مقدّمة

تحظى الخطابات الدينية باهتمام بالغ من لدن العلماء والمختصّين في حقول المعرفة الدينية؛ لما تمثّله من منظومة وحيانية تحمل طابعاً تقنينياً، تُنظّم حياة الإنسان على مستوى السلوك والتفكير والاعتقاد، تلك الخطابات التي وصلت إلينا في قوالب نصّية، دأب المتخصّصون على استنطاقها، والكشف عن مداليلها ومقاصدها، وذلك من خلال أدوات معرفية، ومناهج علمية تتناسب وطبيعة هذه النصوص، ومجال البحث فيها، وما عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه، وطريقة الكشف عن مداليل الآيات القرآنية التي يمارسها المفسّر، وعملية التحليل العقلي للنصوص الدينية التي يمارسها المتكلّم.. إلّا مظهر من مظاهر ذلك العمل الاستنطاقي.

نعم، إنّ التعاطي مع النصوص الدينية باعتبارها قانوناً إلهياً، يضعنا أمام مسؤولية كبيرة وخطيرة، تدعونا إلى الدقّة والحذر في استخدام المناهج المعرفية في إنتاج المعرفة الدينية، فإنّ غياب المنهج الصحيح يُبعدنا عن التفسيرات الموضوعية؛ الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى السقوط في منحدر القراءات النسبية، أو الدخول في متاهات القراءات الذاتية الخارجة عن قواعد البحث العلمي وأُصوله، وهذا نقيض الغرض الذي على أساسه صدرت تلك الخطابات.

وعلى هذا الأساس؛ نرى توسّع البحث ـ في الدراسات الدينية ـ عن المناهج العلمية والأدوات المعتبرة التي تمكّن الباحث المختصّ من الولوج في عملية فهم النصوص الدينية، حيث أصبح البحث فيها ضرورة تتطلّبها حركة الدين المستمرّة مع الأجيال المتلاحقة.

هذا على مستوى البحث والاستنباط، وأمّا على مستوى العرض والبيان، فإنّ هذه الوظيفة لا تقلّ أهمّية وخطورة عن الوظيفة الأُولى؛ إذ يمكننا عدّ الخطابة الدينية بشكل عام، والمنبر الحسيني بشكل خاص، إحدى الآليّات المتعارفة لإيصال الخطاب الديني إلى المجتمع.

وإذا أمعنا النظر في محيطنا الاجتماعي نرى أنّ هناك تحوّلاً ملحوظاً قد عمّ هذا المحيط جرّاء تغيير نمط التفكير والنظر إلى الواقع لدى طبقات المجتمع المتنوّعة، يتمثّل بالانفتاح العلمي والثقافي، ودخول تقنيات حديثة تُمكّن الفرد من الوصول إلى المعلومة من دون تعقيد؛ الأمر الذي يمكن أن يكون تحدّياً للخطابة الدينية في حال لم تُراعَ بعض العناصر الأساسية والمنهجية التي تدخل في بلورة ذلك الخطاب وتقويمه.

وفي هذا السياق يمكن أن يُفسح المجال للنقد البنّاء كي يأخذ طريقه إلى تقويم الخطاب الديني (المنبري) على أُسس علمية ومنهجية؛ وذلك لما يمثّله من دور في بثّ التعاليم الدينية، وتعزيز الأخلاق الإلهية في المجتمع الإسلامي وغيره، من أجل تحقيق الهدف الذي أُنشئت على إثره آلية ذلك الخطاب في تبليغ المعارف الدينية، وما يتعلّق بها من مجالات معرفية أُخرى.

فبعد أن أضحت الخطابة الحسينية مدرسة متنقّلة للفكر والمعرفة والقيم المتعالية، كان لا بدّ من وجود مناهج تُسيّر تلك العملية الخطابية بشكل علمي مدروس؛ فإنّ فقدان المنهج العلمي يؤدّي بدوره إلى حدوث إرباك وخلط على مستوى الفاهمة لدى المتلقّي أو المستمع، نتيجته ضياع الهدف الأسمى لهذه الوسيلة الخطابية التي تهدف إلى إيصال المعلومة إلى عموم أفراد المجتمع بكلّ أمانة ووضوح.

وعليه؛ يبقى الحديث عن ثنائية المنهج والخطاب الديني (على مستوى البحث والبيان) حديثاً يحمل الهمّ المعرفي لدى الخطيب الباحث، الذي يطمح إلى جعل الحياة الفكرية حياة يطغى عليها النموذج الواقعي للمعرفة الدينية، مخلّفاً وراء ظهره النموذج المعرفي الذي يحمل طابع السذاجة والغلو.

ومن أجل توضيح جدلية العلاقة بين المنهج والخطابة الدينية نعقد دراستنا هذه في عدّة مطالب، عسى أن نتمكّن من إبراز معلومة ما تصبّ في مصلحة تطوير عملية الخطابة الدينية، وصيرورتها عملية تنسجم مع قدسية القضايا الأوّلية الدينية التي ينطلق منها الخطيب لبلورة الفكر الديني وعرضه للمجتمع.

المطلب الأوّل: مسائل تمهيدية في المنهج

نحاول هنا أن نعرض بعض المسائل التي يمكن من خلالها إعطاء رؤية تصوّرية للقارئ الكريم عن ماهيّة المنهج، وتنوّعه وتكوينه في إطار العلوم الدينية.

1ـ ماهية المنهج

عند تتبّعنا لكلمات اللُّغويين نرى أنّ كلمة (المنهج) تدلّ بشكل عامّ على (الطريق الواضح البيّن)، قال الجوهري (ت393هـ): «النهج: الطريق الواضح، وكذلك المنهج والمنهاج، وأنهج الطريق، أي: استبان وصار نهجاً واضحاً بيّناً»[1]؛ ومنه جاء التعبير في الأوساط العلمية بـ(طُرُق البحث)، أو (طرائق البحث)، ويقصدون من ذلك: مناهج البحث.

وأمّا في الاصطلاح، فقد ذكر المتخصّصون تعريفات عديدة لمصطلح (المنهج)، لعلّ جميعها يصبّ في معنى واحد، ومن جملة ما ذُكر في تعريفه أنّه: «مجموعة من القواعد العامّة التي يعتمدها الباحث في تنظيم ما لديه من أفكار أو معلومات؛ من أجل أن توصله إلى النتيجة المطلوبة»[2].

ومنه يظهر أنّ المنهج هو الموجّه العملي للتفكير، والعاصم له من الخطأ في مجال استبيان الحقائق إذا ما تمّ تطبيقه بشكل صحيح؛ وعليه يمكن عدّه موجّهاً معيارياً لنشاط فكري تحكمه مجموعة قواعد خاصّة مقطوع بصحّتها، تتناسب والنموذج المعرفي المبحوث فيه، وهو بهذا الوصف يشبه إلى حدّ كبير الدور الذي يقوم به علم المنطق نسبةً إلى باقي العلوم.

ولأهمّية المنهج وازدهاره [نتيجة تطوّر العلوم وتوسّع نطاق البحث العلمي]، نشأ علم خاصّ أُطلِق عليه: علم المناهج (الميثودولوجيا: methodology)، وهو «العلم الباحث في الطرق المستخدمة في العلوم للوصول إلى الحقيقة»[3]، ولربّما تعود بداية استخدام هذا المصطلح إلى الفيلسوف الألماني (كانط).

2ـ تغيّر المنهج وتنوّعه في بُعده المصداقي

من المعلوم لدى الباحثين أنّ لكلّ علم من العلوم مادّة ومنهجاً، فالمادّة هي مجموع المسائل التي يتناولها الباحث، والتي تدور حول محور واحد يُسمّى موضوع العلم، أمّا المنهج فهو الطريق الذي يسلكه الباحث للوصول إلى حقيقة تلك المسائل، وهذا المفهوم من الصعب حصره في مصداق واحد يحمل صفة الإطلاق والثبات، ويدخل كعنصر وحيد في عملية إنتاج المعرفة الدينية، وما يُسمّى عادة في علم التفسير بـ(المنهج الكامل)، لا يعدو كونه عنواناً لمجموعة من المناهج تدخل جميعها في عملية إنتاج المعرفة الدينية، ولا يمثّل منهجاً عامّاً يحمل مفهوماً خاصّاً يدخل في بلورة جميع المناهج العلمية المطروحة على طاولة البحث.

نعم، ربّما تختلف نسبة حضور منهج عن منهج آخر في عملية الإنتاج المعرفي، وذلك بلحاظ الحيّز الذي يشغله كلّ منهج في ذلك الفضاء، فهناك بعض المناهج ربّما تتصدّر قائمة الإنتاج، إلّا أنّ ذلك لا يصيّرها طريقاً ومنهجاً مطلقاً وثابتاً، كما هو الحال في مسألة العقل، إذ ربّما يمكننا القول: إنّ العقل هو الحاكم على عملية الإنتاج المعرفي، والمهيمن على سير العملية البحثية، بما في ذلك المعرفة الدينية... لكنّ هذا القول ـ وإن كان صحيحاً في الجملة ـ يتخلّف بشكل واسع في جملة من القضايا الدينية، خصوصاً في الأحكام الشرعية الفرعية التي ينحسر فيها الحضور العقلي أمام التوقيف والتعبّد.

نعم، من خلال متابعة أبحاث المنهج نرى أنّ هناك مشكلة ما شغلت أفكار الباحثين عند تصنيفهم طرائق البحث في العلوم الإنسانية، حيث ذهبت جملة من الدراسات إلى أنّ الأدوات المستعملة في فهم العلوم الإنسانية لا تعدو كونها طرائق أو أساليب مختلفة «لتطبيق قواعد منهج واحد ثابت مطلق»[4]، ألا وهو (منهج الفهم الكيفي)[5]؛ وعلى أساس ذلك رُفع في أروقة البحث العلمي شعارٌ مفاده: منهجٌ واحد للعلوم الإنسانية وطرائق بحث متعدّدة.

ولعلّ الدقة في هذا البحث توصلنا إلى أنّ النزاع حول وحدة المنهج وتعدّد الأساليب ـ في العلوم الإنسانية والدينية ـ لا يعدو كونه نزاعاً لفظياً.

