المقدّمة

يكتسب الحديث عن الخطابة الحسينية أهميّة خاصّة في العصر الحاضر؛ لما لها من دور بارز في تحريك النفوس نحو تعاليم الإسلام الأصيل، وتفاعل المجتمع معها على مختلف الطبقات، لذا جاء هذا المقال ليسلِّط الأضواء على جوانب مهمّة من الخطابة الحسينية، فيبدأ بلفظة الخطابة في اللغة والاصطلاح، ثمّ يعرّج على بيان أُسس الخطابة وأركانها، فيتناول في الركن الأوّل دور الخطيب وما ينبغي أن يتحلّى به ليكون خطيباً ناجحاً، ويتحدّث الركن الثاني عن الخطاب والعوامل المساعدة على جعله خطاباً مؤثّراً. وفي الخاتمة يعرّف المقال بنموذج الخطابة الحسينية الناجحة، وهو الشيخ الدكتور أحمد الوائلي وخصائص مدرسته.

الخطابة في اللغة والاصطلاح

وردت الخطابة في المعجمات اللّغوية القديمة بلفظة (الخُطبة) بضم الخاء، أمّا بكسرها فالمراد بها خطبة النساء لغرض الزواج؛ قال الخليل: «...والخُطبة: مصدر الخطيب، وكان الرجل في الجاهلية إذا أراد الخِطبة قام في النادي فقال: خِطْبٌ. ومَن أراد قال: نِكْحٌ. وجمع الخطيب خطباء، وجمع الخاطب خُطّاب...»(1)، وورد مصطلح الخطابة في المعاجم الحديثة ـ كالمعجم الوسيط ـ بهذا التفسير: «خطب الناس، وفيهم، وعليهم خَطابة وخُطبة: ألقى عليهم خُطبة، وفلانة خَطْباً وخِطبة: طلبها للزواج، ويقال: خطبها إلى أهلها: طلبها منهم للزواج...»[1].

وتعني الخطبة في الاصطلاح: كلاماً يُطلق على جماعة من الناس بصوت عالٍ؛ يُتوخى فيه الوضوح وإلفات أنظار الجماهير إلى غاية الخطيب.

وتكون الخطبة واضحة البيان قوية الأركان، ذات إيقاع وفواصل متقاربة؛ لتعطي السامع وقتاً للمتابعة، شديدة السبك والنظم والترتيب؛ لتشدَّه إليها[2].

أركان الخطابة

تعتمد الخطابة بصورة عامة على ركنين أساسيين، هما: الخطيب، الخطاب؛ ومن هذا الثنائي يتكوّن مفهوم الخطابة. وإذا أردنا الحديث عن الخطابة فلا بدّ من التركيز على هذين الأمرين؛ لذا سنبدأ مقالنا بالتركيز على الركن الأوّل، ثمّ الركن الثاني.

الركن الأوّل: الخطيب

يلعب الخطيب دوراً مهمّاً جدّاً في عملية الخطابة، ويتناسب الخطاب مع خصائص وإمكانيات الخطيب تناسباً طردياً، فقد لا يرتقي الخطاب إلى مستوى عالٍ، لكنّ الخطيب يرفع من شأنه ويجعل الجمهور في شغف لسماعة، وقد يكون الخطاب ذا قيمة علميّة ومتكامل، لكن الخطيب يحطّ من منزلته.

مهام الخطيب ودوره

يضطلع خطباء المنبر الحسيني بمسؤوليات دينية مهمّة في تثقيف الأُمّة وتوعيتها وتربيتها؛ بوصفهم يقومون بمهام تتلخص بما يلي[3]:

1ـ صوت الإسلام الواعي الذي يحمل أصالة الثقافة وروح الوعي والمسؤولية الدينية تجاه الجماهير الإسلامية كافّة.

2ـ الجزء المنفتح من قِبَل المؤسّسة الدينية على الأُمّة، فيتحسسون آلامها ومشاكلها وطموحاتها؛ لمعالجتها من خلال الرؤية الإسلامية الصحيحة والموقف الإسلامي الصائب.

