أقامت مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات الحسينية، ندوتها السادسة والسبعين تحت عنوان(النفس المطمئنة الحسينية.. كيف نفهمها؟ وكيف نقتدي بها؟)، وكان المحاضر في هذه الندوة سماحة العلامة السيّد منذر الحكيم، وقد عمل قسم مجلّة الإصلاح الحسيني على إعداد هذه الندوة وترتيبها، مع تصرّف فني بسيط.

مقدّمة

سيظلّ الإمام الحسين (عليه السلام) تاجاً متلألئاً في مِفرق الدهر، لا تخبو جواهره، ولا ينطفئ بريقه، وسيبقى (عليه السلام) آيةً بينةً تصدح بها حناجر الأزمان، وترددها مواكب الأجيال، وتقتدي بها قوافل السالكين في مدارج الكمال، ومن ذلك أنّه(عليه السلام) يُعدّ المصداق الأكمل والأمثل والأتم للآيات الأخيرة من سورة الفجر الكريمة التي تُشير إلى النفس المطمئنة ومنزلتها ومآلها عند الله، داخلةً في عبادهِ وداخلةً جنته، وقد حازت الرضا من طرفيه وهو شرفٌ لا يُدانى، اختصت به نفس الحسين المطمئنة، ولعلّ صدق نزول هذه الآيات في الإمام الحسين(عليه السلام) يكاد يكون غائباً عن بعض التفاسير، ولا سيما تلك التي لم يتلمس أصحابها أعماق نفس الإمام الحسين(عليه السلام) المفعمة بالرضا والإيمان والاطمئنان، سوى أنّ صادق آل محمد صرّح في رواية له(عليه السلام) بأنّ هذه الآيات نزلت في جدّه الحسين(عليه السلام) ، ومعلومٌ أنّ هذه الرواية لا تنافي عموم الآية وشُمولها، ولكنّها بيانٌ للمصداق الأبرز والأجدر، ولهذا فإنّ سورة الفجر كما ورد في تسميتها تسمّى أيضاً بسورة الحسين(عليه السلام) ^{^[1]}.

إنّ خلود الإمام الحسين(عليه السلام) وتعالي شخصيته الشريفة التي تزداد سموّاً وعلوّاً ومعرفةً على تعاقب العصور، منقبة لم تأتِ من فراغ، بل من كمال الخلق وسمو الروح، ورفعة المرتبة، والتفاني والتضحية والوفاءِ والفداء، وعصمة القلب وطهارة النفس، وهي صفاتٌ وسمات في الخلقِ والخُلق، تشرئب لها الأعناق، وتهوي إليها الأفئدة، ويتطلّع إليها أولئك الراغبون في رضا المحبوب، السائرون إليه العائدون إلى حماه راضين مرضيين، وهي مسيرةٌ لا شك موغلةٌ في العناء والمشقة والتحمّل، ودربٌ منتهاهُ إمّا النصر وإمّا الشهادة، بل بلوغٌ للفتح كما عبّر عنه الإمام الحسين(عليه السلام) في أحد نصوص نهضته الإنسانية المباركة^{^[2]}.

إنّ ثقة الإمام الحسين(عليه السلام) بخالقهِ وبارئهِ، ورجاءه في عفوه، وعون الغفور القدير، ويده الممتدة إلى ولي كلّ نعمة، والمرفوعة إلى صاحب كلّ حسنة، والمتطلعة إلى منتهى كلّ رغبة، هي منبر اطمئنان نفسه ومصدر براعته وابتهاله ومناجاته، وهي إشارات الفهم وتنبيهات الاقتداء، عندما يقف تحت نقعاء اشتباك الأسنّة والرماح، وبين قرع السيوف وحرّ الطفوف، ووقع حوافر الخيل والجياد، ونزول الشدائد والبلايا، وحلول الحتوف والمنايا، وهو يقول: «اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمَّن سواك، ففرجته وكشفته، وأنت ولي كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة»^{^[3]}.

بعد هذه الأسطر المقتضبة والمتواضعة في بحر عظمة الحسين(عليه السلام) ، نأتي إلى موضوعنا الذي اخترناه لهذه الندوة، وهو:(النفس المطمئنة الحسينية.. كيف نفهمها؟ وكيف نقتدي بها؟).