وخلاصة القول: إنّ الفهم الذي يُسيّر المنهج العام للعلوم الإنسانية لا يصطبغ بصبغة المنهج المصطلح، فعملية الفهم هي مرحلة تتوسّط المنهج والتفسير، فمن خلال المنهج نصل إلى الفهم، ومن ثمّ نمارس عملية التفسير والتركيب.

3ـ أزمة تكوين المنهج في العلوم الدينية

ارتبط المنهج بحياة الإنسان منذ القدم، فكان البحث عن أدوات وطرق يحلّ بها مشاكله جزءاً من نشاطه وحركته، سواء المادّية منها، أم المعنوية، أم الفكرية، وقد برزت القضايا العقلية الفطرية (الأوّلية) كمنهج أساسي للوصول إلى حقائق مجهولة، حتّى تبلور بعد مدّة من الزمن الفكر المنطقي في اليونان القديمة، وصار المنطق منهجاً وطريقاً للمعرفة، «بحيث لم يعد هناك فرق بين المنهج والمنطق»[6].

إلى أن جاءت النهضة الأوروبية الحديثة، فتجلّت حينها بشكل مدرسي أبحاث المنهج، فكان أوّل مَن كتب عن المناهج العلمية في أُوروبا المعاصرة (فرنسيس بيكون) سنة (1620م)، حيث كتب (قواعد المنهج)، وكان من أبرز الذين أكّدوا المنهج الاستقرائي في البحث العلمي، تبعه الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) سنة (1637م) الذي ركّز على المنهج الاستدلالي، وقد تضمّن كتابه (مقال في المنهج) إسهاماته في هذا المجال[7]، ثمّ توالت البحوث والكتب في هذا الميدان.

أمّا فيما يتّصل بمناهج المعرفة الدينية في الحضارة الإسلامية، فقد ارتبطت هذه المناهج ارتباطاً وثيقاً بعملية تفسير النصّ الديني، وقد نشأت هذه العملية في الصدر الأوّل للإسلام بالاعتماد على بيانات الرسول الأكرم(صلى الله عليه واله)، إلّا أنّ الوضع قد اختلف تماماً بعد رحيله(صلى الله عليه واله)، وما أعقبه من حوادث سياسية وفكرية واجتماعية، تغيّر على إثرها وجه الدولة الإسلامية، ومُنِع تدوين الحديث بحجج غير مبرّرة.

وفي تلك المرحلة برز جمعٌ من الصحابة كمفسّرين للنصّ القرآني، فخاضوا في بيان المسائل الأدبية وما يتعلّق بشأن النزول، مقلّلين من استخدامهم الروايات النبوية في مجال تفسير النصّ القرآني[8]، ثمّ استمرّ هذا النهج من لدن التابعين أيضاً مع توسعةٍ للمنهج الروائي، حيث نرى وجود إفراط في استخدام الرواية في التفسير، حتّى استُخدِمَت بعض المنقولات الضعيفة والإسرائيليات.

في أواخر انهيار الدولة الأُموية وبداية الخلافة العباسية، دخلت الفلسفة اليونانية على نطاق واسع إلى الساحة الإسلامية، وذلك من خلال ترجمة الآثار اليونانية إلى العربية، حتّى انتشرت المباحث الفلسفية والعقلية في الأوساط الإسلامية، فبرز حينها المنهج العقلي بشكل واضح.

وتزامناً مع البحث الفلسفي ظهر مسلكٌ جديد يتعاطى مع النصّ الديني من خلال الرياضة الروحية، من دون أن يتوجّه إلى المسائل العقلية والنقلية، ألا وهو مسلك الكشف والشهود القلبي، هذا في الوقت الذي كانت هناك مجموعة تؤمن بالظهور اللفظي كمنهج أساسي للتعاطي مع النصّ الديني، ولا تسمح للعقل بالدخول في تلك الساحة المقدّسة.

وقد برزت مشكلة المنهج بشكل أساسي ومدرسي في الخلاف الذي نشب بين الأشاعرة والمعتزلة، حيث خالف الأشاعرةُ المعتزلةَ في مسألة تعارض العقل مع ظواهر النصوص الدينية، فقد آمن المعتزلة بحكومة العقل وإن أدّت إلى التأويل، بينما آمن الأشاعرة بحكومة النقل وإن آلت إلى التشبيه[9]، فقدّموا على إثرها ظواهر النصوص على المدركات العقلية، خصوصاً فيما يتعلّق بمبحث الصفات الخبرية، كما أنكروا ـ أيضاً ـ الحُسن والقُبح العقليين، سالكين في ذلك مسلك الحنابلة ومن حذا حذوهم.

ومن خلال هذا التغيّر والتحوّل حاول كلّ اتجاه أن يتّخذ لنفسه منهجاً فكرياً خاصّاً يُفسّر من خلاله النصّ الديني، فقسمٌ انطلق من ظاهر النصّ لتفسير النصّ، وقسمٌ تحرّك في ضوء معطيات الأحكام العقلية، وقسمٌ جعل المسائل العرفانية والتصوّف مسلكاً إلى ذلك، وهكذا الأمر الذي أدّى إلى تنوّع مناهج المعرفة الدينية إلى يومنا هذا، وقد دخلت بعض المناهج العلمية أيضاً في عملية تفسير النصوص الدينية، وذلك فيما يتّصل بالقضايا العلمية التي طُرحت في تلك النصوص، حتّى انبرى لدينا في مجال التفسير ما يُعرف بـ(منهج التفسير العلمي).

المطلب الثاني: الخطابة الدينية.. رؤية تصوّرية

1ـ تعريف الخطابة الدينية

الخطابة لغةً: مصدر من الفعل خَطَب يخطِب خُطبة وخَطابة، «وخطب الخاطب على المنبر خطابة (بالفتح)، وخطبة (بالضم)، وذلك الكلام: خطبة أيضاً، أو هي الكلام المنثور المسجّع ونحوه»[10].

وأمّا اصطلاحاً، فقد تمّ تعريفها على لسان المناطقة وغيرهم بتعريفات متقاربة، فهي إمّا أن يُراد منها: عملية الإلقاء نفسها، أو يُراد منها: الكلام المُلقى؛ وعليه ورد في تعريفها أنّها: «قوّة تتكلّف الإقناع الممكن»[11]، وورد أيضاً أنّها: «كلام منثور مؤلّف يخاطِب به الفرد الجماعة قصد الإقناع»[12]، فالتعريف الأوّل يُشير إلى عملية الإلقاء، بينما الثاني يُشير إلى ذات الكلام والخطاب.

ولأهمّية هذه الصناعة ودورها في إقناع الجماهير والتأثير في نفوسهم؛ برز علم خاصّ بالخطابة يتكفّل ببيان قواعد الإقناع وطرق التأثير[13].

ثمّ إنّ الخطابة بشكل عام تُقسّم بلحاظ الموضوع إلى أقسام متنوّعة، منها: الخطابة السياسية، والقضائية، والعسكرية، والعلمية، والدينية... وتُسمّى الخطابة الدينية بالوعظية أيضاً؛ وذلك دفعاً لإشكالية مفادها: أنّ المفاهيم الدينية واسعة جدّاً، بلحاظ أنّ الإسلام دين شامل لكلّ جوانب الحياة البشرية، الاجتماعية منها والسياسية والقضائية والعسكرية وغيرها، وهذا ما يؤدّي إلى حدوث إرباك في جعل الخطابة الدينية جزءاً من الخطابة العامّة.

ولكنّه يمكننا الإجابة عن هذه الإشكالية: بأنّ المراد بالموضوعات الدينية هو ذلك المعنى المرتكز عند العموم من كون الخطاب الديني هو ذلك الخطاب الذي يرتسم في أبعاد ثلاثة: (البعد الفقهي)، و(البعد العقدي)، و(البعد الأخلاقي)، وإن كان هناك بعض الموضوعات في العلوم الإنسانية ترتبط بشكل وآخر بالمسائل الدينية ارتباطاً وثيقاً؛ الأمر الذي جعل البعض يفكّر بالعمل على تطوير موضوعة (العلم الديني) وما يرتبط بها من فروع، من قبيل: علم النفس الديني، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الاقتصاد الديني... وهكذا.

2ـ مواد أقيسة الخطابة

يرتبط الحديث عن أقيسة الخطابة الدينية بالمنهج ارتباطاً وثيقاً، ولعلّ منهج الاستدلال العقلي هو الأكثر مساساً بهذا الموضوع، ومن خلال البحث في أقيسة الخطابة سيتّضح لنا مكانة المنهج الاستدلالي في العملية الخطابية.

فقد ذُكر أنّ الهدف من وضع القواعد المنطقية هو الوصول إلى التصديق، «فإن أوقع التصديق يقيناً فهو البرهان، وإن أوقع ظنّاً أو محمولاً على الصدق فهو الخطابة... فالأوّل يتّجه إلى اليقين، والثانية تتّجه إلى الأقيسة الظنّية»[14].

ولعلّ هذه الرؤية منشؤها القول: بأنّ الكلام في الخطابة موجّه إلى جمهور المخاطبين، والجمهور لا يتفاعل مع البراهين العقلية، ولا يتوجّه إليها، كما لا يخضع للطرق الجدلية؛ وذلك بحكم الوجود العاطفي الذي يتغلّب في داخله على التفكّر والتعقّل، بل ليس لديه الصبر على محاكمة الأدلّة والبراهين؛ لما فيها من تأمّل وتدقيق.

ومن هذا المنطلق يقول الشيخ المظفّر: «وعليه؛ فيحتاج مَن يريد التأثير على الجماهير في إقناعهم أن يسلك مسلكاً آخر غير مسلك البرهان والجدل... فإنّ الذي يبدو أنّ الطرق العقلية عاجزة عن التأثير على عقائد الناس وتحويلها؛ لعجزها عن التأثير على عواطفهم المتحكّمة فيهم... فيجب أن تكون المخاطبة التي يتلقّاها الجمهور والعامّي وشبهه من نوع لا تكون مرتفعة ارتفاعاً بعيداً عن درجة مثله»[15].

