهذه المشاكل، حتّى تكون المحاضرة واقعية، مرتبطة بما يعيشه أبناء المجتمع.

4ـ تنظيم المجلس الحسيني

نتيجة لتطوّر وسائل الإعلام وانتشارها عبر بلدان العالم، صارت معظم المجالس الحسينية مجالس مصوّرة، تصوّر وتبث عبر التلفزيون أو الإنترنت، ولكي تقدّم هذه المجالس بأفضل صورة، يجب على صاحب المجلس تنظيم مجلسه من حيث الإنارة، وأجهزة الصوت، وسعة المكان، وأماكن جلوس الحضور، وما يتبع ذلك، فكلّما كان المجلس أكثر تنظيماً أدّى ذلك إلى نقل الشعائر الحسينية وسعة انتشارها عالمياً.

ثالثاً: خصائص الحضور

لا يقتصر دور الحضور في المجالس الحسينية على الاستماع فقط، فلكلّ شخص حاضر وجهة نظره الخاصّة فيما يسمعه أثناء المجلس، ولهذا ينبغي للمنبري والجهات المنظّمة للمجالس الحسينية إشراك الحضور، والاستماع إلى آرائهم فيما يقال أثناء المحاضرة .

ولا أقصد بهذا قطع كلام الخطيب أثناء محاضرته، أو تبادل الآراء أثناء المجلس الحسيني، فهذا أمر غير محمود، ولكن أن يتم تمكينهم من إبداء آرائهم، والتعبير عن وجهات نظرهم فيما يستمعون إليه؛ لكي يكون المجلس فاعلاً ومصلحاً للمجتمع بحق.

وهناك طرائق متنوّعة لجمع آراء الحضور في المجلس، ومن أبسطها: وضع صندوق في إحدى زوايا المجلس، تجمع فيه آراء الحضور بعد أن توزّع عليهم قصاصات ورقية، ثمّ تتم قراءتها في وقت لاحق من قبل الجهة المنظمة أو الشخص المنبري، ثمّ التصدّي لعرضها ومناقشتها في المجلس اللاحق، فتعمّ الفائدة الجميع.

الخاتمة

نعرف جميعاً أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) (عِبرة وعَبرة) في جميع مراحل حياته الشريفة، وقد كان للمجالس الحسينية التي تقام في شهري محرم وصفر ـ فضلاً عن باقي أشهر السنة ـ أثر كبير في بيان ذلك، مع أنّ جانب (العَبرة) هو الغالب في أكثر الأحيان، أما جانب (العِبرة) فيغلب عليه التأكيد على الجانب الأخلاقي والتربوي، في حين يندر الحديث عن الجانب الاجتماعي، والإنساني خصوصاً.

ولهذا ارتأيت أن أُسلط الضوء على قضية مهمّة في هذه الدراسة، وهذه القضية تتمثّل في السؤالين الآتيين: ما الذي نحتاج إليه في المجلس الحسيني اليوم؟ وكيف نعمل على الارتقاء به وتطويره؟

وقد بيّنت وجهة نظري المتواضعة فيما نحتاج إليه اليوم في المجالس الحسينية، من خلال تقديم مجموعة من الخصائص التي ينبغي لكلّ ركيزة من ركائز المجلس الحسيني أن تتحلّى بها، وهذه الركائز هي: (الشخص المنبري، الجهة المنظمة للمجلس، الحضور).

المصادر والمراجع

1. إقناع اللائم على إقامة المآتم، محسن الأمين، دار الصفوة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، سنة1430هـ/2009م.

2. الأمالي، محمّد بن علي بن بابويه المعررف بـ (بالشيخ الصدوق)، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

3. الإمام علي في محنه الثلاث: محنة التاريخ، محنة التشيع، محنة الإنسان، علي شريعتي، ترجمة: علي الحسيني، دار الأمير للثقافة والعلوم، الطبعة الثانية، 1428هـ/2007م.

4. تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي، تحقيق: علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، سنة 1414هـ/1994م.

5. تاريخ الحسين (نقد وتحليل)، عبد الله العلايلي، دار الجديد، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1994م.

6. تراجيديا كربلاء، سيسيولوجيا الخطاب الشيعي، إبراهيم الحيدري، مؤسّسة دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1428هـ/2007م.

7. زين العابدين بن الحسين، عبد العزيز سيّد الأهل.

8. قرب الإسناد، عبد الله بن جعفر الحميري، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث ـ قم، الطبعة الأُولى، 1413هـ.

9. كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن قولويه، تحقيق: الشيخ جواد القيومي، لجنة التحقيق، مؤسّسة نشر الفقاهة، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

10. لمحات من تاريخ الشيعة في الكويت، عبد المحسن يوسف جمال، دار النبأ للنشر، الكويت، سنة 1426هـ/2005م.

11. معجم المعاني، على العنوان الإلكتروني التالي: www.almaany.com.

12. معجم خطباء المنبر الحسيني، محمّد صادق الكرباسي، المركز الحسيني للدراسات، لندن ـ المملكة المتحدة، الطبعة الأُولى، 1420هـ/1999م.

13. الملحمة الحسينية، مرتضى مطهري، تعريب: السيّد محمّد صادق الحسيني، الدار الإسلامية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1413هـ/1992م.

[1] هذا المقال عبارة عن بحث قدّمته الباحثة في ندوة علمية عُقدت في مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، يوم الأحد: 25/9/2016م.

[2] اُنظر: معجم المعاني، على العنوان الإلكتروني التالي: https://www.almaany.com.

[3] اُنظر: الكرباسي، محمّد صادق، معجم خطباء المنبر الحسيني: ج1، ص٣٧-٧٧.

[4] روي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام):«إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل عيوننا، وأذلّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ الب-كاء عليه يح-طّ الذنوب العظام».الصدوق، محمّد بن علي بن بابويه، الأمالي: ص١١١.

[5] عن أبي عمارة المُنشد حينما دخل على الإمام جعفر بن محمّد، قال: قال لي: «يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين(عليه السلام)، قال: فأنشدته، فبكى، ثمّ أنشدته فبكى، ثمّ أنشدته فبكى.قال: فوالله، ما زلت أُنشده ويبكي، حتّى سمعت البكاء من الدار، فقال لي: يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً فأبكى خمسين، فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين، فله الجنّة...».ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص٢٠9.

[6] اُنظر: الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القواميس: ج16، ص4.

[7] اُنظر: المصدر السابق: ج15، ص511.

[8] اُنظر: الكرباسي، محمّد صادق، معجم خطباء المنبر الحسيني: ج1، ص٣٧ -٧٧.

[9] اُنظر: الحيدري، إبراهيم، تراجيديا كربلاء: ص68-69.

[10] اُنظر: عبد المحسن يوسف جمال، لمحات من تاريخ الشيعة في الكويت: ص:59.

[11] شريعتي، علي، الإمام علي في محنه الثلاث: ص98 - 99.

[12] اُنظر: العلايلي، عبد الله، تاريخ الحسين، نقد وتحليل: ص8.

[13] لقد فصّل الشيخ مرتضى المطهري القول في هذه الخصيصة، وأكّدها كثيراً في كتابه (الملحمة الحسينية)، خاصّة في القسم الأوّل من الكتاب، الذي يحمل عنوان: (التحريف في واقعة كربلاء: أنواعه وعوامله):ج1، ص7-85، وكذلك في القسم الثالث من الكتاب، وعنوانه: (عامل التبليغ في النهضة الحسينية):ج1، ص139-279.

نظرة عامّة حول المنبر الحسيني والقائمين عليه