3ـ الجزء المتحرّك من قِبَل المؤسّسة الدينية، المنفتح على إشكاليات العصر ومستجداته، وما أفرزته الحضارة الغربية لمعالجته وفق الأُطروحة الإسلامية القادرة على استيعاب كلّ متطلبات الحياة.

4ـ جرس التنبيه الذي يصرخ في آذان الجميع، عندما تداهمهم الأخطار وتعصف بهم الخطوب.

آداب الخطيب الناجح و مواصفاته

أهمّ عامل في نجاح الخطيب هو إخلاصه والتزامه بالتعاليم الإلهية، فالدين الإسلامي لم يأتِ للناس كي يتناوله الخطباء في مجالسهم ويعمل العامّة فقط بمقرراته وأحكامه، بل إنّ دين الإسلام منهاج عمل لرسول الله(صلى الله عليه واله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)، وتطبيق مفرداته واجب على جميع العلماء والخطباء وبقية شرائح المجتمع؛ لذا فالخطيب الإسلامي هو واحد من جمهور المسلمين قبل أن يكون متحدِّثاً، والمسلم الحقيقي هو الذي يطبِّق الأوامر الإلهية دون نقاش، ويتجنّب ما نهت عنه، ويُطيع الذات الإلهية طاعة تامّة، والخطيب الإسلامي المتقي الورع تترك كلماته أثراً كبيراً بين المؤمنين، وينظر إليه المسلمون الحقيقيون نظرة احترام وتقدير، ويطبّقون نصائحه عن طيب خاطر ويطيعونه بصدق. أمّا إذا انعكس الأمر، وكان الخطيب يجيد فنّ الكلام، لكنّه لا يعمل بأقواله؛ فإنّه لا يملك مكانةً واحتراماً في المجتمع الإسلامي، ولا يترك كلامه أثراً عميقاً في نفوس الناس، وهذا لا يختص بالخطباء دون الناس الآخرين[4]، وإن كان التركيز على الخطيب لكونه قدوة للمجتمع.

وقد ورد الحثّ على تطابق الأقوال مع الأفعال في تراث أهل البيت(عليهم السلام)، من ذلك قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «... علّموا الناس الخير بغير ألسنتكم، وكونوا دعاة لهم بفعلكم، والزموا الصدق والورع»[5]. ومنها أيضاً قول الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام): «رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقتهم...»[6].

وقوله(عليه السلام) أيضاً: «كونوا دُعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكُم؛ ليرَوا منكم الاجتهاد والصدق والوَرع»[7].

ولعلّ من أسباب تقدّم الإسلام وانتشاره في صفوف الناس هو الجانب العملي في حياة الرسول(صلى الله عليه واله) الذي كان يتفق مع ما يدعو إليه، فكان ينفّذ التعاليم الإلهية قبل أن يبلِّغ بها الآخرين، وهذا ما يزيد من ثقة الناس واطمئنانهم، ويعزز روابطهم مع الدين الحق، وكذا كانت أقوال ربيب الرسالة الإمام علي(عليه السلام) منسجمة مع أفعاله فهو القائل: «أيُّها الناس، والله، لا أحثّكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها»[8]، وكذا القائل: «كَفى بِالمَرءِ غَوايَةً أن يَأمُرَ النّاسَ بِما لا يَأتَمِرُ بِهِ، ويَنهاهُم عَمّا لا يَنتَهي عَنهُ»[9]. وكذا قال: «أظهر النّاسِ نِفاقاً مَن أمَرَ بِالطّاعَةِ ولَم يَعمَل بِها، ونَهى عَنِ المَعصِيَةِ ولَم يَنتَهِ عَنها»[10]، وقال أيضاً: «أحسن المقال، ما صدَّقه الفعال»[11].

على أنّ القرآن الكريم قد ذمّ الذين تُخالف أعمالهم أقوالهم في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)[12]، وقوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[13]، وقد استلهم الشعراء هذا المعنى كما في قول أحدهم[14]:

وغير تقي يأمر الناس بالتقى

طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ

وقول أبي الأسود الدؤلي[15]:

لا تنهَ عن خُلق وتأتي مثله		عار عليك إذا فعلت عظيمُ
ابدأْ بنفسك وانهها عن غيِّها		فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ

ولمّا كان من غاية الخطيب التأثير في الأرواح وامتلاك القلوب لم يكفه ذلك فقط، بل لا بدّ من التحلّي بجملة من الآداب؛ ليستولي على النفوس، وتنجذب إليه العقول، ويمكن الإشارة إلى هذه الآداب فيما يلي[16]:

1ـ سداد الرأي وأصالة العقل، وتمييزه لوجوه الأُمور ومعضلات المشاكل؛ ليهتدي إلى إثبات الحقّ ودحض الباطل.