وعلى أساس ذلك؛ ذهبوا إلى أنّ موادّ الخطابة التي تتألف منها الحجّة الإقناعية، تتشكّل من المظنونات أو المقبولات أو المشهورات الظاهرية، كما أنّ القياس المستعمل في الخطابة لا يجب فيه أن يكون يقينياً من ناحية تأليفه وصورته، «أي: لا يجب أن يكون حافظاً لجميع شرائط الإنتاج، بل يكفي أن يكون تأليفه منتجاً بحسب الظنّ الغالب، وإن لم يكن منتجاً دائماً، كما لو تألّف القياس مثلاً على نحو الشكل الثاني من موجبتين... مع أنّ الشكل الثاني من شروطه اختلاف المقدّمتين بالكيف»[16].

وعليه؛ يمكننا تقسيم القياس إلى قسمين أساسيين[17]:

1ـ قياس منطقي مقدّماته علمية ونتيجته حتمية لازمة.

2ـ قياس خطابي مقدّماته ظنّية ونتيجته ليست لازمة.

وطبقاً للرؤية المتقدّمة، فإنّ الخطابة تقوم على القياس الظنّي، ولا تحمل بين طيّاتها صرامة البرهان وحتميّته.

وقد أنكر البعض على المناطقة هذا التقيد، أي: كون الأقيسة في الخطابة لا تعتمد إلّا على الظنّ، فقد ذكر أبو زهرة أنّ «الخطابة ـ في الحقيقة ـ قد تستمد قوّتها من العناصر الثلاثة [اليقين والظنّ والخيال]... قد يعمد الخطيب إلى المنطق وأقيسته اليقينية، ويقتصر على ذلك إذا كان يخاطب أقواماً قد غلب على حياتهم الفكر والعقل... وقد يعمد إلى الظنّيات، وأقوال مَن عُرفوا بالحكمة، إذا كان مَن يخاطبهم ممّن يُقدّسون أُولئك الذين نقل عنهم، وقد يُضيف إلى الظنّيات صوراً كلامية، تثير الخيال، وتفعل في النفس ما يفعله الشعر، ومن الخُطب ما تجتمع فيها تلك العناصر الثلاثة، فتبلغ القمّة من التأثير والروعة والجودة»[18].

وقد أكّد قبل ذلك أهمّية البرهان والاستدلال العقلي بقوله: «بل كثيراً ما تعتمد على أقوى الأدلّة إلزاماً، وأشدّها قطعاً في الاستدلال، ومن أبلغ الخطب ما جُمّلت حقائقها بأقيسة المنطق وبراهينه، إذ يجتمع فيها دقّة المنطق بجمال الأُسلوب»[19].

وتعليقاً على ما تقدّم نرى أنّ الأجواء المحيطة بالخطابة، والواقع الخارجي الذي يعيشه مجتمع الخطاب، يُحتّم أحياناً استخدام القياس البرهاني في التفهيم والإرشاد، خصوصاً إذا كان المخاطب من نوع خاص، الأمر الذي يستدعي الاطلاع الكافي على شرائط المنهج الاستدلالي ومبادئه العامّة.

المطلب الثالث: المجالات الأساسية للخطابة الدينية

لأوّل وهلة ربّما يتبادر إلى الأذهان تساؤل يبحث عن حقيقة العلاقة بين المنهج والعملية الخطابية، ولعلّ هذا التساؤل منشؤه أنّ العملية الخطابية تختلف في طبيعتها عن البحث العلمي، إذ المرتكز في أذهان العموم أنّ وظيفة الخطيب هي عرض المعلومات بقالب فنّي خاص، وعملية العرض هذه هي مرحلة متأخّرة عن الفهم والتفسير، وما دور الخطيب إلّا أخذ المعلومة الممنهجة جاهزةً وصياغتها بطريقة خطابية وعرضها على الجمهور، وهذا لا يُحتاج معه إلى منهج بعينه.

وفي معرض إجابتنا عن هذا التساؤل نقول: إنّ النسبة بين الخطيب والباحث يمكن تصوّرها على ثلاثة أشكال:

1ـ نسبة التباين.

2ـ نسبة العموم والخصوص من وجه.

3ـ نسبة العموم والخصوص المطلق.

ولعلّ الإشكالية السابقة ناشئة من الارتكاز الحاصل من أنّ النسبة بين الخطيب والباحث هي نسبة التباين، لكنّ الحقيقة تقضي بأنّ هذه النسبة هي خلاف ما هو كائن، فإنّ النسبة الواقعية التي يمكن أن نضعها بين الخطيب والباحث ـ طبقاً للاستقراء والملاحظة ـ هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك جهة اشتراك بينهما نسعى إلى إبرازها في هذه الدراسة، والعمل على تفعيلها في مجال الخطابة الدينية.

نعم، إنّ الطموح الذي نتطلّع إليه فيما ينبغي أن تكون عليه الخطابة الدينية هي نسبة العموم والخصوص المطلق؛ إذ لا مفرّ من البحث العلمي لكلّ خطيب رسالي واعٍ، يهدف إلى إيصال رسالته إلى الجمهور بكلّ أمانة ودقة علمية، وقد أثبتت التجربة أنّ الخطاب العلمي الذي يستند إلى منهج قويم يُعدّ خطاباً رائداً في الأوساط العلمية والبحثية.

وبما أنّ الخطابة تُعدّ من الفنون غير المنضبطة بموضوع محدّد، إذ تتحرّك في فضاءات متعدّدة، ومجالات متنوّعة، يُحتّم على الخطيب أن يُجهد نفسه في الاطلاع على تلك المجالات؛ ليتمكّن من معالجة الأفكار المتنوّعة والمختلفة، وعليه تتّضح أهمّية المنهج في عملية الخطاب من خلال المجالات المعرفية التي تُطرق في العملية الخطابية، إذ لا تخلو هذه المجالات من العمل المنهجي الذي يمارسه المتخصّصون في عملية الإنتاج المعرفي، ومن جملتها:

1ـ المجال القرآني

ويمثّل هذا المجال جوهر الخطابة الدينية[20]، حيث يكشف النصّ القرآني حقائق وعلوم متعدّدة، وذلك في إطار المنهج العامّ الذي اعتمده القرآن الكريم لهداية الإنسان وتوجيهه نحو طريق الكمال.

إنّ التعاطي مع النصّ القرآني وتفسيره يضعنا أمام مسؤولية خطيرة، تحتّم علينا توخّي الحيطة والحذر من الوقوع في وحل التفسير بالرأي المذموم شرعاً وعقلاً؛ ومنه تظهر أهمّية التركيز على دراسة المناهج التفسيرية، وتمحيصها جيّداً، وفرز المناهج المعتبرة عن غيرها، حتّى أضحى علم المناهج التفسيرية من أساسيات البحث العلمي في حقل التفسير وعلوم القرآن.

2ـ المجال الفكري

وأكثر ما يتمثّل هذا المجال بعلم الكلام وفلسفة الدين، حيث يتجلّى المنهج العقلي كقاعدة أساسية ينطلق منها المتخصّص في مجال الفكر والعقيدة لتحليل القضايا الكلامية وإثباتها، ولا يمكن إنكار أثر النصّ أيضاً في بلورة القضايا الفكرية، شريطة عدم الوقوع في محذور الدور الباطل، كالبحث في المسائل الكلامية الفرعية، ومن هنا تبرز أهمّية المنهج الروائي أيضاً ـ على مستوى الرواية والتاريخ ـ في معالجة تلك القضايا وبلورتها.

3ـ المجال الفقهي

ممّا يؤسف له أنّ الأحكام الشرعية لم تأخذ نصيبها الأوفر في مجال الخطابة الدينية؛ الأمر الذي يُحتّم على الخطباء والمبلّغين العمل على إيجاد منهجية خطابية يأخذ فيها الفقه دوره الأساسي كموجّه للمكلّف على مستوى العبادات والمعاملات.

ومن المعلوم أنّ الخطابات الشرعية تجلّت في مصدرين أساسيين، هما: القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، إلّا أنّ السنّة الشريفة قد أخذت حيّزاً كبيراً من الفضاء الفقهي؛ لاشتمالها على تفاصيل دقيقة وجزئية لكثير من العناوين الفقهية.

ومنه تظهر أهمّية المنهج الروائي في معالجة ما وصل إلينا عن طريق المعصوم(عليه السلام) بخبر الآحاد، ذلك المنهج الذي يضعنا أمام مقدّمات عدّة يتقاسمها عِلما الأُصول والرجال، كما سيتّضح لاحقاً .

4ـ المجال الأخلاقي

في نظرة عامّة إلى آراء فلاسفة الأخلاق نرى أنّ بعضهم قد أضفى على الأخلاق طابعاً عقلياً[21]، وأقرّ بوجود قيم موضوعية مطلقة، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولا تتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال[22]؛ وعلى هذا الأساس صُنّف علم الأخلاق بأنّه علم معياري، وأنّ للقيم وجودها الذاتي، حيث تفرض نفسها على الوجدان البشري بطريقة أوّلية، «أمّا عجز بعض الأفراد عن إدراك القيم أو التمييز بينها، إنّما هو (العمى الخُلقي) الذي قد يرجع إلى انعدام النضج، أو نقص التربية لديهم»[23].

وطبقاً لهذه الرؤية فإنّ الأخلاق تصبح تشريعاً وقانوناً فطرياً، وتضطلع بمهمّة التوجيه الذاتي للإنسان، ولعلّ ذلك بحكم ما أودعه الله تبارك وتعالى في النفس الإنسانية من مبادئ وحقائق أساسية ترتبط بحكمته تعالى، (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)[24]؛ وعلى هذا المعنى يتّضح أنّ المسلك العقلي في تفسير الأفعال الأخلاقية ينتهي طريقه إلى الحكمة الإلهية في موضوع الأخلاق، وما جاء على لسان النقل في خصوص الأفعال الأخلاقية يُعدّ تثويراً لدفائن العقول التي حجبتها بعض الرواسب المادّية والمعنوية.

