المقدّمة

كان منبر الإمام الحسين(عليه السلام) ـ ولا يزال ـ على مدى تاريخه قبساً يُضيء درب الأجيال، ونداءً يؤذّن بحيّ على الجهاد، وصدًى يعكس حرمان المحرومين واضطهاد المضطهدين، وأعواداً تنطلق منها الحناجر لتُعلن رفض الظلم والظالمين في كلّ زمان ومكان. ولم يكن يخفى دوره الريادي في تعبئة الجماهير المؤمنة للتمسّك بقضيّتها، من خلال طرح واقعة الطفّ التي تجسّدت فيها رموز الخير والشرّ، كما لا يخفى أنّ الصراع بين هذين النقيضين كان وما زال منذُ بدء الخليقة وإلى يومنا هذا، ولكن تبقى كربلاء رمز ذلك الصراع مع الظلم، وكعبة المجاهدين، وشعار الأحرار؛ لعمقها وامتدادها في أعماق الرسالة المحمدية، ولآثارها في مسار تلك الرسالة.

من هنا؛ كان لها صدى وصوت لم يفتر يوماً من الأيّام، فكلّ أرض كربلاء وكلّ يوم عاشوراء، حيث لم تبقَ بقعة من أرض الله الواسعة شرقاً وغرباً إلّا وفيها منبر باسم الحسين(عليه السلام)، وأعوادٌ تنادي بما أراده الحسين(عليه السلام)، وترفض ما رفضه الحسين(عليه السلام)، وتحثّ الناس للسير على نهج الحسين(عليه السلام): نهج المظلومين المنتصرين القاهرين، نهج انتصار الحقيقة على الزيف، والنحر على شفير السيف.

ولا يخفى أنّ الطغاة قد أدركوا خطورة هذا المنبر الذي زلزل عروشهم منذُ لحظة انطلاقه من مجلس عبيد الله بن زياد في الكوفة؛ إذ انطلقت أوّل خطبة حسينية بلسان أوّل مجاهدة علوية، وهي السيّدة زينب(عليها السلام)، فحاولوا إيقاف هذا المدّ، وإخماد هذا الصوت بشتّى الوسائل والطرائق، ولكن دون جدوى، فلم يولد صوت الحسين(عليه السلام) ليموت، نعم، قد ينخفض أحياناً نتيجة الضغوطات والممارسات الإرهابية، لكنّه سرعان ما يعود هادراً مجلجِلاً في الساحة، مشنِّفاً أسماع المؤمنين، محطِّماً أحلام الخائنين.

من هنا؛ كان لزاماً على كلّ المؤمنين، وكلٌّ من موقعه وحسب قدراته، دعم مؤسّسة المنبر الحسيني وإعلاء صوتها، وإيجاد السبل والآليات التي تُسهم في تطويرها وإدامة زخمها.

وعليه؛ كانت لدي بعض الملاحظات أحببت أن أضعها بين يدي خطباء المنبر الحسيني، عسى أن تنال رضاهم، وتحظى بقبولهم، مع دعائي لهم بالتوفيق لخدمة سيّد الشهداء(عليه السلام) ومنبره المبارك.

الملاحظة الأُولى: فلسفة المواقف وتحليلها

نهضة الحسين(عليه السلام) مشحونة بالمواقف المتنوّعة التي تجمع اللوعة والدمعة والحزن، والإيثار والشجاعة، والصبر والصلابة والتضحية، والعبادة والزهد والإخلاص، والجهاد والمواساة، والتخطيط السليم، والسياسة الناجحة، والإدارة الحكيمة، والقيادة المحنّكة، والمقدّمات الصحيحة، والنتائج المثمرة، والأُسوة الحسنة، والقدوة الجليلة، والرموز الخالدة، والمُثُل العليا، والأبوّة الحانية، والأُمومة العاطفة، والأُخوة الصادقة، والصحبة الطيّبة، والبنوّة المؤثّرة... فلا تكاد تدخل في بُعد من أبعاد الحياة إلّا وتجد فيه منفذاً تدخل منه إلى هذه النهضة الخالدة؛ لتُسلّط الضوء عليها وتختم موضوعك في جانب منها، فكربلاء هي الحياة، كلّ الحياة.

لكنّنا نلاحظ لدى كثير من الخطباء أنّهم يمرّون بأحداث كربلاء في ذيل مواضيعهم، والانتهاء بها إلى نعي الحسين(عليه السلام) وأهل بيته، وقلّما نجد خطيباً يمرّ بأحد مواقف كربلاء ويحاول أن يحلّل ذلك الموقف وتداعياته، والغاية التي دعت إليه، والثمرات الناتجة عنه، والآثار المترتبة عليه.

ولتوضيح الفكرة نأخذ أُنموذجاً من تلك المواقف، ونحاول تحليله بما يتناسب وحجم هذا المختصر، فنقول:

يروي المؤرّخون أنّ العبّاس(عليه السلام) لـمّا نزل إلى المشرعة ليملأ القربة، اغترف بيده غرفة، «ولـمّا اغترف من الماء ليشرب، تذكّر عطش الحسين(عليه السلام) ومَن معه؛ فرمى الماء وقال:

يا نفسُ من بعد الحسينِ هوني

وبعده لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ

وتشربينَ باردَ المعينِ

تالله ما هذا فِعالُ ديني»[1].

وهنا يمكن أن نحلّل هذا الموقف ونناقشه بمستويات عدّة:

المستوى الأوّل: يمكننا مناقشة هذا الموقف فقهياً، أي: من وجهة نظر شرعية، من خلال طرح السؤال الآتي: هل شرب الماء ـ في مثل هذه الحال ـ حرام على العبّاس(عليه السلام)؛ الأمر الذي استوجب إعراضه عن الشرب حتّى لو بلغ به الأمر إلى الهلاك؟

المستوى الثاني: قد يقال: كان من الأفضل للعباس(عليه السلام) أن يشرب الماء؛ لحاجته الماسّة إليه كونه مرهقاً ومتعباً وظامئاً، فلو أنّه شرب الماء لتروّى وانتعش، وعاد إلى القتال بنشاطٍ وحيوية.