2ـ صدق اللهجة وصحّة القول وحسن السيرة؛ ليوقع في نفوس سامعيه خلوص نيته واستقامة عمله وحرصه على الحقيقة.

3ـ التودد إلى الناس، وموجبات هذا التودد كثيرة منها: التحلّي بالوقار والوفاء والأمانة والعفّة وعزّة النفس وعلو الهمّة حتّى يُعلَم أنّه إنسان كامل خالٍ من الأغراض، ويعمل الخير للخير، ولا يريد ثناءً ولا جزاءً من أحد إلّا من الله الغني الكريم.

4ـ رباطة الجأش وشدّة القلب، وهي منشأ صفات كثيرة حميدة؛ فإنّها تحفظ له كرامته في أعين السامعين، وتستبقي عقله معه، وهو يخطب فيتفنن ويرتّب قوله ويُحكم مقاطع كلامه.

5ـ البديهة الحاضرة وسرعة الخاطر.

6ـ أن يكون طليق اللسان بريئاً من الحصر، والعيي، واللجلجة، والتمتمة، والفأفأة، والجمجمة، والثرثرة، وسماجة التكلف والإغراب، وغيرها من العيوب المشهورة.

7ـ الحذق في إدراك مقتضى الحال، وملاحظة طوائف الناس من الأعلين والأوساط والأدنين؛ فيختار من الألفاظ ما يناسب كلّ طبقة.

8ـ المهارة في إثارة العواطف وتحريك أهواء النفوس؛ حتّى يجعل أزِمَّة الحب والبغض، والرغبة والنفور، والفرح والحزن، والرجاء واليأس، والشجاعة والخوف، والحمية والأنفة، والحلم والغضب، وغيرها من المشاعر في قبضة يده.

9ـ سعة الاطلاع؛ لأنّ الخطابة تتناول جميع الشؤون الدينية والدنيوية، ومسالك القول فيها متشعبة كمسالك الكتابة.

10ـ التجمّل في شارته وإشارته، وملابسه وهيأته، وحبّ النظام في كلّ ما يحيط بالخطبة.

الخطيب ومشكلات المجتمع

هناك مَن يرى أنّ العديد من المنابر أخذت تفقد جاذبيتها الجماهيرية التي كانت تحظى بها في السابق، والسبب يكمن في أنّ المنبر الحسيني ما زال يحافظ على الأُسلوب والنهج القديم، في الوقت الذي يُفترض به أن يواكب حركة العصر ومتطلبات التغيير التي تعيشها الأُمّة في الوقت الراهن، فما ينتظره الجمهور اليوم من رواد المنبر الحسيني يختلف كثيراً عمّا كان يطلبه الجمهور منهم بالأمس، فالحياة تعقدت، والأفكار تداخلت، ومتطلبات العصر تعددت؛ وعلى ذلك فالجمهور يطالب المنبر بمواكبة حركة الجيل المعاصر وهمومه وطموحاته، وألّا يقتصر على حالة الوعظ والإرشاد والتذكرة، وطرح الثقافة التاريخية لسيرة عظماء الإسلام وما جرى لأهل البيت(عليهم السلام) فحسب، بل لا بد من التطرّق إلى المشكلات التي تعصف بالمسلمين في عصرهم الراهن، ومن هذه المشكلات ما يلي[17]:

1ـ مشكلة الاستكبار العالمي وما يفرضه من تحديات في وجه مسيرة الأُمّة الإسلامية.

2ـ مشكلة الحضارة الغربية وما أفرزته من تغيرات كبيرة في أفكار المسلمين وعلاقاتهم.

3ـ مشكلة العمل الإسلامي وحالة الاختلاف بين العاملين.

4ـ مشكلة الوعي الإسلامي وطرح الإسلام الأصيل بثوب جديد.