وفي مقابل ذلك الثبات عمّت النظريات الوضعية والنسبية مجال الأخلاق، حيث أخضعت الفعل الأخلاقي إلى العادات المتغيّرة عند كلّ قوم، وفي كلّ عصر؛ ومنه برزت «مدرسة من علماء الاجتماع في فرنسا قد اتجهت بالأخلاق في نهاية القرن الغابر ومطلع القرن الراهن اتجاهاً اجتماعياً، صوّرت فيه علم الأخلاق فرعاً من علم الاجتماع، موضوعاً ومنهجاً»[25]؛ وعلى هذا الأساس انبرت مشكلة أساسية في تشخيص الحقيقة، وتثبيت الحقوق العامّة، والالتزام بقانون أخلاقي موحّد.

ولعلّ الاتجاه العقلي في هذا البحث يبرّز لنا مكانة العقل ومنزلته كمنهج أساسي في تثبيت الأفعال الأخلاقية، وجعلها معايير قيمية.

زيادة على ذلك، فإنّ الذي يجعل المسألة الأخلاقية مورد اهتمام بالغ لدى الخطباء الدينيين، أنّ الفعل الأخلاقي قد أُطّر أيضاً بإطار فقهي وحقوقي، فالمفاهيم من قبيل: الصدق والكذب، والوفاء والخيانة، وحفظ الأمانة وأدائها... وغيرها الكثير، في الوقت الذي تُحاكي فيه الفطرة الإنسانية تخضع كذلك إلى التقويم الشرعي الذي يضعها في قالب الأحكام التكليفية، بل هناك مفاهيم أخلاقية قد صُهرت بالفكر والعقيدة أيضاً، من قبيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المظلوم، وإقامة العدل، ومحاربة الظلم، وغيرها من المفاهيم.

وهنا تكمن أهمّية الخطابة الدينية التي تُصيّر الأبحاث العلمية والنظرية في الأخلاق واقعاً معاشاً، يتحرّك في فضائه الإنسان، ويجسّد بعمله تلك المدركات القيمية التي تأخذ بالإنسان إلى طريق السعادة والكمال.

5ـ المجال التاريخي

تمثّل النصوص التاريخية ـ عند البعض ـ المادّة الأكثر انصياعاً وانسيابية قياساً بالنصوص الدينية، وذلك لخلوّها من عامل القداسة الذي يفرض على الخطيب أو الباحث إعمال الدقّة والنظر في قراءة هذه النصوص، والكشف عن مقاصدها؛ ومنه نرى غياب المنهجية العلمية في بعض الخطب الدينية عند عرض الأحداث التاريخية، وكأنّ دراسة التاريخ وقراءته لا تشملها فكرة المناهج البحثية، والمعايير العلمية، والقواعد الأساسية لفهم التاريخ ومعالجة نصوصه.

إلّا أنّ التجربة البحثية والواقع المعرفي يحتّم علينا القول: بأنّ هذه النظرة تفتقر إلى المصداقية، فعلى الخطيب البارع أن ينزّل نفسه منزلة الباحث الحثيث الذي يسعى بكلّ جهد إلى استنطاق النصّ التاريخي، واستنباط الحقائق التاريخية من خلاله، واستنتاج الأسباب التي أدّت إلى حدوث الواقعة، بالاعتماد على آليّات المنهج التاريخي الصحيح.

وبما أنّ الوقائع التاريخية بعامّة، والقضية الحسينية بخاصّة، تُعدّ جزءاً أساسياً من منظومة الخطابة الدينية، فلا بدّ للخطيب أن يعرض هذه الوقائع بكل موضوعية ودقّة، وهذا لا يتأتّى ما لم يخضع الطرح إلى منهج تاريخي يمكّنه من معالجة الأحداث أو الخطابات الحسينية بكلّ مصداقية ووضوح.

المطلب الرابع: المناهج الأساسية للخطابة الدينية

اتّضح سابقاً أنّ الخطابة الدينية هي عملية يمارس فيها الخطيب عرض جملة من الأفكار المتّصلة بمجالات معرفية متعدّدة؛ الأمر الذي يقضي بدخول مناهج علمية مختلفة يتمّ من خلالها بلورة ذلك الخطاب، ومن خلال استقراء المناهج المتّبعة في التعامل مع النصّ، نذكر هنا بعضاً من تلك المناهج:

1ـ منهج تفسير القرآن بالقرآن

إذا كان التفسير هو الكشف عن معاني النصّ القرآني ومداليله، فإنّه في ضوء هذا المنهج يكون النصّ القرآني ـ مورد البحث ـ منكشَفاً ومفسَّراً بنصّ قرآنيّ آخر.

يُعدّ هذا المنهج هو الأساس الذي يقوم عليه أُسلوب التفسير الموضوعي؛ وذلك لعدم إمكان استخلاص أيّ نتائج بهذا الأُسلوب دون التزوّد من هذا المنهج.

وقد ذكر العلّامة الطباطبائي في تفسيره الميزان: أنّ إحدى الطرق التي يتمّ من خلالها فهم حقائق القرآن، وتشخيص مقاصده العالية: «أن نفسِّر القرآن بالقرآن، ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخّص المصاديق، ونتعرّفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)[26] الآية، وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه»[27].

وقال في موضع آخر: «فلا يكفي ما يتحصّل من آية واحدة بإعمال القواعد المقرّرة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها، دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها، ويجتهد في التدبّر فيها، كما يظهر من قوله تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)[28]»[29].

إنّ استخدام الأُسلوب الموضوعي في التفسير في الخطابة الدينية ـ بالاستعانة بهذا المنهج القرآني ـ شيء لا بدّ منه؛ وذلك لما فيه من توظيف معرفي وتربوي للمفاهيم القرآنية في مجتمعاتنا الإنسانية، لتتعرّف بشكل مدرسي على المعارف القيّمة التي يلهج بها كتابها المقدّس.

2ـ المنهج الروائي

المنهج الروائي أكثر ما اقترن بعملية استنباط الأحكام الشرعية، وكذلك بالأُسلوب التجزيئي في تفسير القرآن الكريم، الأُسلوب الذي هيمن على الساحة التفسيرية طيلة القرون الثلاثة الأُولى من الهجرة؛ ولعلّ من أسباب تلك الهيمنة بروز النزعة الأخبارية آنذاك.

وقد وقع الكلام في الأوساط العلمية أنّ التفسير الروائي هل هو تفسير اصطلاحي، أم هو مجرّد شعبة من شُعب الحديث؟

والذي ينبغي بيانه أنّ سرد الروايات التفسيرية أو الفقهية لا يُعدّ منهجاً بحدّ ذاته ما لم نضف إليه الخطوات المعتمدة في تمحيص تلك الروايات، وإثبات اعتبارها وحجّيتها ومداليلها، فمجرّد سوق الروايات في ذيل الآيات القرآنية لا يُصيّرنا مُفسّرين، كما أنّ سوق الروايات الفقهية لا يجعل منّا فقهاء ومجتهدين.

ويمكننا أن نُجمل خطوات المنهج الروائي بما يلي:

الخطوة الأُولى: جمع النصوص المتعلّقة بموضوع البحث من مصادرها الأصلية، واستقراؤها استقراءً تامّاً.

الخطوة الثانية: التأكّد من صحّة صدور النصّ، فليس كلّ خبر ادُّعي وروده عن المعصوم يكون حجّة، «وإنّما الحجّة هو خصوص خبر الثقة أو الحسن[30]، ومن الظاهر أنّ تشخيص ذلك لا يكون إلّا بمراجعة علم الرجال، ومعرفة أحوالهم، وتمييز الثقة والحسن عن الضعيف»[31].

الخطوة الثالثة: التحقّق من سلامة النصّ، أي: من كونه محرّفاً أو مصحّفاً، وهذا ما يستلزم مراجعة جميع النسخ المعتمدة لتشخيص النصّ الأصلي.

الخطوة الرابعة: فهم مدلول النصّ، وهو ما يتحقّق من خلال مرحلتين أساسيتين:

الأُولى: تفسير ظاهر النصّ ومعرفة المعنى الحرفي له (الدلالة الوضعية).

الثانية: إدراك المعنى الحقيقي للنصّ، ومعرفة المراد الجدّي (الدلالة الاستعمالية).

فالمرحلة الأُولى تحتاج إلى اطّلاع كافٍ على علوم اللّغة، مع التركيز على أنّ الكلمة الواحدة داخل النصّ ينبغي أن لا تُفسّر بمعزل عن السياق العام لذلك النصّ.

وأمّا المرحلة الثانية فتحتاج إلى معرفة قواعد الفهم العرفي المتعارف عند العقلاء في أقوالهم ومحاوراتهم؛ الأمر الذي يدعو إلى استنطاق المعنى الحقيقي الذي يهدف إليه صاحب النصّ.

ومن المعلوم عدم وجود تلازم مطلق بين مدلول اللفظ ومراد المتكلّم، بل ربّما يختلف المراد عن المدلول اللُّغوي للكلام؛ الأمر الذي يتطلّب معرفة: المجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلميح، والتعريض، والكناية، ومتابعة القرائن المقالية والمقامية، والمرتكزات العرفية، والتقاليد الاجتماعية، والسياقات الكلامية، وغيرها.

ومنه تظهر أهمّية معرفة العلوم التي تشتمل على القواعد العامّة لعملية فهم النصوص الدينية، وعلى رأسها: علم الأُصول، وعلم فقه الحديث.

3ـ المنهج اللُّغوي

ينتهي علم اللّغة في أهدافه إلى أنّه علم بيان المعنى، يقوم على أساس التحليل البنيوي لمعنى التراكيب اللفظية بتحديد النسبة بين المفردات والتراكيب، والعلاقة بينها؛ وعليه فقد اعتمد بعض المفسّرين المنهج اللُّغوي لتحليل المعاني القرآنية، ومعرفة دلالة الألفاظ من خلال تحديد موقعها الإعرابي، منطلقين من أنّ الإعراب في حقيقته تابعٌ للمعنى. وقد أثّر في هذا الجانب هوى المتخصّصين، ورغبة العلماء الباحثين، فشكّلوا بذلك مدرسة خاصّة بهم، تميّزت أبعادها في البحث عن لغة القرآن، ومجاز القرآن، وغريب القرآن، ومعاني القرآن، ومفردات القرآن[32].