المستوى الثالث: يمكن أن يقال: بأنّه(عليه السلام) شرب أم لم يشرب فالنتيجة واحدة بالنسبة للحسين(عليه السلام) وعياله في تلك الحالة؛ لأنّهم بقوا عطاشى، فلو أنّه شرب الماء لم يضر ذلك بهم، كما أنّ امتناعه عن الماء لم يجر إليهم نفعاً حتّى يُعدّ ذلك من الإيثار الممدوح شرعاً وعقلاً، كما قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[2].

ويمكن أن يجاب عن هذه المستويات الثلاثة بنقاط عدّة:

النقطة الأُولى: لا إشكال في أنّ شرب الماء مباح، بل قد يكون شربه واجباً أحياناً، كما إذا أشرف الإنسان على الهلاك، وأدّى إعراضه عن شرب الماء إلى الموت، فيكون من باب إلقاء النفس في التهلكة، وهو بلا شكّ حرام، إلّا أنّ العباس(عليه السلام) لم يكن قد وصل إلى مرحلة تؤذن بهلاكه إن لم يشرب الماء؛ والعبّاس(عليه السلام) على دراية بأنّ الإعراض عن شرب الماء إلقاء للنفس في التهلكة، وهو ممّا لا يفعله العبّاس(عليه السلام) أو يغفل عنه، فمن المتيقّن أنّه كان قادراً على التماسك لحين إيصال الماء إلى خيام الحسين(عليه السلام)؛ فتكون النتيجة أحد أمرين:

الأوّل: إمّا أن يستطيع أن يوصل الماء بسلام، فيشربون ويشرب معهم؛ وهذا ما يدلّ عليه أنّه(عليه السلام) لم يكن همّه القتال مع العدو بعد خروجه من المشرعة، بل كان همّه إيصال الماء إلى الخيام [3].

الثاني: وإمّا أنّ يقطع الجيش عليه الطريق ويُحاصَر؛ فلا يستطيع الوصول إلى الخيام؛ فتكون الشهادة متوقّعة له، وهو قادر على الصمود والتماسك إلى حين بلوغها والتشرّف بها.

النقطة الثانية: إذا كانت النتيجة الثانية ـ أعني: الشهادة ـ هي الأكثر توقّعاً، فمثل أبي الفضل(عليه السلام) يعدّها من النِّعم والسعادة الأبدية، وإذا كان لا يفصله عن ذلك إلّا دقائق ويُستشهد، فلا حاجة إلى شرب الماء وهو قادر على التماسك، تأسّياً بالحسين(عليه السلام) وعياله؛ ليضرب بذلك أروع أمثلة الوفاء لسبط رسول الله(صلى الله عليه واله)وعياله، حتّى جاء في الزيارة عن صادق آل محمد(عليهم السلام): «أشهد لك بالتسليم، والتصديق، والوفاء، والنصيحة لخلف النبي(صلى الله عليه واله)المرسَل، والسبط المنتجَب، والدليل العالم، والوصي المبلِّغ، والمظلوم المضطهَد...»[4].

ولا ينبغي أن نغفل عظمة وضخامة هذا الموقف ـ أعني: إعراضه عن الماء ـ وذلك لأسباب عدّة، منها:

الأوّل: إنّ المعارك في ذلك الزمان تختلف عن المعارك في هذا الزمان، ففي زماننا هذا تُستخدم الأسلحة النارية التي يُضغط فيها على الزناد وينتهي كلّ شيء، أمّا في ذلك الزمان فهي بحاجة إلى قوّة بدنية وجهدٍ عضلي كبير.

الثاني: إنّ العباس(عليه السلام) كان مثقلاً بالآلام والمصائب التي أَلمّت به جرّاء فقده بني عمومته وبني إخوته، وهو ينظر إلى الجيش وقد أحدق بالنساء والأطفال وهم يتصارخون من شدّة الظمأ، وينظر إلى الحسين(عليه السلام) يطلب ناصراً فلا يُجاب.. فكلّ واحدة من هذه الرزايا لتنوء بالجبل الراسي، فلا شكّ في أنّها مرهقة له غاية الإرهاق.

كل ذلك وغيره يدلّ على أنّ الإعراض عن الماء ليس بالأمر السهل إطلاقاً، بل هو شيء في غاية المبالغة، فنال بذلك الذروة من المراتب، وألحقه الله تعالى بدرجة الأولياء؛ ولذا جاء في الزيارة هذا الوصف ـ أي: المبالغة ـ في موضعين:

1ـ «أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود؛ فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء»[5].

2ـ «أشهد وأُشهِد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريّون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه»[6].

النقطة الثالثة: في الوقت الذي جسّد فيه أبو الفضل العبّاس(عليه السلام) ـ من خلال هذا الموقف ـ وفاءه للحسين(عليه السلام) وعياله بأعلى المستويات، فقد جسّد فيه الانتصار على النفس في ساحة الجهاد الأكبر، وهو بذلك يعطينا درساً عملياً في تزكية النفس وتربيتها وترويضها، فقال بلسان الحال: إنّ الموقف المبدئي والعقدي قد يقتضي أحياناً ترك المباح فضلاً عن الحرام؛ ومن هنا يظهر سرّ بعض العبادات، كما في الصيام الذي نمتنع فيه عن المباحات نهاراً؛ لترتاض نفوسنا بالامتناع عن المحرّمات.

ولا يخفى أنّ تزكية النفس ليس بالأمر السهل؛ لأنّ الإنسان دائماً في صراع مع هذه النفس الأمّارة بالسوء، وليت الأمر يقف عند هذا الحدّ، فهناك إلى جانب النفس الأمّارة الشيطانُ أيضاً؛ ولذا جاء في الدعاء: «... الحمد لله والحمد حقّه كما يستحقّه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شرّ نفسي؛ إنّ النّفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحِم ربّي، وأعوذ به من شرّ الشيطان الذي يزيدني ذنباً إلى ذنبي»[7]، ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ أيضاً، فهناك الدنيا بكلّ مفاتنها وزخارفها ومغرياتها؛ لذا قال بعضهم:[8]

إبليس والدنيا ونفسي والهوى

كيف الخلاص وكلّهم أعدائي(2)

وأضف إلى ذلك ما شئت من الأموال والأولاد والنساء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة... كلّ ذلك من المغريات يُشكّل خندقاً أمام الإنسان؛ لذا عُبّر عن هذا اللون من الجهاد في الحديث الشريف بـ(الجهاد الأكبر) [9].