5ـ مشكلة الالتقاط الفكري والتحجّر العقائدي الذي أصاب بعض المسلمين.

6ـ مشكلة التفكيك والانقسام والاختلاف بين الدول الإسلامية.

7ـ مشكلة الانحلال الخلقي في العالم وأثرها على العالم الإسلامي.

8ـ مشكلات الإنسان المسلم المعاصر ومعاناته الشخصية.

9ـ مشكلة الصحّة والرؤية الإسلامية من خلال ما أفرزته من أمراض وعلاجها.

10ـ مشكلات التحريف على مختلف المجالات الفكرية والعقائدية والفقهية والتاريخية.

أضف إلى ذلك مشكلات التكنلوجيا الحديثة وتأثيرها على المجتمع، كاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن تعاطي الكحول والمخدرات وما شاكل ذلك.

لذا؛ فمن المنطقي جداً أن يواكب الخطيب الحسيني حركة العصر ومتطلباته، ويضع النقاط على الحروف بطرحه مشكلات الواقع الحياتي، ووضع الحلول الناجحة والناجعة؛ حتّى يتمكن من التأثير جيداً في الجمهور، وكسبه لصالح عملية التغيير، ولكي لا يفشل الخطيب الحسيني في مواكبة حركة الأُمّة الصاعدة ـ ولا يتخلّف عن مسيرة ركبها ـ عليه مراعاة جملة من الأُمور التي يمكن تلخيصها على النحو الآتي[18]:

1ـ أن يتسلح دائماً بأُصول الثقافة الإسلامية العالية، من علوم اللغة، والفقه، والأُصول، والمنطق، والرجال، والفلسفة، والعقائد، والأخلاق، والتفسير.

2ـ أن يعكف على مواصلة دراسة التاريخ والسيرة والحديث والأدب، وربطها بالواقع الحياتي المعاصر.

3ـ أن يطّلع على الدراسات العلمية الحديثة، ولا سيما في مجال علم النفس والاجتماع والتربية؛ لأنها تُعين الخطيب على فهم الواقع الاجتماعي، وتشخيص حاجته، ومعالجة معاناته بشكل علمي صحيح.

4ـ أن يطَّلع على حركة الفكر المعاصر، وما وصلت إليه المكتبة الإسلامية من نتاج ضخم، وما نتج من مداخلات فكرية مضادة للثقافة الإسلامية؛ لكي ينبّه الأُمّة الإسلامية عليها.

الركن الثاني: الخطاب

إن القدرة على التكلّم وإن كانت ميزة طبيعية وإلهاماً تكوينياً، وهبة الخالق العظيم للإنسان دون الحيوان، لكنّ الخطابة فنٌّ يُكتسب ويؤخذ بالتعلم، يحث إليه الخطى أصحاب الذوق والاستعداد والرغبة؛ لبلوغ مراحل عُليا من الأدب والبلاغة وارتقاء منابر الخطابة، وثمّة أُمور ثلاثة تؤدي دوراً كبيراً في نجاح الخطاب، هي[19]:

1ـ شخصية المتحدّث ومكانته في أذهان الرأي العام، فكلما ازداد حبُّ المجتمع للمتحدّث ورغب إليه ازداد اهتمام الناس بحديثه وأعطوه أُذناً صاغية، وكان كلامه أكثر وقعاً وتأثيراً.

2ـ موضوع البحث المعلَن للمستمعين؛ إذ تزداد رغبة الجمهور للاستماع إلى ما يرونه مهمّاً في معالجة قضاياهم الدينيّة والسياسيّة، والاقتصادية والاجتماعية وأمثالها.

3ـ مهارة المتحدِّث في كيفية إلقاء الخطاب وتكوين الكلمات، فالناطق الماهر في التحدُّث يستطيع أن يُلقي بحثه بشكل جميل يستقطب ألباب مستمعيه ما استطاع؛ لذا يقول الرسول الأكرم(صلى الله عليه واله): «إنّ من البيان لسحراً، وإنّ من الشعر لحكمة»[20]، ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «رُبّ كلام أنفذ من سهام»[21].