فالمفسّر في ضوء هذا المنهج يقوم أوّلاً وقبل كلّ شيء بإظهار معاني اللّغة في استعمالات متماثلة، فيشرح النصّ شرحاً لُغوياً، ثمّ يخوض في جوانبه المتعدّدة من مفرداته ومجازه وغريبه، ويهتمّ بتطوّر اللّغة العربية في مراحلها التاريخية[33].

زيادة على ذلك، فإنّ المنهج التاريخي في قراءة اللّغة يُعدّ أيضاً عنصراً أساسياً للوقوف على معاني ألفاظ النصّ الديني في زمن النزول، ومعرفة المجازات البلاغية، والتراكيب النحوية، والقواعد الصرفية، التي تدخل في بلورة معنى النصّ ودلالاته.

4ـ المنهج العقلي الاستدلالي

إنّ إمكان الاعتماد على نتائج الاستدلالات العقلية في مجال المعرفة الدينية، يُعدّ من المباحث الأساسية التي وقع النزاع فيها كثيراً بين الاتجاهات الفكرية الإسلامية، حيث تفاوتت النظريات، واتّسعت دائرة الاختلاف في اعتبار العقل وحدوده في مجال تفسير النصّ الديني؛ وقد ظهر ـ تبعاً لهذا الاختلاف ـ اتجاهان أساسيان متمايزان في عالم الفكر الإسلامي، هما: الاتجاه العقلاني، والاتجاه النصّي[34].

يقتصر الاتّجاه النصّي على ظواهر الكتاب والسنّة، ويجتنب التعاطي مع الأُصول المنطقية والعقلية لفهم المعارف الدينية عموماً[35]، بينما الاتجاه العقلي يعتقد أنّ الكتاب والسنّة هما الداعيان إلى التوسّع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة، فآمن بدور العقل في فهم النصّ واستكشافه ضمن ضوابط العقل البديهي أو البرهاني؛ وعليه تصبح الأحكام العقلية قرائن غير لفظية[36] تدخل في مجال الفهم والتفسير.

إنّ استخدام العقل البرهاني بالخصوص في فهم النصوص الدينية يحتاج إلى البحث في شروط البرهان وموانعه[37]، بالإضافة إلى ضرورة الإلمام بالعلوم الدينية؛ حتّى يتجنّب الباحث الوقوع في المغالطات، مع توخّي جانب الحذر والاحتياط في عملية الاستدلال من دخول قضايا في البرهان لا يمكن تبريرها منطقياً.

زيادة على ذلك، فإنّ القراءة التاريخية لبعض الأخبار والحوادث الماضية لا يمكنها أن تستقيم بعيداً عن المنهج العقلي، ذلك المنهج الذي ينبغي لنا توظيفه في معالجة تلك الوقائع وتحليلها والبتّ فيها سلباً أو إيجاباً.

ومن هذا المنطلق يتحتّم على الخطباء والباحثين أن لا يغفلوا دور العقل في قراءة النصّ الديني، وتحليل الوقائع التاريخية، فإنّ ما يُذكر أحياناً في كتب التاريخ أو الحديث من أحداث تنافي ضروريات الدين ومسلّماته القطعية، لا يمكن بأيّ وجه من الوجوه التمسّك بها فيما إذا أمعنّا النظر في محاذيرها العقلية والمنطقية.

وهناك نقطة مهمّة لا بدّ من التنبيه إليها، وهي: أنّ العقل في تشخيصه للمعقولات لا يخطأ أبداً، لكن ربّما تقع هناك حجبٌ بينه وبين المعرفة بتلك المعقولات تمنع العقل من إدراك المعقولات كما هي[38]؛ ممّا يؤدّي إلى اضمحلال العقل وخروجه بنتائج مربكة وخطيرة.

وعليه؛ فإنّ من أهمّ الأهداف التي بُعِثَ من أجلها الأنبياء(عليهم السلام) هو استخراج كنوز العقول من تحت هذه الحجب، كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «ويُثِيرُوا لهم دفائنَ العقول»[39].

5ـ المنهج التاريخي

يُعدّ المنهج التاريخي من أكثر المناهج ارتباطاً بعمل الخطيب؛ وذلك بحكم العلاقة الواضحة التي تربط الخطابة بالمجال التاريخي، غاية الأمر أنّ المنهج التاريخي قد أُغفل تطبيقه بشكل صحيح عند دراسة بعض الحوادث التاريخية؛ ما يُولّد بدوره نتائج عكسية تخالف حقيقة الحدث التاريخي.

إنّ المنهج التاريخي لا يقتصر على جمع المعلومات المرتبطة بعيّنة ما، وتنظيمها وإخراجها بحلّة جديدة، فإنّ جمع المعلومات وحده لا يحقّق لنا إضافة معرفية في حقل الدراسات التاريخية، ولا يُعدّ تمام العلّة لتحقيق القراءة الموضوعية؛ ولا يبلور لنا نظاماً يمكننا من خلاله معرفة السنن التاريخية، وعوامل توليد الحدث التاريخي، بل المنهج التاريخي هو عبارة عن «المراحل التي يسير خلالها الباحث حتّى يبلغ الحقيقة التاريخية بقدر المستطاع، ويُقدّمها إلى المختصّين بخاصّة، والقرّاء بعامّة»[40].

وعليه؛ فإنّ الحقائق التاريخية لا يتمّ التوصّل إليها ومعرفتها جيّداً ما لم يتّخذ الباحث سلسلة خطوات أساسية ومنهجية، مع استقراء جميع النصوص والوثائق؛ لكي يتمكّن من تحديد الأسباب والعلل لحدوث واقعة ما؛ وذلك لأنّ الحادثة التاريخية ربّما ترتبط بعوامل متعدّدة، وقوانين حاكمة، منها: اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو نفسية، وكلّ واحدة من هذه العوامل لا بدّ من التحرّي عنها لاكتشاف العلل الأساسية لتلك الواقعة؛ فإنّ الحادثة إنّما تقع في ضمن مجتمع تتحكّم فيه الأنظمة الاجتماعية والأعراف الثقافية؛ الأمر الذي يستدعي قراءة دقيقة للموضوعات التاريخية، واستخراج العلل والأسباب بدقّة فائقة.

ومن خلال مطالعة الحوادث التاريخية بشكل عام، والنهضة الحسينية بشكل خاص، نرى أنّ هناك بعض الأحداث والمواقف لم تتمّ معالجتها بشكل دقيق، وأنّ قراءتها بمعزل عن حوادث أُخرى لها نوع ارتباط بالحادثة مورد البحث، ربّما يكون له تأثير سلبي في تصوير الحادثة ووقوعها، واستنتاج العلاقة بين تلك الأحداث المترابطة.

خطوات المنهج التاريخي

يمرّ البحث التاريخي بخطوات أساسية تشترك إلى حدّ كبير مع الخطوات المتّبعة في المنهج الروائي، ويمكن اختصارها كما يلي:

1ـ اختيار موضوع البحث: ويُعدّ هذا الأمر خطوة أساسية لتحديد مساحة البحث في المجال التاريخي.

2ـ جمع البيانات والمعلومات (المادّة التاريخية): في هذه المرحلة يتحتّم على الباحث أن يختار المادّة التاريخية التي تناسب موضوع بحثه، وذلك بالاعتماد على المصادر والمراجع التاريخية المعتبرة، فـ«إذا لم يعرف المرء قبل البدء في عمل تاريخي كيف يُحيط نفسه بكلّ المعلومات الميسّرة له، فإنّه يزيد بسهولة من مزالق خطر العمل على أساس وثائق غير كافية... فكأيّن من عمل من أعمال التحصيل (erudition) أو التاريخ عُولج وفقاً لقواعد أدقّ المناهج، قد أفسده ـ بل قضى عليه قضاءً مبرماً ـ أمرٌ مادّي بسيط، هو أنّ المؤلّف لم يقف على وثائق كان من شأنها أن توضّح تلك التي كانت في متناول يده واقتصر عليها، وأن تكملها أو تنقصها»[41].

3ـ نقد المادّة التاريخية: من المعلوم أنّ المعرفة التاريخية معرفة غير مباشرة، فعلم التاريخ ليس علم ملاحظة، والوقائع الماضية لم نشاهدها إلّا من خلال آثارها، وليس لدينا بعد ذلك ما نلاحظه، «فالوثيقة هي نقطة الابتداء، والواقعة الماضية هي نقطة الوصول، وبين نقطة الابتداء هذه ونقطة الوصول ينبغي الوصول بسلسلة مركّبة من الاستدلالات المرتبطة بعضها ببعض، فيها فرص الخطأ عديدة، وأقلّ خطأ سواء ارتُكب في البداية أو الوسط أو في نهاية العمل، يمكن أن يُفسد كلّ النتائج»[42].

وعليه؛ يتجلّى البحث العلمي في مجال التاريخ من خلال نقد المادّة التاريخية والبيانات التي يحصل عليها الباحث المؤرّخ، حيث تُعدّ مسألة النقد من العمليات الأساسية في المنهج التاريخي؛ إذ من خلالها يصل الباحث إلى طبيعة المصادر التاريخية والمادّة المنتزعة منها.

وينقسم النقد التاريخي إلى نوعين رئيسين، هما:

الأول: النقد الظاهري (الخارجي): ويتمّ فيه نقد الوثيقة من خلال التحقّق من أصالتها ونسبتها إلى مؤلّفها، والتأكّد من صحّة سندها.

الثاني: النقد الباطني (الداخلي): وفيه ينتقل الباحث إلى باطن الكلام، وفهم المعنى، من خلال التفسير والتحليل للوثائق التي تمّ جمعها والمعلومات التي وردت فيها[43]. وهو على قسمين:

أ ـ النقد الباطني الإيجابي: ويهدف هذا النقد إلى تفسير النصّ التاريخي ومعرفة معناه اللُّغوي، ويُسمّى في عرف الأُصوليين بالبحث الدلالي، ويمرّ ذلك عبر مرحلتين على غرار ما تمّ بيانه في المنهج الروائي.