بداية نطرح سؤالين ـ وربما هذا غير متعارف في عنوان الندوة أو البحث، ولكن تعمّدنا ذلك لنقف عند مسألتين أو إشكاليتين في وضعنا المعاصر ـ السؤال الأول أو الإشكال الأول الذي نواجههُ، هو مشكلة المنهج والمنهجية في فهم الشيء، وهذا غائب في كثير من البحوث والمحاولات العلمية التي نجدها في ثنايا الكتب والرسائل الجامعية أو الحوزوية. والسؤال الثاني يرتبط بكيفية الاقتداء، وإشكاليته المترتبة على منهج الفهم لشخص القدوة؟

أصول الفهم في القرآن الكريم

هناك ثلاثة أصول في القرآن الكريم نحاول أن نستفيد منها في هذه الدراسة:

الأصل الأول: التأكيد على المنهجية في الفهم والتطبيق، فإذا أردنا أن نفهم شيئاً ما فلا بدّ أن نتعرّف على المنهج الذي نتوصل به إلى فهم ذلك الشيء.

الأصل الثاني: التأكيد على طرح الملاكات والمعايير قبل طرح النماذج والمصاديق.

الأصل الثالث: إنّ القرآن الكريم يزاوج بين النظرية والتطبيق، أو بعبارة أُخرى: يزاوج بين الملاك والمعيار وبين المصاديق؛ لأنّه في كلّ واحد من هذه الأصول توجد هناك مجالات للانحراف عن منهج الفهم الصحيح، فالقرآن الكريم ـ باعتباره كتاب هداية ـ يريد أن يعطينا المفاتيح الأساسية التي توصلنا إلى الحقيقة المنشودة.

ومن أهمّ المفاتيح الأساسية والمناهج التي يطرحها القرآن الكريم للوصول إلى المعرفة هو السؤال، قال تعالى:(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)^{^[4]}، يعني: أهل العلم، وكما ورد في الحديث الشريف: «العلم خزائن ومفاتيحه السؤال»^{^[5]}. ومن هنا؛ قلنا: ينبغي أن نبادر إلى طرح السؤال في كلّ موضوع، فإذا أردنا أن نتكلّم عن الشخصية الحسينية، وأنّه(عليه السلام) المصداق الأكمل للنفس المطمئنة، فلا بدّ أن نطرح السؤال المناسب وهو: ما هو المنهج الذي ينبغي أن نتبعه للوصول إلى هذا الفهم؟ والفهم، هو طريق العمل أو مقدّمة العمل، كما أنّ نوع الفهم هو الذي يؤثر على نوع العمل وعلى نوع الاقتداء.

مكوّنات المنهج

إنّ مصطلح المنهج من المصطلحات الغائمة في بعض الأحيان، فكثير ما يقال: منهج الفهم، ويراد به الأسلوب أو الطريقة، كما يقال في طريقة البيان أو أسلوب البيان.

ونقصد بالمنهج ثلاث نقاط أساسية، هي مكونات المنهج:

النقطة الأُولى: مصدر استقاء المعلومة أو مصدر الفهم، وهذه نقطة محورية في المنهج.

النقطة الثانية: سلامة المحتوى الذي يُراد الوصول إليه، وهي نقطة مهمّة في المنهج.

النقطة الثالثة: الأدوات التي تجعلنا نطمئن إلى سلامة المعلومة أو إلى سلامة الفهم.

من هنا؛ يتبيّن المراد من سؤالنا المتقدّم حول المنهج الذي ينبغي اتّباعه من أجل فهم شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) والاقتداء بها؛ فإنّنا نستقي المعلومات ـ حول هذه الشخصية العظيمة ـ من مصادر متعددة، فتارةً يكون مصدر المعلومة آيات القرآن الكريم المرتبطة بالإمام الحسين(عليه السلام) ، وأُخرى يكون المصدر سيرة الإمام الحسين(عليه السلام) ، أو مصادر التاريخ، أو ما قيل في الحسين(عليه السلام) ، أو كلمات رسول الله(صلى الله عليه واله) ، أو أقوال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، وهكذا.

وأهمّية مصدر المعلومة نابعة عن مدى تأثيرها على طبيعة فهم الإنسان، ومقدار وثوقه بهذه المصادر التي تنقل المعلومة؛ ولذا فإنّ التصوير الذي يترسخ في ذهن المتلقي سوف ينعكس على سلوكه أو على طبيعة اقتدائه.

مراتب النفس الإنسانية^{^[6]}

حينما نستقرئ آيات القرآن الكريم حول النفس الإنسانية نلاحظ ثلاثة مصطلحات:

1ـ النفس الأمّارة: إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات، فليس للإنسان أن يبرّئ نفسه من الميل إلى السوء، وإنّما له أن يكفّ عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشرّ؛ وذلك برحمة من الله سبحانه:(وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)^{^[7]}.