إذاً؛ هناك ساحتان: ساحة السيوف والرماح، وساحة الشهوات والملذّات، والعباس(عليه السلام) في هذا الموقف جسّد الانتصار في كلتا الساحتين.

النقطة الرابعة: إنّ من المقطوع به تاريخياً أنّ موت العبّاس لم يكن مسبَّباً عن العطش، ولو كان سببه العطش لشكّل ذلك خدشاً بموقفه الرافض لشرب الماء، بل إنّ الثابت أنّه(عليه السلام) استُشهد لأمرين:

الأوّل: النزيف الذي أعياه جرّاء قطع كفّيه وإصابة مواضع من جسده بالسهام.

الثاني: الضربة التي جاءته على أُمّ رأسه بعمود من حديد وأردته إلى الأرض، وقد كان إلى تلك اللحظة متماسك القوى، معانقاً اللواء بعضديه، وما سقط لواؤه على الأرض حتّى كان هو السابق إليها صريعاً مجدّلاً[10].

النقطة الخامسة: إنّ امتناع أبي الفضل(عليه السلام) عن شرب الماء في تلك الحال لا يدخل في باب الإيثار؛ لأنّ الإيثار هو الامتناع عن شيء لينتفع به آخرون، وإنّما يدخل في باب المواساة؛ لأنّ المواساة هي حرمان النفس من شيء محروم منه شخص آخر، لا لينتفع به الآخر، بل لتسوية الحال بحرمانه، وهي درجة أعلى من الإيثار.

ولهذا السبب؛ نرى تكرار لفظ (المواساة) في زيارة أبي الفضل(عليه السلام) المروية عن المعصوم، بينما لم ترد كلمة الإيثار، كما في قوله(عليه السلام): «أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي»[11].

هذه النقاط الخمس تُشكّل مرجِّحاً لفعل أبي الفضل العباس(عليه السلام) حين أعرض عن الماء، وأنّه فيه لله رضى ولرسوله(صلى الله عليه واله).

هذا جانب من جوانب كربلاء المملوءة بهذه المواقف، التي لا ينبغي أن نمرّ عليها بداعي استدرار الدمع وعرض المأساة فقط.

الملاحظة الثانية: هيكلية الخطبة

نعرض هذه الملاحظة ضمن النقاط الآتية:

النقطة الأُولى: من المستحسن جدّاّ أن يكون افتتاح الخطبة بالبسملة؛ فإنّ «كلّ أمرٍ ذي بال لا يُذكَر بسم الله فيه فهو أبتر»[12]، كما جاء في الروايات، وهي دالّة على ضرورة أن يبتدئ المسلم بالبسملة في كلّ الأحوال؛ ولهذا يذهب بعض المفسّرين إلى أنّ متعلّق الباء هو الابتداء، فيكون المعنى: ابتدائي باسم الله، أو أبتدئ باسم الله الرحمن الرحيم. ويذهب بعضٌ إلى أنّ متعلّق الباء الاستعانة، فيكون المعنى: أستعين باسم الله؛ يقول العلّامة الطباطبائي(رحمه الله): «فمتعلّق الباء في بسملة الحمد الابتداء، ويراد به تتميم الإخلاص في مقام العبودية بالتخاطب. وربّما يقال: إنّه الاستعانة، ولا بأس به، ولكن الابتداء أنسب»[13].

وعلى كلا التقديرين فإنّ الافتتاح بالبسملة أمرٌ راجح، وقد أكّد على ذلك السيّد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) في معرض بيانه لجملة من التوصيات العامّة للخطباء، فقد قال: «أوّلاً: البدء بالخطبة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، لا بشيء آخر، حتّى لو كان ذاكراً للحسين(عليه السلام)، فإنّ كلّ كلام لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر، وبالبسملة يمكن للخطيب أن يُعاذ في خطبته من الشيطان، وأن يؤيّد برحمة الرحمن»[14].

هذا شيء، والشيء الآخر: من الأفضل أن تُعقّب البسملة بالحمد لله تعالى والثناء عليه، وذكر النبي(صلى الله عليه واله)والصلاة عليه، فإنّه من كمال الخطبة وتمامها، سيّما وأنّ المعروف في تراثنا أنّ الخطبة التي لا تبدأ بالصلاة على النبي(صلى الله عليه واله)تُسمى بـ(البتراء) [15].

النقطة الثانية: المعروف لدى الجميع أنّ الخطباء الحسينيين يفتتحون مجالسهم إمّا بنص قرآني، أو حديثي، أو أدبي، ثمّ يجعلونه محور حديثهم، وينطلقون من مضامينه لعرض ما عندهم، لكنّنا نشاهد أحياناً أنّ بعضاً منهم يقدِّم النص ويذهب بعيداً عنه، فيكون هو في وادٍ والنصّ في وادٍ آخر، فلا تجد ثمّة ربط من قريب أو بعيد بين ما يعرضه وبين النص الذي ابتدأ به خطبته، وهذه من نقاط الضعف التي ينبغي للخطيب أن يتجاوزها في خطبته.

النقطة الثالثة: يحاول بعضٌ تكريس الخطبة برمّتها لعرض المأساة، وتصوير المواقف المؤلمة والمفجعة؛ لإثارة العواطف، واستدرار الدمع، بدعوى أنّ العشرة الأُولى من محرّم هي عشرةُ لوعة ومصاب فقط.

هذا الكلام ـ بشكل عام ـ غير صحيح؛ إذ من المفترض تكريس هذه العشرة لتربية المجتمع، وتعبئته نحو القيم التي حملها الإمام الحسين(عليه السلام)؛ وذلك لسببين:

السبب الأوّل: إنّ الحضور في هذه العشرة منقطع النظير؛ إذ يكون في الغالب حضوراً جماهيرياً واسعاً ومكثّفاً، ويضمّ أحياناً جمعاً من أبناء المذاهب الأُخرى، بل ومن الأديان الأُخرى، فلا يكاد يُقاس الحضور في مجالس العشرة الأُولى بأيّ وقتٍ آخر.

السبب الثاني: نرى أنّ الغالب من الناس في هذه العشرة مهيّؤون نفسياً للتفاعل مع ثورة الحسين(عليه السلام) وأهدافها النبيلة، ومتعاطفون مع موقفه.