ب ـ النقد الباطني السلبي: ويتمّ فيه كشف الستار عن مآرب المؤلّف وأهوائه، ودرجة تدقيقه في الرواية[44]، أي: إنّ جوهر النقد السالب هو معرفة ما أورده مؤلّف الوثيقة التاريخية من معلومات، ومدى قربها من الواقع والحقيقة، ودراسة الأجواء التي أحاطت بها عند كتابتها، كالبحث في سيرة الكاتب، ومدى تأثّره بالمحيط الخارجي حين كتابته للوثيقة، ومدى تمكّنه أيضاً من اللّغة عند سرد الأحداث التاريخية.

4ـ تركيب المادّة وعرضها: وهي الحصيلة النهائية لجهود الباحث التي بذلها في المراحل المتقدّمة من بحثه، فبعد جمع النصوص، وإخضاعها لعملية النقد لإثبات معناها وصحّة صدورها، ينتقل الباحث إلى تركيب المادّة. وهنا تظهر مهارة الباحث، وسعة أُفقه الفكري، عندما يلج في عملية استخلاص النتائج ومسبّباتها، وإظهار شخصيّته من خلال تحليل الوقائع والبيانات التي جمعها ونقدها في مراحل سابقة، ولربّما لا يغيب أحياناً عن هذه العملية عنصر الاجتهاد.

وفي النهاية، تبقى عملية العرض تفتقر أيضاً إلى المُكنة اللُّغوية، كما أنّها تتطلّب اتّباع طريقة العرض المنطقي للأفكار؛ الأمر الذي يُسهّل جريان العرض التاريخي بأُسلوب واضح ومتناسق، يمكّن المخاطب من الاسترسال المنطقي بين الموضوعات، والفهم اللُّغوي للمصطلحات وتراكيب الألفاظ.

المطلب الخامس: العلاقة بين المنهج ومكوّنات العملية الخطابية

بعد أن اتّضح أنّ العملية الخطابية لا بدّ لها من منهج يحدّد مسارها بوضوح، أو مناهج متعدّدة تتنوّع بتنوّع مجالات العملية الخطابية، ينبغي التنبيه على أنّ المنهج وحده لا يُنتج خطاباً واعياً ما لم تتضافر معه مكوّنات العملية الخطابية الأُخرى، ومن المسلّمات المنهجية في مجال فنّ الخطابة أنّ الخطابة يجب أن تنشأ نتيجة الإلمام بأُصول هذا الفنّ ومبادئه الأساسية، ذلك أنّ الخطابة ليست سوى مظهر عملي لتلك الأُصول والمبادئ.

ولأجل تكامل العملية الخطابية، فلا بدّ من اشتمالها على مكوّنات أساسية، تتفاعل فيما بينها لتوليد خطاب منهجي منضبط، وهي[45]:

1ـ الخطيب: وهو عنصر إيصال مادّة الخطاب ورسالته إلى المتلقّي، فهو الشخص الذي يمارس عملية الكشف عن مدلول النصّ، سواء أكان دينياً أم تاريخياً، أو يمارس عملية بيان تلك النصوص وعرضها؛ وعليه فهو أمام مسؤولية خطيرة تدعوه إلى التماس طريق التقوى، والانسلاخ عن أيّ عقيدة أو فكرة سابقة تؤثّر سلباً في عمله التبليغي والإرشادي، وهنا تبرز أهمّية البحث في المؤهّلات العلمية والسلوكية للخطيب الناجح.

2ـ المخاطب (المتلقّي).

3ـ مادّة الخطابة: وهي الرسالة التي يريد أن يوصلها الخطيب إلى الآخرين، إمّا لأجل الإخبار والإعلام، أو لأجل التأثير والإقناع.

4ـ المؤثّرات الخارجية: وهي المحيط الذي يشمل المكان والزمان والمناخ العلمي والثقافي الذي يعيش فيه الخطيب.

5ـ القواعد العامّة: وهي الأُصول والضوابط التي تحكم عملية الخطاب، وتُهندس موضوعاتها، وتُنظّم عملية التدليل على الأفكار والآراء المطروحة، وقد اعتنى علماء هذا الفنّ بالعمل على تدوين هذه الأُصول بشكل مدرسي دقيق.

هذه المكوّنات تمثّل أركان العملية الخطابية، وأيّ خلل في العلاقة بينها يؤدّي حتماً إلى خلل في تلك العملية. نعم، هناك ترابط وثيق بين القواعد العامّة والمنهج؛ فإنّ المنهج يدخل كعنصرٍ أساسي في مجموعة القواعد التي تحكم العملية الخطابية، والناظر إلى بعض مصاديق الخطابة الدينية، يمكنه بوضوح أن يلحظ مدى الخلل الواضح الذي يعتري الخطاب بسبب عدم التوازن بين هذه المكوّنات من جهة، وبينها وبين المنهج من جهة أُخرى.

والمسؤولية ملقاة على عاتق المتخصّصين في هذا المجال؛ إذ لا بدّ من تشخيص ذلك الخلل، وبيان أسبابه ومناشئه بالدراسة والتحليل، وعقد الملتقيات والندوات، فمن الخلل ما يعود إلى الخطيب الذي يُغلِّب ثقافته واتجاهه على أُصول الخطابة الدينية ومناهجها، ومنه ما يرجع إلى ضوابط الخطابة، كإهمال بعض قواعد هذا الفنّ، وعدم الاعتماد عليها، أو إقحام موارد غير أُصولية في العملية الخطابية على أنّها ضوابط ومعايير خطابية، ومنه ما يعود إلى المنهج، وهكذا.

المطلب السادس: مظاهر غياب المنهج في الخطابة الدينية

توجد هناك مظاهر متعدّدة لغياب المنهج الصحيح يمكننا مشاهدتها في جملة من مصاديق العملية الخطابية، منها:

1ـ النزعة الذاتية

إنّ تفعيل الميول الأيديولوجية عند الخطيب، وإقحام الأفكار والرؤى السابقة غير الممنهجة في قراءة النصوص الدينية، والانطلاق من الذات لفهم تلك النصوص، يُعدّ هدماً للموضوعية، ومظهراً من مظاهر غياب المنهج في العملية الخطابية، فإنّ الخطيب نتيجة انحيازه إلى بعض الأحكام المنطبعة في ذهنه، أو تجاهله بعض الأدلّة المضادّة لقناعاته، ربّما يقع في مشكلة تشخيص المنتج المعرفي بشكل صحيح؛ الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى استخلاص النتائج بطريقة (دوغمائية) تتنافى وأُصول البحث العلمي، فعلى سبيل المثال نرى البعض «يتأوّل القرآن على وفق رأيه، ويصرفه عن المراد، ويرغمه على تحمّله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف... فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه... كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكّن والاستقرار، فإن خطر له أنّ معنى قوله تعالى(الْقُدُّوسُ)[46] أنّه المنزَّه عن كلّ صفات المحدثات، حجبه تقليدُه عن أن يتقرّر ذلك في نفسه»[47].

2ـ القول بالرأي (العقل الظنّي)

تعود جذور هذا الاتجاه إلى المدرسة الفقهية المعروفة في الإسلام، وقد برزت في منتصف القرن الثاني الهجري، متخذة من العقل الظنّي والاستحسان الشخصي أداة رئيسة للإثبات إلى جانب البيان الشرعي؛ بداعي أنّ البيان الشرعي لا يتّسع لتعيين الحكم الشرعي في كثير من القضايا والمسائل.

لم تقتصر هذه العملية على الفقه وأحكامه، بل شملت التفسير أيضاً، ولعلّ مجال التفسير له السبق في ذلك، حتّى قبل ظهور مدرسة الرأي الفقهية، وهذا ما يمكن استكشافه من بعض الأحاديث الكثيرة الناهية عن التفسير بالرأي[48].

وعليه؛ يمكننا القول: إنّ استخدام الأدوات غير المعتبرة شرعاً في تفسير النصّ الديني، وعدم الرجوع إلى القواعد المعتمدة والأُصول الصحيحة، يوقع الباحث والخطيب في غيابت القول بالرأي المحظور.

3ـ النزعة الظواهرية (الاتجاه النصّي)

وهي نزعة منشؤها الإفراط في سلوك الاتجاه المعرفي الذي يُعطي للنصّ وظهوره مساحة عظمى في إنتاج المعرفة الدينية، والذي يتمثّل بالمدرسة السلفية عند أهل الحديث الذين خالفوا بشدّة العقلانيين والمتكلّمين مخالفةً تعدّت الصراع الفكري إلى الحكم بالكفر والزندقة والقتل وغيرها[49]، فلا يبالون بمنافاة عقائدهم الدينية للبراهين العقلية ما دام هذا هو مقتضى الظهور العرفي للنصوص الدينية، فلا مجال لذلك إلّا التعبّد.

إنّ هذه الطريقة في التعامل مع النصوص الدينية، لا تنحصر في علماء القرون الماضية من أهل الحديث، بل يمكن مشاهدتها ـ أيضاً ـ في كثير من مصنّفات المعاصرين من ذوي التوجّه السلفي.

والذي ينبغي الإشارة إليه بشكل مختصر، أنّ العقل لا يساوق الظنّ، ولا ينتج ظنّاً بصورة مطلقة، بل هو أعمّ من الظنّ والمدركات القطعية، وعليه؛ فإنّ الفهم المبني على المدركات العقلية لا ينتهي بالضرورة إلى الظنّ، بل يمكن من خلاله الوصول إلى اليقين، وإن خالف ذلك الفهم الظهور البسيط للنصّ، والذي نُهي عنه في الروايات هو الظنّ وعدم العلم، لا مطلق الإدراك العقلي، فإذا استند الفهم إلى البراهين والبديهيات العقلية، لا يمكن حينها التحدّث عن دعوى القول بالظنّ، وسيرة العقلاء في تحاورهم جارية على ذلك، ولم يصلنا من قِبل الشارع منع أو ردع فيما يتعلّق بهذا الأمر، بل الوارد على خلاف ذلك.