إنّ معرفة الخطيب بمادة حديثه وشكل الإلقاء والأداء يمنح كلامَه نظماً وترتيباً، فلا يتشتت فكره، ولا يُفلت منه زمام حديثه؛ إذ يبدأ من حيث هو مطلوب، ويتوغل في البحث بمقدار ما يقتضي البحث، غير مبتعد عن هدفه، ويختتمه حيثما استلزم ذلك، ومن الأجدر بالخطيب أن يُعلِم الآخرين كما يعلم هو، ويُطلع المستمعين في بداية كلامه على موضوع بحثه مهما كان هذا الإعلان مقتضباً وقصيراً، ومع اختلاف معنويات المستمعين واستعدادهم لاستيعاب البحث ينطوي هذا الإعلان على فوائد عدة، فضلاً عن أنّ هذا الإعلان يحثّ المستمعين على الإصغاء والمتابعة والاندماج مع الخطيب، ما لم يخرج الخطيب عن موضوع حديثه وينطلق لتناول قضايا متفرقة أُخرى؛ لأنّ المتحدّث لو ابتعد عن الموضوع فسيترك المستمعون المجلس خارجين منه، أو أنّهم يتركون متابعته[22].

والواجب الأساسي الآخر للخطيب هو إقناع المستمعين، بمعنى كون المتحدّث قادراً مسيطراً على الموضوع الذي يتناوله بالبحث؛ ليستطيع إقناع المستمعين بصحّته وأصالته، ويجعلهم يسايرونه في الرأي والعقيدة؛ وذلك يستلزم وعي الخطيب قيمته العلميّة، فيختار موضوع البحث بما يناسب كفاءته وقدرته، فضلاً عن كون الخطيب بصيراً بالحقل الذي يريد أن يتناوله؛ ليصغي المستمعون إلى خطابه ويتلقوه بقبول حسن على أُسس الصلاحية العلمية والكفاءة المعرفية[23]، وهكذا كان الرسول(صلى الله عليه واله)، فقد تحدّث عنه القرآن قائلاً: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[24].

ويُعدّ الكلام عن علم وبصيرة والسكوت عن المبهم والمجهول حقاً من حقوق الله على العباد، فقد ورد: «عن أبان، عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) ما حق الله على العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون»[25]، وقال الله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[26]، وقد ورد عن السجاد(عليه السلام): «ليس لك أن تتكلّم بما شئت؛ لأنّ الله يقول: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). ولأنّ رسول الله(صلى الله عليه واله) قال: رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو صمت فسلم. وليس لك أن تسمع ما شئت؛ لأن الله(عز وجل) يقول:(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)»[27]. وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «إياك والكلام فيما لا تعرف طريقته ولا تعلم حقيقته؛ فإن قولك يدل على عقلك، وعبارتك تنبئ عن معرفتك»[28]. وعنه(عليه السلام) أيضاً: «دليل عقل الرجل قوله، دليل أصل المرء فعله»[29]، وكذا قوله(عليه السلام):«دع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لا تكلَّف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته»[30]. فالخطيب الذي يتناول موضوعاً على منبر الخطابة تنقصه فيه المعرفة والمعلومات الكافية، فإنّه يُلحق ضرراً بكلامه وشخصيته، ويضع نفسه في موضع المجابهة السلبية مع الآخرين، وينتج عن ذلك تضاؤل أهمية المتحدّث ووزنه واستصغار شأنه، فضلاً عن الإشارة إلى الخطيب بأصابع الاتهام[31]؛ لقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تقل ما لا تعلم فتُتَّهم بإخبارك بما تعلم»[32].

تناسب الخطاب مع المجتمع

ينبغي أن يراعي الخطيب ـ فضلاً عن مراعاة الناحية العلمية في كلمته وإلقائها عن وعي وبصيرة ـ مستوى إدراك المستمعين والتحدّث بما يلائمهم؛ لأنّ الهدف من الخطاب الديني هو إرشاد الناس، وهدايتهم إلى الطريق الحق، ودعوتهم إلى الإيمان والاعتقاد بتعاليم السماء، وأنّ الأقلية من الجمهور خاضت غمار العلم والدرس، في حين أنّ الغالبية المتبقية يعوزها العلم، أو أنّها أمسكت ببداياته فقط؛ لذا على الخطيب أن يعتني بالآتي[33]:

1ـ اختيار مادة البحث بما تتلاءم وشأن المجلس ومستوى الحاضرين، وإن لم يراعِ ذلك فسيقصّر في مادة البحث أو المستمعين. فعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «قام عيسى بن مريم(عليه السلام) خطيباً في بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل، لا تحدِّثوا الجهال بالحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلوهم »[34].