وعليه؛ تُعتبر العشرة الأُولى من محرّم فرصة ذهبية لـمَن يُحسن اغتنامها من الخطباء في توجيه المجتمع نحو الثبات على الدين، والاستعداد للتضحية في سبيل الشرع المبين، والسير على خطى سيّد المرسلين، ورفض كلّ صنوف الاستكبار والاستعلاء والتفرعن، ومحاربة الظلم والطغيان حيثما حلّا، ونصرة المستضعفين والمظلومين حيثما كانوا، وما أجلّها من غايات! وجدير بفرسان صهوات المنابر الحسينية الحرّة الواعية أن يفعلوا ذلك؛ ليعكسوا صدى صوت الحسين(عليه السلام)، ويؤدّوا رسالتهم على أتمّ وجه، ولكي لا تضيع الجهود المبذولة من قِبل القائمين على المجالس، ولا تذهب الأموال المصروفة هباءً منثوراً، ولا تضيع أوقات الناس سدى، ومن دون فائدة تُذكر.

النقطة الرابعة: ينبغي أن يكون المنبر الحسيني خيمة يتفيّأ ظلالها المسلمون كافّة، فليس الحسين(عليه السلام) حسين الشيعة وحدهم، بل هو حسين الإسلام، وحسين الإنسانية كلّها؛ لأنّه حمل أهدافاً نبيلةً تسعى لتخليص الإنسان من سطوة الطغاة وإرهابهم؛ ومن هنا نجد كتّاباً وأُدباء من خارج الإسلام كتبوا عن الحسين(عليه السلام) وأثنوا على موقفه وإبائه[16].

وعلى هذا الأساس؛ يجب أن يكون الخطاب الحسيني خطاباً إسلامياً إنسانياً، لا مذهبياً متطرّفاً، ينأى به الخطيب عن كلّ ما يستفزّ مشاعر الناس والمسلمين وينفّرهم من المنبر، خصوصاً بعد أن لوحظ في السنوات الأخيرة أنّ الكثير من الناس ومن كافّة الملل والنحل من مسلمين وغيرهم يرتادون المجالس الحسينية، ويواظبون على الحضور فيها، بل أكثر من ذلك فقد أصبح المنبر الحسيني اليوم يقتحم البيوت بواسطة الفضائيات.

ولا يعني ذلك أن نبتعد عن إظهار الحقّ، وبيان الواقع، وإظهار ظلامة أهل البيت(عليهم السلام)، بل إنّ ذلك من صميم عمل المنبر، إلّا أنّ المفروض أن يتمّ ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن كما أمر به الكتاب العزيز، وبأُسلوب هادئ ومتين، وبحجّة قاطعة، وليس بلغة التهجّم والتطرّف؛ حتّى يتسنّى للمسلمين كافّة الوقوف على تاريخهم وإسلامهم الأصيل، ويعرف الناس أجمع إسلامنا المبني على العقل السليم، والفكر الهادف، والخُلق النبيل، ونكون بذلك قد أدّينا رسالة الحسين(عليه السلام).

النقطة الخامسة: لا شكّ في أنّ الكثير من الكتّاب كتبوا عن نهضة الإمام الحسين(عليه السلام)، وحاولوا أن يبحثوا عن دوافعها ومنطلقاتها، ولهم في ذلك آراء ومذاهب عجيبة غريبة، لا يتّسع المجال لذكرها في هذا المختصر، وما نريد قوله هنا: إنّنا لسنا بحاجة إلى تلك التأويلات التي وصلت إلى مستوى أن جعلت القضية عبارة عن نزاع قَبلي أو شخصي، فما علينا إلّا الرجوع إلى ما قاله الحسين(عليه السلام) وصرّح به؛ لنكتشف بذلك الدوافع الحقيقية من دون جهد أو عناء، فإنّه(عليه السلام) قد ركّز على قضيّة أساسية في خطاباته، وهي: إنّ الدافع الرئيس لخروجه هو الإصلاح؛ وهذا ما أعلنه بنفسه عند بداية انطلاقه من المدينة؛ إذ كتب كتاباً أعطاه لأخيه محمد بن الحنفية، جاء فيه: «وأنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي(صلى الله عليه واله)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...»[17].

وقد سعى(عليه السلام) لهذه الغاية منذُ بداية دعوته وحتّى يوم شهادته، فقد كان يعِض جيش العدو، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ولكن طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.

فإذا كانت هذه الغاية القصوى لنهضته(عليه السلام)، فالأَوْلى أن تكون هي الغاية القصوى للمنبر المعبِّر عن تلك النهضة الناطق بلسانها، وبما أنّ العشرة الأُولى من محرّم هي أيّام الانطلاق والانفتاح على تلك النهضة، فلا بدّ أن تتركّز هذه الغاية في هذه الأيّام؛ إذ ينبغي أن يُعالج المنبر مشاكل الساحة الإسلامية عالمياً، وإقليمياً، ومحلّياً، فالمنبر الذي يعيش آمال الأُمّة وآلامها، ويسلّط الضوء على مشاكلها وحاجاتها الأساسية، ويحاول أن يضع لها حلولاً، هو المنبر الناجح والمطلوب.

النقطة السادسة: عن أمير المؤمنين(عليه السلام): «قليل الحقّ يدفع كثير الباطل، كما أنّ القليل من النار يحرق كثير الحطب»[18]. ومن وحي هذا الحديث، علينا أن نبتعد عن المبالغات والتهويلات، فإنّ في واقعة كربلاء من المأساة ما يُغني عن ذلك، وما تذوب منه الجبال الرواسي أسى ولوعة، فينبغي التثبّت في الروايات عند نقلها، وأخذها من مصادرها، وإسنادها إليها، وترك الأخذ من الأفواه، إلّا ممّن يوثق بروايته وصدق مقالته.

تجدر بنا الإشارة هنا أنّ بعض الخطباء ـ خصوصاً في العشرة الأُولى من محرّم ـ يحاول حشد أكبر عدد من الروايات المثيرة للعاطفة، وقد يكون بعضها غير معتبر، بل غير مروي أصلاً، وقد سمعنا من بعض أساتذتنا أنّه لا يجوز أن تقول: قال رسول الله(صلى الله عليه واله)، أو قال الإمام(عليه السلام)، إلّا أن تكون الرواية صحيحة، وإلّا فيجب العدول من التعبير بـ (قال) إلى (رُوي)، أو نسبة الرواية إلى مصدرها.