4ـ الانتقائية

إنّ القراءات الانتقائية تُعدّ هي الأُخرى مظهراً من مظاهر غياب المنهج الصحيح، فإنّ ترتيب الآثار العلمية على تلك القراءة بمعزل عن المنظومة الدينية يؤثّر سلباً في رسم صورة متكاملة عن الموضوع، حيث نرى بعض الخطباء ـ للأسف الشديد ـ يؤسّس رؤيته المعرفية على قراءات انتقائية بمعزل عن تلك المنظومة، غافلاً عن عدم صحّة الحديث عن أيّ فكرة وهي منقطعة الصلة عن سياقها المعرفي، ولا يمكن تكوين وعي متكامل لموضوع ما إلّا ضمن الإطار العامّ الذي ينطوي على ذلك الموضوع مورد البحث؛ وذلك لاحتواء تلك المنظومة على مؤثّرات متعدّدة، منها داخلية، ومنها خارجية: كالقرائن المنفصلة والعقلية والسياقية، وبعض المؤثّرات اللُّغوية، كالعام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ.

5ـ غياب اللّغة العلمية

يتجلّى مفهوم غياب اللّغة العلمية في طرح المسائل العقدية والفكرية في موارد عديدة، من جملتها:

أ ـ الحديث بلغة الخرافات والأساطير.

ب ـ تغليب كفّة العاطفة على منطق العقل والاستدلال في قراءة بعض الأحداث التاريخية.

ج ـ ترتيب بعض الآثار الفكرية على أحلام وتنبؤات وانطباعات شخصية لا ترقى إلى الحجّة الشرعية.

6ـ التقليد الأعمى

هناك بعض الصفات السلبية ذكرها القرآن الكريم كمبادئ عامّة للمنهج السلبي، وحذّر الإنسان الباحث من الوقوع في منزلقها، ومن جملتها: التقليد الأعمى، يقول تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)[50].

وانطلاقاً من ذلك لا بدّ من التركيز على نقطة مهمّة جدّاً، وهي: عدم اتّباع كلّ ما ورد من أقوال في تفسير النصوص الدينية من دون دراسة وتمحيص، أخذاً بذلك على نحو الصواب والقطع، وقد ذهب السيّد الخوئي(رحمه الله) (ت1414هـ) إلى أبعد من ذلك بكثير حين صرّح قائلاً: «لا يجوز اتّباع أحد المفسّرين في تفسيره، سواء أكان ممّن حَسُن مذهبه أم لم يكن؛ لأنّه من اتّباع الظنّ، وهو لا يُغني من الحقّ شيئاً»[51].

الخاتمة

بعد هذه الرحلة مع المنهج والخطابة الدينية، نحاول في هذه الخاتمة بيان جملة من النتائج والتوصيات التي تصبّ في تطوير العمل المنهجي عند الخطباء والمبلّغين:

1ـ إنّ مناهج تفسير النصوص الدينية في الوقت الذي أدّت إلى إخراج النصّ الديني من حالة الجمود والركود، تبقى الموضوع الحسّاس والخطير من بين المواضيع الأُخرى؛ إذ لا تخلو بعض القراءات من الانحرافات الفكرية والأخطاء العلمية؛ لأسباب تعود إلى طريقة تطبيق المنهج من جهة، وعدم تشخيص المنهج الصحيح من جهة أُخرى؛ الأمر الذي يوصلنا إلى تحميل تلك الأخطاء والآراء الفاسدة على النصّ الديني، تلك الآراء التي يكون المفسّر فيها متحرّكاً ضمن قناعات فكرية سابقة، تجعل المنهج يفكّر من خلالها وليس العكس، وهذا ممّا يُشكّل ـ في حدّ ذاته ـ خطراً كبيراً على عملية إنتاج المعرفة الدينية.

2ـ إنّ للخطيب الحقّ في استخدام مناهج مختلفة للوصول إلى الحقيقة؛ لما للنصوص الدينية من معارف متنوّعة، ومداليل متعدّدة، علماً بأنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة الموضوع المبحوث عنه، وطبيعة المنهج المستخدم؛ فإنّ الموضوع يتأثّر سلباً أو إيجاباً بالمنهج، «وقد تتغيّر حقيقته إذا ما عولج بواسطة منهج غريب عن طبيعته؛ لأنّ الأصل أو المبدأ هو أنّ لكل ظاهرة معيّنة منهجاً معيّناً أكثر ملاءمة من غيره للبحث فيها»[52]، هذا مع ضرورة الالتزام بحدود المنهج المستخدم في فهم النصوص الدينية وتفسيرها، فإنّ المنهج مجرّد وسيلة لتحقيق الغرض المنشود، ولا يُعدّ هدفاً بحدّ ذاته.

3ـ يمكن أن تتعاون مجموعة من المناهج لخدمة فنّ واحد أو مسألة واحدة، فإنّ بعض المسائل المتّصلة بالمعرفة الدينية، من قبيل مسألة الإله، يمكن إثباتها من خلال تفعيل مناهج متعدّدة، كالمنهج العقلي الاستدلالي، أو المنهج الاستقرائي، أو المنهج الشهودي؛ وعليه لا يصحّ الحكم بشكل مطلق بأنّ استخدام منهجين متغايرين أو أكثر يوقعنا دائماً في منزلق الاختلاف في النتائج.

4ـ على الخطيب عدم ارتجال الكلام حسب ذوقه الخاص من دون دليل أو حجّة، إذ لا يحقّ له أن يُدلي برأي في حقول الدراسات الدينية المختلفة ما لم يتحلّ بنوعين من الفهم، الأوّل: رسوخ المعنى المشهور في ذهنه، والثاني: الفهم المستند إلى مناهج معتبرة يُمكنه الاحتكام إليها في حال وقوعه في معرض الإشكال والنقد.

5ـ لا ينبغي للخطيب تجاهل المساحة التي يشغلها العلم الحديث في بلورة بعض الأفكار التاريخية والدينية، وهذا ما يحفّز الخطباء على الاهتمام به شريطة عدم مخالفته لأحكام الدين وثوابته القطعية.

6ـ الحقيقة التي لا بدّ من تأكيدها هي: أنّ أكثر الإنجازات العلمية إيجابيةً وتأثيراً في المجتمع هي الأعمال التي انطلقت من قاعدة المنهج، وأنّ أكثر الأعمال سلبيةً وهدماً للفكر والمعرفة هي التي ابتعدت عن المنهج، أو تخبّطت في تطبيقه؛ ومن هذا المنطلق يتحتّم على الخطباء دراسة علم المناهج دراسة وافية، تتمّ من خلالها معرفة المناهج العلمية المتنوّعة، وكذلك المساحات والحدود التي ينبغي أن تشغلها تلك المناهج في دائرة العمل الخطابي.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1. أُصول كتابة البحث وقواعد التحقيق، مهدي فضل الله، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية، 1998م.

2. البحث العلمي.. مناهجه وتقنياته، محمّد زيان عمر، جامعة الملك عبد العزيز، المملكة العربية السعودية.

3. البحث عن منهج للعلوم الإنسانية، (بحث مطبوع ضمن سلسلة كتاب الفلسفة والعلم تحت عنوان: قضايا العلوم الإنسانية.. إشكالية المنهج)، علي عبد المعطي، إشراف: يوسف زيدان، وزارة الثقافة، القاهرة.

4. البيان في تفسير القرآن، أبو القاسم الخوئي، دار الزهراء، بيروت، الطبعة الرابعة، 1395هـ/1975م.

5. تاج اللّغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطّار، دار العلم للملايين، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة، 1407هـ/1987م.

6. التحرير والتنوير، محمّد الطاهر بن عاشور التونسي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م.

7. التوحيد، محمّد بن علي بن الحسين الصدوق، تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1398هـ.

8. جامع البيان في تأويل آي القرآن، محمّد بن جرير الطبري، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأُولى، 1412هـ.

9. الجامع لأحكام القرآن، محمّد بن أحمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/1985م.

10. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1981م.

11. الخطابة (الترجمة العربية القديمة)، أرسطوطاليس، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، دار القلم بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1979م.

12. الخطابة وإعداد الخطيب، توفيق الواعي، دار اليقين، مصر، الطبعة الثالثة، 1420هـ/1999م.

13. الخطابة.. أُصولها، تاريخها في أزهر عصورها عند العرب، محمّد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1980م.

14. روشها وگرايشهاى تفسيرى (مناهج التفسير واتجاهاته)، حسين علوى مهر، أُسوه، قم، الطبعة الأُولى‏، 1381هـ.ش.

15. شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العزّ الحنفي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1391هـ.

16. علم الاجتماع والمنهج العلمي، محمّد علي محمّد، دار المعارف الجامعية، الإسكندرية، 1986م.

17. الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، عبد القاهر بن طاهر بن محمّد البغدادي، دار الجيل ـ دار الآفاق، بيروت، الطبعة الثالثة، 1408هـ.

18. الفلسفة الخلقية.. نشأتها وتطوّرها، توفيق الطويل، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 1979م.

19. القاموس المحيط، مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق: أنس محمّد الشامي، وزكريا جابر أحمد، دار الحديث، 1429هـ/2008م.

20. المبادئ العامّة لتفسير القرآن، محمّد حسين علي الصغير، دار المؤرّخ العربي‏، بيروت‏، الطبعة الأُولى، 1420هـ/2000م.‏

21. المدخل إلى الدراسات التاريخية، لانجلوا، وسينوبوس، ترجمة: عبد الرحمن بدوي ضمن كتاب ( النقد التاريخي)، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الرابعة، 1981م.

22. المشكلة الخلُقية، زكريا إبراهيم، مكتبة مصر بالفحالة، 1969م.

23. مصطلح التاريخ، أسد رستم، مركز تراث للبحوث والدراسات، الجيزة ـ مصر، الطبعة الأُولى، 1436هـ/2015م.

24. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، أبو القاسم الخوئي، مركز نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الخامسة، 1413هـ/1992م.

25. المفسّرون حياتهم ومنهجهم، محمّد علي أيازي، وزارة الإرشاد، طهران، الطبعة الأُولى، 1414هـ‏.

26. مناهج البحث العلمي، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة السابعة، 1977م.

27. المنطق، محمّد رضا المظفّر، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة.

28. منهج البحث الأثري والتاريخي، كامل حيدر، دار الفكر اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الأُولى، 1995م.

29. منهج البحث التاريخي، حسن عثمان، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1964م.

30. المنهج العقلي في تفسير القرآن الكريم، ثناء الدين الدهلكي، جامعة آل البيت(عليهم السلام) العالمية، مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1439هـ/2017م.

31. المنهج الفلسفي (بحث مطبوع ضمن سلسلة كتاب الفلسفة والعلم تحت عنوان: قضايا العلوم الإنسانية.. إشكالية المنهج)، حسن حنفي، إشراف: يوسف زيدان، وزارة الثقافة، القاهرة.

32. الميزان في تفسير القرآن، محمّد حسين الطباطبائي، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الخامسة، 1417هـ.

33. نهج البلاغة، محمّد بن الحسين الشريف الرضي، شرح: محمّد عبده، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.

34. نهج النهج، نجيب الحصادي، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأُولى، 1991م.

[1] الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج1، ص346.

[2] محمّد زيان عمر، البحث العلمي..مناهجه وتقنياته: ص51.

[3] عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي: ص7.

[4] الحصادي، نجيب، نهج النهج: ص130-131.

[5] هناك صيحة قد علت بين علماء المناهج - بعد جدل واسع - تدعو إلى إجابة وافية عن سؤال مفاده: ألا يمكن أن نجد منهجاً واحداً لجميع العلوم الإنسانية يختلف تمام الاختلاف عن منهج العلوم الرياضية والطبيعية، بحيث لا تُترك العلوم الإنسانية فريسة للتشتت بين مناهج متنافرة وغير متلائمة؟

وقد ظهرت عدّة محاولات تستهدف تشييد منهج عام، كان أبرزها تلك المحاولة التي حددتها المدرسة الألمانية، والتي اعتبرت (الفهم: Understanding) محوراً أصيلاً في منهج العلوم الإنسانية، في مقابل المعرفة التجريبية التي تُميّز العلوم الطبيعية، فبينما تكون هذه المعرفة خارجية وتجريبية وكمّية، فإنّ الفهم ينفذ إلى أعماق المعاني والأفكار فيُدركها إدراكاً كيفياً خالصاً، ومن المحال إخضاع المعرفة الكيفية إلى المعرفة التجريبية الكمّية، وقد كانت هذه المحاولة بداية هجوم واسع على الوضعية ورجالها، في محاولة واضحة للدفاع عن ذلك المنهج الكيفي الذي طرحته المدرسة الألمانية في العلوم الإنسانية.للاطلاع أكثر اُنظر: المعطي، علي عبد، البحث عن منهج للعلوم الإنسانية، بحث مطبوع ضمن سلسلة كتاب الفلسفة والعلم تحت عنوان: قضايا العلوم الإنسانية..إشكالية المنهج: ص17- 19.

[6] حسن حنفي، المنهج الفلسفي، بحث مطبوع ضمن سلسلة كتاب الفلسفة والعلم تحت عنوان: قضايا العلوم الإنسانية..إشكالية المنهج: ص47.

[7] اُنظر: محمّد علي محمّد، علم الاجتماع والمنهج العلمي: ص117.

[8] اُنظر: علوي مهر، حسين، المناهج والاتجاهات التفسيرية: ص61.

[9] كتب القرطبي (ت671ه-) في ذيل الآية الكريمة (ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ) الأعراف: آية54، ما يلي: «ولم يُنكر أحدٌ من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة...وإنّما جهلوا كيفية الاستواء، فإنّه لا تُعلَم حقيقته».القرطبي، أحمد بن محمّد، الجامع لأحكام القرآن: ج7، ص219.

[10] الفيروزآبادي، محمّد بن يعقوب، القاموس المحيط: ص478.

[11] أرسطوطاليس، الخطابة: ص9.

[12] الواعي، توفيق، الخطابة وإعداد الخطيب: ص12.

[13] عُرّف علم الخطابة بأنّه: «مجموع قوانين تُعرِّف الدارس طرق التأثير بالكلام، وحُسن الإقناع بالخطاب، فهو يُعنى بدارسة طرق التأثير ووسائل الإقناع، وما يجب أن يكون عليه الخطيب من صفات، وما ينبغي أن يتّجه إليه من المعاني في الموضوعات المختلفة، وما يجب أن تكون عليه ألفاظ الخطبة وأساليبها وترتيبها...».أبو زهرة، محمّد، الخطابة: ص9.

[14] المصدر السابق: ص19.نقل هذا القول عن ابن سينا من دون إسناد إلى مصدر.

[15] المظفّر، محمّد رضا، المنطق: ص422-423.

[16] المصدر السابق: ص437.

[17] علماً بأنّ الأقيسة في الخطابة كثيراً ما تقع مضمرة، ولا يلزم أن تحتفظ بصورتها وهيئتها المنطقية.

[18] أبو زهرة، محمّد، الخطابة: ص20.

[19] المصدر السابق.

[20] الحديث هنا يقع فيما ينبغي أن تكون عليه الخطابة الدينية، وليس عمّا هو كائن، وذلك باعتبار أنّ الخطابة تختلف بلحاظ ما يُطرح من خطيب إلى خطيب آخر، فكلٌّ له طريقته في عرض الموادّ وإعطاء الأولويات، فمنهم مَن يعطي أولوية للنص القرآني، ومنهم مَن يعطي تلك الأولوية للنص الروائي، ومنهم مَن يعطي الأولوية للحوادث التاريخية، وهكذا.

[21] يوزّع منشأ الفعل الأخلاقي على اتجاهات عدّة، أبرزها: الاتجاه العقلي، والاتجاه الإلهي الديني، والاتجاه الاجتماعي، والاتجاه النفعي.

[22] اُنظر: الطويل، توفيق، الفلسفة الخلقية..نشأتها وتطوّرها: ص11.

[23] زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية: ص76.

[24] الروم: آية30.

[25] زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية: ص76.

[26] النحل: آية89.

[27] الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج1، ص11.

[28] النساء: آية82.

[29] الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج3، ص76-77.

[30] هذه إشارة إلى نظرية الوثاقة، وهناك نظرية أُخرى تُسمّى بنظرية الوثوق، مفادها: أنّ الخبر يكون حجّة إذا تمّ الوثوق بصدوره عن المعصوم(عليه السلام)، وإن كان ضعيفاً في اصطلاح المحدّثين والرجاليين؛ وذلك لأنّ الضعيف ربّما يكون صحيحاً في واقع الأمر.ولا يتأتّى لنا الوثوق بخبر، ما لم يعتضد بقرائن داخلية وخارجية.

[31] الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج1، ص20.

[32] اُنظر: الصغير، محمّد حسين، المبادئ العامّة لتفسير القرآن: ص105.

[33] اُنظر: أيازي، محمّد علي، المفسّرون..حياتهم ومنهجهم: ص44.

[34] للاطلاع أكثر على هذا الموضوع اُنظر كتاب: المنهج العقلي في تفسير القرآن الكريم، للباحث.

[35] ويبدو أنّ مخالفة هذا الاتجاه لحكم العقل لم تقتصر على أحكام العقل النظري الضروري وحسب، بل تعدّت إلى الأحكام الضرورية للعقل العملي أيضاً! فقد عبّر الطحاوي عن عقيدته السياسية اتجاه أئمّة الجور والظلم بقوله: «ولا نرى الخروج على أئمّتنا وولاة أُمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله(عز وجل) فريضة».الحنفي، ابن أبي العزّ، شرح العقيدة الطحاوية: ص428.

[36] لمّا كانت المعارف البديهية العقلية لا تحتاج إلى فكر واستدلال، فهي واضحة المعاني للمستمع منذ بداية الكلام، فإنّها تعدّ من القرائن العقلية المتصلة، إلّا أنّ البراهين العقلية تحتاج إلى تدبّر واستدلال، وهي غير واضحة للمستمع منذ بداية الكلام؛ لذا يمكننا تصنيفها ضمن القرائن المنفصلة.

[37] للاطلاع على تلك الشروط والموانع والخطوات اللازمة لمنهج العقل البرهاني، تُراجع المصادر المختصّة في ذلك، وعلى رأسها الكتب المنطقية.

[38] للاطلاع على بعض تلك الحجب اُنظر: الشيرازي، محمّد، الحكمة المتعالية: ج5، ص136-140.

[39] نهج البلاغة: ج1، ص23، الخطبة 1.

[40] حسن عثمان، منهج البحث التاريخي: ص20.

[41] لانجلوا، وسينوبوس، المدخل إلى الدراسات التاريخية (النقد التاريخي):ص5- 6.

[42] المصدر السابق: ص43-44.

[43] اُنظر: كامل حيدر، منهج البحث الأثري والتاريخي: ص131.

[44] اُنظر: أسد رستم، مصطلح التاريخ: ص111.

[45] هذه المكوّنات تمّ استنتاجها من خلال تتبّع العملية الخطابية وتحليلها، ولم تؤخذ على نحو الحصر العقلي.

[46] الحشر: آية23.

[47] ابن عاشور، محمّد الطاهر، التحرير والتنوير: ج1، ص31.

[48] اُنظر: الصدوق، محمّد بن علي، التوحيد: ص68.وأيضاً: الطبري، محمّد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ج1، ص27.

[49] اُنظر: البغدادي، عبد القاهر، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية: ص351-352.

[50] البقرة: آية170.

[51] الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن: ص397.

[52] مهدي فضل الله، أُصول كتابة البحث وقواعد التحقيق: ص15.

المنهج والخطابة الدينية در اسة نظرية في التأثيرات المعرفية