2ـ لا تعني ضرورة معرفة الخطيب الديني بموضوع البحث أن يطلق لنفسه العنان للكلام ـ في كلّ مجلس وأمام أيّ مستمع ـ بكل ما يعلمه وتعلّمه عن الموضوع؛ لأنّ هذا ينافي البلاغة وتقدير الموقف من جهة، وقد يؤدي إلى الضرر من جهة أُخرى.

فعلى الخطيب أن لا يضع مستواه العلمي معياراً ويتفوّه بما يعلمه، وقد ألمع الأئمة الطاهرون إلى ذلك، كما في قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم؛ فإن الله فرض على جوارحك فرائض يحتجُّ بها عليك يوم القيامة»[35]، وعنه(عليه السلام) أيضاً: «ينبغي أن يكون علم الرجل زائداً على نطقه، وعقله غالباً على لسانه»[36].

ولعلّ مهمّة الأنبياء(عليهم السلام) في تبليغ تعاليم الله تعالى اقترنت بمخاطبة الناس على قدر عقولهم لقول الرسول الأكرم(صلى الله عليه واله): «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نُكلّم الناس على قدر عقولهم»[37].

الشيخ الوائلي نموذج الخطابة الحسينية

يُعدّ الشيخ الدكتور أحمد الوائلي+ واحداً من أعلام الخطابة الحسينية، بل هو أمير المنبر الحسيني بلا منازع؛ لتميّزه بطريقته الخاصّة في عرض أفكاره؛ إذ إنّه «تأنّق ما استطاع أن يتأنق، وفي ذلك وسيلة للتأثير في نفوس سامعيه، فاستولت طريقته على قلوب معاصريه، وقلّدوه فيها، واتخذوه إماماً لهم، واستطاع أن يُعبّر عمّا يجول في نفسه من عواطف لمستمعيه، وأن يؤدي ما يحتاج إليه المنبر الحسيني من الثقافة الموسوعية العلمية»[38].

ومن الصعوبة بمكان تقييم الخطابة الناجحة ومعالجتها موضوعياً؛ لسببين هما[39]:

1ـ إنّ الخطابة تتصل بالعواطف والأذواق، وقلّما تكون عناصرها موضوعية.

2ـ إنّ الخطابة الحسينية يتفاعل معها جمهور عريض متنوّع في ثقافته وذوقه، ابتداءً من الأُميين وانتهاءً بحملة الشهادات العُليا والعلماء، فالخطيب الذي يُلقي خطابه أمام جمهوره يواجه أُناسيّ من مختلف الطبقات والمسالك، فقد يواجه أُناساً يعرفهم وآخرون لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولهؤلاء مشارب متنوعة وتقييم مختلف، فقد ينال خطيب إعجاب بعضهم؛ لعذوبة صوته وقدرته على بثّ الحزن في النفس ليس غير، وقد يُعجب بعضهم بإحاطة الخطيب بالتاريخ، وقد يُعجب بعضهم بأدبه، وقد يُعدّ بعض الجهلة الخطيب عظيماً؛ لأنه قال أشياء لا يعرفونها ولا يفهمونها.

وقد انماز الوائلي عن سابقيه بمميزات جعلته ينفرد بأُسلوب خاصّ في خطابة المنبر الحسيني، فأصبحت تُسمّى (مدرسة الوائلي في الخطابة)؛ وذلك لتوفّره على مواصفات نقل بها المنبر نُقلة نوعية مما كانت عليه سابقاً، ولعل أهمّ هذه المواصفات[40]:

1ـ التنوّع بأبعاد المعرفة المتأتي من عوامل عديدة، هي: الاستعداد الفطري، والمثابرة والصبر، وإيمانه العميق بالفكر الذي يدعو إليه، والبيئة الدينية التي نشأ فيها وهي مدينة النجف حاضرة العلم والعلماء، وذكاؤه وحافظته القويّة، ونظمه للشعر.