الملاحظة الثالثة: الكم والكيف

أكّد القرآن الكريم في أكثر من موقع أن ننفتح على تجارب الآخرين، خصوصاً الذين سبقونا؛ كي نعتبر من تجاربهم سلباً أو إيجاباً، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[19].

فإنّ لكلّ أُمّة نجاحات وإخفاقات، فاللازم أن تتعرّف الأُمّة اللاحقة على نجاحات الأُمّة السابقة وآليات ذلك النجاح؛ لتنتهي إلى النتيجة نفسها، وكذلك لا بدّ من أن تتعرّف على إخفاقات تلك الأُمم لتتجاوز عن كلّ ما أدّى بهؤلاء إلى تلك الإخفاقات.

وجدير بنا كخطباء أن نستفيد من تجارب الذين سبقونا في هذا الميدان، من خلال الاطّلاع على سيرتهم وخطواتهم نحو النجاح، فإنّ ذلك يعني تراكم الخبرة واختزان التجربة.

والذي أُريد أن أقوله: إنّ العشرة الأُولى من محرّم، تكثر فيها المجالس عادةً؛ لأنّ الجميع يريد أن يتشرّف بخدمة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، وقد أدّى ذلك إلى أنّ بعض الخطباء يُكثرون من المجالس اختياراً أو اضطراراً؛ لشحّة الخطباء مثلاً، أو كون أحدهم قراءته متميّزة، فيزداد عليه الطلب، فيقرأ في ثلاثة أماكن أو أكثر، مع أنّ ذلك يؤثر سلباً في الأداء، وينجرّ على حساب الأصالة والجودة، كما يؤدّي إلى إرهاق الخطيب وعدم استفادة المجتمع منه بالشكل المطلوب، فالأفضل أن لا يزيد عدد المجالس التي يقرأ فيها عن اثنين، والأفضل من ذلك أن يقرأ مجلساً واحداً، يصبّ فيه جهده، وعصارة فكره، وهذا ما أكّده الشيخ الدكتور أحمد الوائلي(رحمه الله) في كتابه تجاربي مع المنبر[20]، وهو صاحب تجربة كبيرة، وقد ذكر هناك مبرّرات مقبولة وراجحة لهذا الأمر، من الجدير أن يطالعها الخطباء الشباب.

وهناك أيضاً كتاب (الملحمة الحسينية) للشهيد المطهري(رحمه الله)، فإنّه كتاب قيّم، ويمكن الانتفاع به في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى بعض الكتب التي تتحدّث عن الخطابة بمعنييها الخاصّ والعامّ، كالفصل الخاصّ بصناعة الخطابة من كتاب المنطق للشيخ المظفّر(قدس سره)[21]، وغير ذلك.

الملاحظة الرابعة: عنونة الليالي

دأب الخطباء الحسينيون ـ جزاهم الله خيراً ـ في العشرة الأُولى من محرّم، على عنونة وتخصيص بعض الليالي ببعض الشخصيات التي كان لها دور مهمّ في نهضة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام)، فالليلة العاشرة هي ليلة الحسين(عليه السلام)، ويُذكر ـ عادةً ـ ما وقع فيها من سهر وبكاء، وصلاة ودعاء ووداع، والليلة التاسعة تُخصّص لعلي بن الحسين الأكبر(عليه السلام)، والليلة الثامنة تُخصّص للقاسم بن الحسن(عليه السلام)، والليلة السابعة ليلة حامل اللواء أبي الفضل العباس(عليه السلام)، والليلة السادسة ليلة مسلم بن عقيل(عليه السلام)، والليلة الخامسة ليلة الأنصار، وتبقى الليالي الأربع الأُولى لمواضيع شتّى تخضع لاختيار الخطيب حسبما يرى من مصلحة، على أنّها تدور في فلك الثورة الحسينية، وقد جرت العادة أن يتحدّث الخطيب في كلّ ليلة من هذه الليالي المعنونة عن مكانة الشخصية الخاصّة بتلك الليلة ومزاياها، وليس بالضرورة أن يقتصر الحديث عن تلك الشخصية، بل ربما يكون الموضوع عاماً تربوياً، أو اجتماعياً، أو أخلاقياً، أو في أيّ بُعدٍ من أبعاد المعرفة، ويُختم في النهاية بالشخصية المقصودة.

أقول: وقد لوحظ منذُ سنوات عدّة أنّ جملة من الخطباء يخصّصون الليلة الرابعة بأُمّ البنين(عليها السلام)، كما لوحظ في السنتين الماضيتين تخصيص الليلة الثانية بالإمام الحسن السبط(عليه السلام)، ولكن المعهود عند الكثير من الخطباء أنّ الليلة الثانية مختصّة بفاطمة الصغرى الملقّبة بالعليلة، ولا تعارض في البين، فيمكن أن يكون الحديث عن الحسن السبط(عليه السلام)، وختام المجلس بذكرها(عليها السلام).

وعليه؛ نركّز حديثنا في هذه الملاحظة على الليالي الآتية:

ليلة أُمّ البنين

فيما يخصّ (ليلة أُمّ البنين) ـ وهي لا ريب في أنّها تستحقّ الإشادة؛ لمواقفها الكريمة من أهل البيت(عليهم السلام) ـ لا بأس بأن يُعمّم الموضوع تحت عنوان: (ليلة المرأة المجاهدة)، فتكون الأحاديث فيها متنوّعة، بأن يعمّ النسوة اللواتي ساهمن في رسم لوحة كربلاء، كأُمّ عمر بن جنادة[22]، وأُمّ وهب الكلبي[23]، وسائر زوجات أصحاب الحسين(عليه السلام)، وكذلك النساء في ساحات جهادية أُخرى كطوعة التي استضافت مسلم بن عقيل(عليه السلام)[24]، وغيرها.