2ـ النفس اللوّامة: قال تعالى:(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)^{^[8]}، والنفس اللوّامة هي الضمير الذي يؤنّب الإنسان على ما اقترفه من السيئات والآثام، خصوصاً بعدما يفيق من سكراتها، فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه، وهذا يدل على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات، وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحقّ والعدل، ولكلٍّ تجلٍّ خاصّ، فانّ غلبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل، فيقترف المعاصي والآثام، ولكنّه ما إن تخمد شهوته حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرّات اللّذة، فتستيقظ النفس اللوّامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حدٍّ ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار؛ لعدم تحمله وطأة تلك الجريمة، وهذه النفس حيّة يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.

3ـ النفس المطمئنّة: وهي النفس التي توصلها النفس اللوّامة إلى حدّ لا تعصف بها عواصف الشهوة، وتطمئنّ برحمة الربّ وتحسّ بالمسؤولية الموضوعة على عاتقها أمام الله وأمام المجتمع، يقول سبحانه:(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)^{^[9]}، فصاحب هذه النفس يمتلئ بالسرور والفرح عند الطاعة، وتجد في صميمها لذّة للطاعة، وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان.

خصائص النفس المطمئنّة

إنّ القرآن الكريم باعتباره أهم مصدر من مصادر المعرفة خصّص سورة الفجر لبيان قمّة التكامل الإنساني، أو قمة الكمال البشري الذي يتجلّى في النفس المطمئنة، ذات الخصائص والمميّزات التي تبيّن أنّ الله سبحانه وتعالى قد فتح لنا طريق الفهم للوصول إلى النموذج المطلوب من التكامل الإنساني وتطبيقه ـ كما في بعض النصوص الروائية ـ على الشخصية الحسينية، فقد رُوي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن علي(عليهما السلام) وارغبوا فيها رحمكم الله تعالى. فقال له أبو أسامة وكان حاضر المجلس: وكيف صارت هذه السورة للحسين(عليه السلام) خاصّة؟ فقال: أَلا تسمع إلى قوله تعالى:(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) الآية إنّما يعني الحسين بن علي(عليهما السلام) ، فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية، وأصحابه من آل محمد(صلى الله عليه واله) هم الراضون عن الله يوم القيامة، وهو راضٍ عنهم. وهذه السورة في الحسين ابن علي(عليهما السلام) وشيعته وشيعة آل محمد خاصّة، مَن أدمَن قراءة(وَالْفَجْرِ)كان مع الحسين ابن علي(عليهما السلام) في درجته في الجنّة، إنّ الله عزيز حكيم»^{^[10]}.

وهذا لا ينافي أن ينطبق هذا النموذج الكامل على رسول الله(صلى الله عليه واله) ، وعلى جميع أهل البيت(عليهم السلام) باعتبارهم نور واحد، ولكن ربما هناك خصوصية في الشخصية الحسينية أشار إليها رسول الله(صلى الله عليه واله) وأهل البيت(عليهم السلام) في جملة من الروايات، كما في الحديث المعروف عن رسول الله(صلى الله عليه واله) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط»^{^[11]}، وقوله(صلى الله عليه واله) : «علي بن أبي طالب(عليه السلام) أفضل خلق الله غيري، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما»^{^[12]}.

أمّا إذا أردنا أن نقف على معالم النفس المطمئنّة وخصائصها من خلال النص القرآني، فنلاحظ في الآيات المباركة الأخيرة مجموعة خصائص تعبِّر عن أنّ هذه النفس هي أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها الإنسان في الحياة(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)^{^[13]}، وهذه الخصائص والمميّزات لا نجدها في النفس اللوّامة ولا في النفس الأمّارة بالسوء، وهي كما يلي:

الخاصية الأُولى: الاطمئنان

إنّ مصطلح(النفس المطمئنّة) فيه دلالة بيّنة على أنّ الاطمئنان الذي ذكره الله سبحانه وتعالى لهذه النفس يجعلها في مرتبة الريادة، بعد أن انتقلت من الحزن والخوف والقلق إلى أعلى مرتبة وهي مرتبة الاطمئنان، والآيات القرآنية الأُخرى تشرح هذا الاطمئنان وأسبابه.

الخاصية الثانية: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً)

إنّ الرجوع إلى الله تعالى، خاصيّة للنفس المطمئنة، أي هي النفس التي تعيش حالة الرجوع والارتباط بالله سبحانه وتعالى،(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، والإنسان الذي يعيش حالة الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى في كلّ لحظة من لحظات حياته، فهو يرتبط بالله ارتباطاً مطلقاً ودائمياً ويكون هدفه الأقصى والكمال الذي يريد الوصول إليه هو الله سبحانه وتعالى، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)^{^[14]}. إذاً؛ هذه النفس تعيش الحالة الكمالية أو التكاملية، وهي الارتباط الدائم بالمطلق ارتباطاً يجعلها في حالة الرجوع هذه.