2ـ الجرأة والصراحة في القول من دون تطاول وسباب وشتم.

3ـ معرفة نفسيات السامعين والتأثير فيهم.

4ـ سمو خلقه.

5ـ قدرته على جعل الموضوع واحداً، ابتداءً من المقدمة ووصولاً إلى العرض وانتهاءً بالخاتمة، ومن مؤاخذات الوائلي على الخطباء الذين سبقوه أنّهم لم يلتزموا بوحدة الموضوع، وأنّهم كانوا يتطرّقون إلى مواضيع شتّى في الخطبة الواحدة، ويرى أنّ على الخطيب عرض موضوعه متسلسلاً؛ وهذا سيؤدي إلى تحقيق النتيجة المطلوبة، وهي إيصال الفكرة للجمهور بطريقة واضحة بعيداً عن اللف والدوران.

الخاتمة

بعد هذه الجولة البحثية أُسجّل مجموعة ملاحظات تمخضت من هذا البحث المتواضع أوجزها على النحو الآتي:

1ـ لا بدّ للخطيب الحسيني أن يكون صادقاً في أقواله وأفعاله؛ ليكون تأثيره في المجتمع كبيراً.

2ـ لا بدّ أن تكون في الخطبة ما يُسمى بالوحدة العضوية التي تتوافر من خلال وجود وحدة الموضوع ووحدة الجو النفسي؛ إذ لا بدّ من وجود ترابط بين المقدمة والعرض والخاتمة.

3ـ مراعاة المقام ضروري في الخطبة؛ فقد يُطيل الخطيب في خطبته فيمله الجمهور، لا سيما إذا كان المقام مجلس فاتحة والناس المعزون مستمرون بالدخول والخروج، فضلاً عن عصرنا الراهن، عصر السرعة في المأكل والمشرب والملبس وفي كل شيء.

4ـ انضمام الخطباء إلى مشروع ناجح تتبناه المرجعية الدينية المباركة خاصّ بالمنبر الحسيني؛ لكي يُبنى المجتمع بناء عقائدياً ناجحاً.

5ـ ضرورة تثقيف الخطيب الحسيني ثقافة متناسبة مع ثقافة العصر، بمعرفته بشؤون الحاسوب ومشكلات الحضارة المادية، ولا سيما ما يتعلق بمشكلات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن اطِّلاعه الواسع على مختلف العلوم.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم

1. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي، تحقيق: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة الوفاء،
بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية المصححة، 1403هـ/1983م.

2. البيان وفن الخطابة، محمّد تقي فلسفي، ترجمة: عباس حسين الأسدي، مؤسّسة البعثة، بيروت، الطبعة الثانية، 2006م .

3. تاريخ الأدب الإسلامي، عباس الترجمان، دار التبليغ الإسلامي.

4. تاريخ اليعقوبي، أحمد اليعقوبي، دار صادر، بيروت ـ لبنان.

5. ديوان أبي الأسود، الحسن السكري.

6. شعب الإيمان، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق : محمّد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1410هـ/1990م.

7. صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، أحمد بن علي القلقشندي، تحقيق: محمّد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.

8. العقل والجهل في الكتاب والسنة، محمّد الريشهري، تحقيق ونشر: دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1421هـ/2000م.

9. العلم والحكمة في الكتاب والسنة، محمّد الريشهري، تحقيق ونشر: مؤسّسة دار الحديث الثقافية، قم المقدّسة ـ ايران، الطبعة الأُولى.

10.العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسّسة دار الهجرة، الطبعة الثانية، 1410هـ.

11.عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمّد الليثي، تحقيق: الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، الطبعة الأُولى.

12.فنّ الخطابة وإعداد الخطيب، علي محفوظ، دار الاعتصام، دار النصر للطباعة الإسلامية.

13.الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الرابعة، 1365ش.

14.مجلّة رسالة الحسين، عامر الكفيشي، العدد7، السنة2.

15.مسائل علي بن جعفر، علي بن جعفر، تحقيق : مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المشرّفة، المؤتمر العالمي للإمام الرضا(عليه السلام)، مشهد المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1409هـ.