ولا شكّ في أنّ العقيلة زينب(عليه السلام) على رأس قائمة النساء، فما من خطيب ينعى الحسين(عليه السلام) إلّا ويذكر إلى جانبه شريكته في المصائب والمحن، ولكن من المؤسف جدّاً أن نقتصر على ذلك طيلة أيّام محرّم الحرام وصفر من دون ذكر شيء من مواقفها الجهادية أو سيرتها الشخصية، فلا بدّ أن تأخذ مواقف السيّدة زينب(عليها السلام) وسماتها حيّزاً من الحديث في مجالس العزاء والوعظ، تلك المرأة التي كان لها الدور الكبير في نشر أهداف النهضة الحسينية وشعارها، إلى الحدّ الذي يصفها بعض الشعراء بأنّها شاطرت الحسين(عليه السلام) نهضته، فقد قال:[25]

وتشاطرت هي والحسين بدعوة		حتم القضاء عليهما أن يندبا
هذا بمشتبك النصول وهذه		في حيث معترك المكاره في السبا (4)

فهي التي فقدت سبعة من إخوتها أبناء أمير المؤمنين(عليه السلام)، وضحّت باثنين من أبنائها ـ أو أحد أبنائها بناءً على أنّ الثاني ابن زوجها ـ كما فقدت ستة من بني أخويها الحسن والحسين(عليهما السلام) ـ ثلاثة من أبناء الحسن(عليه السلام)، وثلاثة من أبناء الحسين(عليه السلام) ـ وعصبة من بني عمومتها يقربون من التسعة أيضاً، وإلى ذلك يُشير الشاعر:[26]

عين جودي بعبرة وعويل		واندبي إن ندبت آل الرسول
سبعة كلّهم لصلب عليّ		قد أُصيبوا وتسعة لعقيل

إنّ بعضاً من هذه الفجائع لتنوء بالجبال الرواسي، ولكنّها(عليها السلام) رغم ذلك كلّه قامت بمهمّتها خير قيام، فقد كان حفظ الإمام زين العابدين(عليه السلام) ملقى على عاتقها بعد مقتل الحسين(عليه السلام)، وهي المكلّفة برعاية أُسرة ضاعت بين خيل ورجال ونار، مشرّدة مسبية في الأقطار، ولم تنهر قواها لحظة واحدة، بل كانت تلملم قواها لمواصلة الدرب ومواجهة الطواغيت، فهي لسان الثورة وإذاعتها الناطقة، وهي التي كشفت الزيف الأُموي، وأماطت اللثام عن وجه الحقيقة، وحطّمت العروش المتفرعنة.

إنّ كلّ ذلك يمكن أن يكون قاعدة للانطلاق إلى الحديث عن المرأة والأدوار التي يمكن أن تؤدّيها في حياتها، والحديث عن حقوق المرأة ومكانتها في الإسلام، وردّ شبهات الأعداء بهذا الصدد، إلى غير ذلك من المواضيع ذات الصلة بالمرأة، ولا بأس بأن يُختم الكلام عن أُمّ البنين(عليها السلام) كما جرت العادة.

ليلة الحسن السبط(عليه السلام)

هناك التفاتة لطيفة من بعض الخطباء، وهي تخصيصهم الليلة الثانية للإمام الحسن السبط(عليه السلام)، وهي مناسبة جيّدة للحديث عن علاقة صلح الإمام الحسن(عليه السلام) بنهضة الإمام الحسين(عليه السلام)، والفرق بين الأُسلوبين في مواجهة السلطة، كما يمكن الحديث عن دور الحسن(عليه السلام) في كشف الزيف الأُموي والمساهمة في توعية الأُمّة تجاه هذا الحزب؛ الأمر الذي مهّد الطريق لإنجاح الحركة الحسينية.

ويمكن الحديث في هذه الليلة عن مساهمة أبناء الحسن(عليه السلام) في كربلاء، وهم أربعة:

1ـ الحسن المثنّى، فقد قاتل وأُصيب بثماني عشرة جراحة، وقطعت يده اليمنى ولم يُستَشهد[27]، وبعد انتهاء المعركة حمله أخواله وقاموا بمعالجته وإرساله إلى المدينة[28].

2ـ عبد الله الأكبر، وأُمّه أُمّ ولَد، وتُدعى (رملة)، فهو أخو القاسم لأُمّه وأبيه، برز قبل القاسم واستُشهد سلام الله عليه[29]، وهو قليلاً ما يُذكر.

3ـ القاسم، وهو المخصوص بالليلة الثامنة.

4ـ عبد الله الأصغر، وعمره إحدى عشرة سنة، وبما أنّ الحسن استُشهد سنة (50 هـ)، وكربلاء وقعت في أوائل (61هـ)، فمن المحتمل أن يكون عمره يوم وفاة أبيه أشهراً، أو لعلّ الإمام الحسن(عليه السلام) قد تركه حملاً في بطن أُمّه ووُلِد بعد وفاة أبيه.

ليلة الطفولة

عوداً على بدء، لا ينبغي أن نغفل ما للطفولة من دور في إثراء واقعة الطف بالمواقف التضحوية المشحونة بالعاطفة، الممزوجة باللوعة؛ ومن هنا كان من المناسب ـ أيضاً ـ أن نخصّص للطفولة ليلة من العشرة ـ ولتكن الليلة الثالثة مثلاً ـ نجعل منها قاعدة للحديث عن اهتمام الإسلام بالطفولة من حيث التربية وأدوارها، والتعليم وأطواره، إلى غيرها من الحيثيات، ثمّ نُنهي الحديث بأحد رموز الطفولة في كربلاء، ومنها على سبيل المثال:

1ـ عبد الله الرضيع بن الحسين(عليه السلام)، الذي أصابه سهم ولم يبلغ من العمر ستّة أشهر[30].

2ـ عبد الله الأصغر بن الحسن(عليه السلام)، الذي ذُبح بحجر الحسين(عليه السلام) ساعة مصرعه، قال المقرّم: «ثمّ إنّهم لبثوا هُنيئة وعادوا إلى الحسين وأحاطوا به، وهو جالس على الأرض لا يستطيع النهوض، فنظر عبد الله بن الحسن السبط(عليه السلام) ـ وله إحدى عشرة سنة ـ إلى عمّه وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتدّ نحو عمه، وأرادت زينب حبسه، فأفلت منها، وجاء إلى عمّه، وأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين، فصاح الغلام: يابن الخبيثة، أتضرب عمّي؟! فضربه واتّقاها الغلام بيده فأطنّها إلى الجلد، فإذا هي معلّقة، فصاح الغلام: يا عمّاه.ووقع في حجر الحسين، فضمّه إليه، وقال: يابن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير؛ فإنّ الله تعالى يُلحقك بآبائك الصالحين، ورفع يديه قائلاً: اللّهمّ إن متّعتهم إلى حين ففرّقهم تفريقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدوا علينا يقاتلونا. ورمى الغلام حرملة بن كاهل بسهمٍ فذبحه وهو في حجر عمّه...»[31].

3ـ ولدا مسلم بن عقيل، وهما: عبد الله ومحمد[32].

4ـ أحمد بن مسلم بن عقيل، الذي فرّ من الخيام ساعة هجوم الخيل واختفى، ولم يظهر إلّا بعد خروج المختار [33].

والأفضل أن ينتهي بالحديث عن عبد الله الرضيع ويكون عنوان الليلة: ليلة الرضيع؛ لأنّ هذا الطفل خلّف لوعة وأسى في قلوب الأئمّة(عليهم السلام) لم يخلّفها أيّ مصاب آخر، ويدلّ على ذلك جملة من الأُمور، منها:

1ـ قول الإمام الحسين(عليه السلام) فيما يُروى عنه حين ذُبح الرضيع: «اللهمّ لا يكون عليك أهون من فصيل [ناقة صالح]»[34].

2ـ أخْذ الإمام الحسين(عليه السلام) من دمه الطاهر ورميه نحو السماء[35].

3ـ رجوع الإمام الحسين(عليه السلام) بعد مصرع الرضيع ودخوله في خيمة الإمام زين العابدين(عليه السلام) وجلوسه هناك منكسراً[36].

4ـ دفْن الإمام السجاد(عليه السلام) لهذا الطفل على صدر أبيه(عليه السلام)، فقد أوصاه: «بُنيّّّ علي، وسِّد رضيعي إلى جنبي»[37].

5ـ دعوة الإمام زين العابدين(عليه السلام) على قاتل الرضيع بقوله: «اللّهمّ أذقه حرّ الحديد، اللهمّ أذقه حرّ الحديد، اللّهمّ أذقه حرّ النّار»[38].

ليلة الهجرة

يمكن أن تُخصص الليلة الأُولى للحديث عن الهجرة وما يدور في فلكها، ويمكن الاستفادة من هذا العنوان في معالجة قضايا الجاليات الإسلامية في بلاد الغربة، وطرح مشاكلهم، ومحاولة إيجاد الحلول لها.

ومن خلال ما تقدّم يمكننا ترتيب العشرة الأُولى من محرّم بالشكل الآتي:

الليلة الأُولى: ليلة الهجرة.

الليلة الثانية: ليلة الحسن السبط(عليه السلام)، وتُختم بالعليلة.

الليلة الثالثة: ليلة الطفولة.

الليلة الرابعة: ليلة المرأة المجاهدة (أُمّ البنين).

الليلة الخامسة: ليلة مسلم بن عقيل(عليه السلام).

الليلة السادسة: ليلة الأنصار.

الليلة السابعة: ليلة أبي الفضل(عليه السلام).

الليلة الثامنة: ليلة الشباب (القاسم بن الحسن(عليهما السلام)).

الليلة التاسعة: ليلة علي الأكبر(عليه السلام).

الليلة العاشرة: ليلة الوداع (ليلة الحسين(عليه السلام)).

نعم، إنّ تخصيص هذه الليالي بهذه العناوين لا يعني تضييق الخناق على الخطيب وحصره بالحديث عن هذه العناوين فقط، فالمجال مفتوح أمامه للحديث عن شتّى المواضيع، ولكن عليه مراعاة العناوين بالإشارة إليها وتذييل الموضوع بها، وهنا تظهر براعة الخطيب.

الخاتمة

إنّنا بحاجة إلى دعاة واعين يدركون ما حولهم، ويعالجون المشاكل بموضوعية، ويعرضون الإسلام بوجهه الأبلج، وصورته الناصعة؛ لأنّ عدم الموضوعية، وطرح الأفكار الهابطة لا ينعكس على الداعي ومنبره فقط، بل على الدين الذي ينتمي إليه، ومعنى ذلك الإساءة إلى الإسلام وإلى صاحب النهضة(عليه السلام).

نسأله تعالى أن يوفّق الجميع للعلم والعمل الصالح، ويجعلنا من خيرة الدعاة لنهج محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[39].

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1. إبصار العين في أنصار الحسين(عليه السلام)، محمد السماوي، تحقيق: الشيخ محمد جعفر الطبسي، الطبعة الأُولى، 1419هـ/1377ش.

2. أضواء على ثورة الحسين(عليه السلام)، السيّد محمد الصدر، دار ومكتبة البصائر، بيروت ـ لبنان، هيئة تراث السيّد الشهيد الصدر، النجف الأشرف ـ العراق، 1431هـ/2010م.

3. بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، تحقيق: السيّد إبراهيم الميانجي، ومحمد الباقر البهبودي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة، 1403هـ/1983م.

4. تجاربي مع المنبر، أحمد الوائلي، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان.

5. عيون الأخبار، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، شرح: يوسف علي طويل، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، 1424هـ/2003م.

6. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتُهر من الأحاديث على ألسنة الناس، إسماعيل ابن محمد العجلوني، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1408هـ/1988م.

7. ليلة عاشوراء في الحديث والأدب، عبد الله الحسن، الطبعة الأُولى، 1418هـ.

8. مجمع مصائب أهل البيت(عليهم السلام)، محمد الهنداوي، دار المجتبى، لبنان، الطبعة الثالثة، 1417هـ/1996م.

9. المعارف، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق: ثروت عكاشة، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، 1969م.

10. مفاتيح الجنان، عبّاس القمّي، تعريب: السيّد محمد رضا النوري النجفي، مكتبة العزيزي، قم، الطبعة الثالثة، 1385ش/2006م.

11. مقتل الحسين(عليه السلام)، السيّد عبد الرزّاق الموسوي المقرّم، انتشارات المكتبة الحيدرية، قم، الطبعة الأُولى، 1425هـ/1383ش.