16.المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الرابعة، 2004م.

17.ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، تحقيق : دار الحديث، دار الحديث، الطبعة الأُولى.

18.نهج البلاغة (خطب الإمام علي)، تحقيق وشرح: الشيخ محمّد عبده، نشر: دار الذخائر، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1412 هـ/1370ش.

19.هداية الأُمّة إلى أحكام الأئمة، محمّد بن الحسن الحر العاملي، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد المقدّسة ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1414هـ.

20.ملف عن الدكتور الشيخ أحمد الوائلي، مجلّة الموسم: العدد2ـ3، مركز أهل البيت(عليهم السلام)، هولندا.

21.أُسلوب الوائلي في الخطابة، علي عبد الله الخطيب،مجلّة الموسم: العدد2ـ3، مركز أهل البيت(عليهم السلام)، هولندا.

[1] إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط: ص242-243.

[2] اُنظر: الترجمان، عباس، تاريخ الأدب الإسلامي: ص27، وص212.

[3] اُنظر: الكفيشي، عامر، مجلّة رسالة الحسين: العدد7، السنة2، ص210-211.

[4] اُنظر: فلسفي، محمّد تقي، البيان وفن الخطابة: ص 49-50.

[5] اليعقوبي، أحمد، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص210.

[6] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج75، ص280.

[7] الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص105.

[8] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج 34، ص218.

[9] الليثي، علي بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ: ص386.

[10] المصدر السابق: ص122.

[11] المصدر السابق: ص 124.

[12] الصف: آية2-3.

[13] البقرة: آية44.

[14] لم أعثر على قائله، إلّا أنّه ذُكر عن أبي عثمان الحيري الزاهد شعراً لا يختلف معه إلّا في قوله: «طبيب يداوي والطبيب مريض»، بدلاً من قوله: «طبيب يداوي الناس وهو عليل».اُنظر: البيهقي، أحمد ابن الحسين، شعب الإيمان: ج5، ص465.

[15] السكري، الحسن، ديوان أبي الأسود: ص404.

[16] اُنظر: علي محفوظ، فنّ الخطابة وإعداد الخطيب: ص41-44.

[17] اُنظر: الكفيشي، عامر، مجلّة رسالة الحسين، العدد7: ص212- 213.

[18] اُنظر: المصدر السابق: ص 214.

[19] اُنظر: فلسفي، محمّد تقي، البيان وفن الخطابة: ص27- 28.

[20] القلقشندي، أحمد بن علي، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء: ج15، ص570.

[21] الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة: ج3، ص2734.

[22] اُنظر: فلسفي، محمّد تقي، البيان وفن الخطابة: ص 29-30.

[23] اُنظر: المصدر السابق: ص31، وص41.

[24] يوسف: آية108

[25] الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج 1، ص43.

[26] الإسراء: آية36

[27] علي بن جعفر، مسائل علي بن جعفر: ص344.

[28] الريشهري، محمّد، العقل والجهل في الكتاب والسنة: ص118.

[29] المصدر السابق.

[30] الحر العاملي، محمّد بن الحسن، هداية الأُمّة إلى أحكام الأئمة: ج 8، ص385.

[31] اُنظر: فلسفي، محمّد تقي، البيان وفن الخطابة: ص42-43.

[32] الريشهري، محمّد، العلم والحكمة في الكتاب والسنة: ص390.

[33] اُنظر: فلسفي، محمّد تقي، البيان وفن الخطابة: ص44.

[34] الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج 1، ص42.

[35] خطب الإمام علي، نهج البلاغة: ج4، ص92.

[36] الريشهري، محمّد، العقل والجهل في الكتاب والسنة: ص162.

[37] الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص23.

[38] ملف عن الدكتور الشيخ أحمد الوائلي، مجلّة الموسم: العدد2-3:ص 511.

[39] اُنظر: المصدر السابق: ص511-512.

[40] اُنظر: الخطيب، علي عبد الله، أُسلوب الوائلي في الخطابة، مجلّة الموسم العدد2-3:ص549-560.

الخطابة الحسينية .. أسس وتطلعات الهدف الرسالي للمنبر الحسيني