12. المنطق، محمد رضا المظفّر، مؤسّسة إسماعيليان، قم، الطبعة التاسعة، 1421هـ.

13. ميزان الحكمة، محمد الريشهري، دار الحديث، الطبعة الأُولى.

14. الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة.

15. وسائل الشيعة، محمد بن الحسن المعروف بـ(الحرّ العاملي)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المشرّفة، الطبعة الثانية، 1414هـ.

[1] المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص268.

[2] الحشر: آية9.

[3] اُنظر: المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص268.

[4] القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: ص638.

[5] المصدر السابق: ص640.

[6] المصدر السابق: ص639.

[7] القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: ص74.

[8] العجلوني، إسماعيل بن محمد، كشف الخفاء: ج1، ص40.

[9] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج67، ص65.

[10] اُنظر: المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص269.

[11] القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: ص641.

[12] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج7، ص170.

[13] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج1، ص17.

[14] الصدر، محمد، أضواء على ثورة الحسين(عليه السلام): ص184.

[15] اُنظر: ابن قتيبة الدينوري، عبد الله بن مسلم، عيون الأخبار: ج2، ص263.

[16] اُنظر على سبيل المثال كتاب: الحسين في الفكر المسيحي للكاتب المسيحي أنطوان بارا.

[17] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.

[18] الريشهري، محمد، ميزان الحكمة: ج1، ص645.

[19] العنكبوت: آية20.

[20] اُنظر: الوائلي، أحمد، تجاربي مع المنبر: ص147.

[21] اُنظر: المظفّر، محمد رضا، المنطق: ص337.

[22] اُنظر: السماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين(عليه السلام): ص159.

[23] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص17.

[24] اُنظر: المصدر السابق: ج44، ص350.

[25] الحسن، عبد الله، ليلة عاشوراء في الحديث والأدب: ص156.

[26] ابن قتيبة الدينوري، عبد الله بن مسلم، المعارف: ص204.

[27] اُنظر: المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص263.

[28] اُنظر: الأميني، عبد الحسين، الغدير: ج3، ص271.

[29] اُنظر: المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص264.

[30] اُنظر: المصدر السابق: ص272.

[31] المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص280.

[32] اُنظر: السماوي، محمد، إبصار العين في أنصار الحسين(عليه السلام): ص223.

[33] اشتُهر ذلك على ألسن الخطباء ولم أجد له مصدراً بحدود اطلاعي.

[34] المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص273. أقول: في المصدر: اللّهمّ لا يكون عليك أهون من فصيل، ولكن بعض المصادر أضافت: ناقة صالح.

[35] اُنظر: المصدر السابق: ص272.

[36] اشتُهر ذلك على ألسن الخطباء ولم أجد له مصدراً بحدود اطلاعي.

[37] ذكرت جملة من الروايات أنّ الحسين(عليه السلام) حفر للطفل بسيفه ودفنه بظهر الخيمة، والمشهور على ألسن الخطباء أنّ زين العابدين(عليه السلام) لـمّا دفن الحسين(عليه السلام) خرج الصوت من النحر الشريف: بُني علي، وسِّد رضيعي إلى جنبي. ولم أعثر له على مصدر. وقيل: إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) أوصاه: إذا جئت لمواراة الأجساد فوسِّد رضيعي إلى جنبي. اُنظر: الهنداوي، محمد، مجمع مصائب أهل البيت(عليهم السلام): ج2، ص56.

[38]«عن المنهال بن عمرو قال: دخلت على علي بن الحسين، منصرفي من مكة، فقال لي: يا منهال، ما صنع حرملة بن كاهل الأسدي؟ فقلت: تركته حيّاً بالكوفة. قال: فرفع يديه جميعاً، ثمّ قال(عليه السلام): اللهمّ أذقه حرّ الحديد، اللهمّ أذقه حرّ الحديد، اللهمّ أذقه حرّ النّار. قال المنهال: فقدمت الكوفة، وقد ظهر المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وكان لي صديقاً، فكنت في منزلي أيّاماً حتّى انقطع الناس عنّي، وركبت إليه فلقيته خارجاً من داره، فقال: يا منهال، لم تأتنا في ولايتنا هذه، ولم تهنئنا بها، ولم تشركنا فيها؟ فأعلمته أنّي كنت بمكّة وأنّي قد جئتك الآن، وسايرته ونحن نتحدّث حتّى أتى الكنّاس فوقف وقوفاً كأنّه ينظر شيئاً، وقد كان أُخبر بمكان حرملة بن كاهل فوجّه في طلبه، فلم يلبث أن جاء قوم يركضون وقوم يشتدون، حتّى قالوا: أيّها الأمير البشارة، قد أُخذ حرملة بن كاهـل، فمـا لبثنا أن جيء به، فلمّا نظر إليه المختار، قال لحرملة: الحمد لله الذي مكّنني منك، ثمّ قال: الجزّار الجزّار. فأُتي بجزّار، فقال له: اقطع يديه، فقُطعتا، ثمّ قال له: اقطع رجليه، فقُطعتا، ثمّ قال: النّار النّار. فأُتي بنارٍ وقصبٍ فأُلقي عليه فاشتعل فيه النّار، فقلت: سبحان الله! فقال لي: يا منهال، إنّ التسبيح لحسنٌ ففيمَ سبّحت؟ فقلت: أيّها الأمير، دخلت في سفرتي هذه منصرفي من مكّة على عليّ بن الحسين(عليه السلام)، فقال لي: يا منهال، ما فعل حرملة بن كاهل الأسدي؟ فقلت: تركته حيّاً بالكوفة، فرفع يديه جميعاً فقال: اللهمّ، أذقه حرّ الحديد، اللهمّ، أذقه حرّ الحديد، اللهمّ، أذقه حرّ النّار. فقال لي المختار: أسمعت عليّ بن الحسين÷ يقول هذا؟ فقلت: والله، لقد سمعته يقول هذا، قال: فنزل عن دابّته وصلّى ركعتين، فأطال السجود، ثمّ قام فركب وقد احترق حرملة وركبت معه... ». المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص332.

[39] فصّلت: آية33.

المنبر الحسيني في العشرة الأُولى من محرّم توصيفٌ وتقويم