الخاصية الثالثة: (رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً)

وتعني هاتان الصفتان أنّ هذه النفس قد بلغت هذه المرحلة(حالة الرضا) وهي أعلى حالة يمكن أن يصلها الإنسان في مسيره التكاملي، وقد أشارت إلى هذا المعنى مجموعة من الأحاديث الشريفة التي ذكرت مراتب الكمال الإنساني.

أمّا عن أيّ شيء يكون رضا النفس، هل عن الله تعالى؟ أو عن نفسها؟ أو عن الذي حصلت عليه؟

وهنا يمكن أن نتأمل في آيات القرآن الكريم التي تتكلّم عن الرضا، ومنها قوله تعالى:(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى)^{^[15]}، عن ماذا يرضى؟ ينبغي أن ندخل في تفسير مفصّل عن معنى هذا الرضا، وعن نوع الجزاء الذي سيُعطى لهذا العبد الأتقى، وهذا ما لا يسعه المقام. ولكن من الواضح أنّ الرضا يكون بقضاء الله وقدره، وبما قسم الله وبما قدر سبحانه وتعالى لنا من خير وكمال، وبما أراده لنا من مسؤوليات وواجبات، وهذا المعنى منصوص في الروايات الشريفة، فعن النبي(صلى الله عليه واله) أنّه قال: «أوحى الله إلى موسى(صلوات الله عليه) إنّك لن تتقرّب إليّ بشيء أحبّ إليّ من الرضا بقضائي»^{^[16]}، وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «نِعمَ القرين الرضا بقضاء الله»^{^[17]}. وعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : «الإيمان أربعة أركان: الرضا بقضاء الله، والتوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والتسليم لأمر الله»^{^[18]}.

ومن الآيات التي تناولت موضوع الرضا قوله تعالى:(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)^{^[19]}، وهنا أيضاً توجد لدينا روايات متعدّدة تبيّن كيفية ذلك الرضا ووقته، وأنّ رضى رسول الله(صلى الله عليه واله) منوط ببحث الشفاعة، ومدى تأثيرها في حصول الرضا لرسول الله(صلى الله عليه واله) وهو أحرص الناس على أُمته وأرحمهم بها^{^[20]}.

الفرق بين (راضية ومرضية)

ثمّ إنّ هذا الرضا الذي وصل إليه هذا العبد الراجع إلى الله سبحانه وتعالى مقرونٌ بأنّه مرضي، بمعنى أنّ صاحب النفس المطمئنة الذي وصل إلى مرتبة الرضا يتكامل في هذا الطريق حتّى يرضى الله عنه فتكون شخصيّته مرضية، وقد عبّر القرآن الكريم عن تكامل الإنسان في قوله تعالى:(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)^{^[21]}، فالنفس الإنسانية باعتبارها نفحة إلهية بإمكانها أن تستمر في مراحل تكاملها حتّى تصل مرحلة(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)^{^[22]}، أي: حتّى بعد عالم الدنيا تبقى النفس الإنسانية تستقي من فيض الله سبحانه وتعالى، فكما يبقى هذا التكامل في عالم الدنيا وهو يوم عمل لا حساب، كذلك يبقى في عالم ما بعد الحياة الذي هو يوم حساب لا عمل، وذلك فيما إذا بلغ الإنسان إلى مرتبة من الكمال يمكن أن يستمرّ فيها، فالآية(راضية مرضية) يمكن أن نعتبرها مرحلة من مراحل كمال هذا الإنسان، كما أنّ قوله تعالى:(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)، يمكن أن يعتبر مرحلة أُخرى من مراحل التكامل. إذاً؛ فالإنسان يمكن أن يصل إلى مرحلة الرضا بقضاء الله وقدره ثمّ يستمر ويتكامل.

كما أشارت إلى هذا التكامل الآيات القرآنية التي تتكلّم عن الإخلاص والمخلِصين والمخلَصين،(إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)^{^[23]}، وهم الذين قُبل إخلاصهم ووصلوا إلى مرحلة بحيث لا يستطيع الشيطان أن يمسّهم بسوء. إذاً؛ فالقرآن الكريم هنا بيّن لنا أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها الإنسان في مسيره التكاملي.

والمصداق الأتم والأكمل للشخصية المتكاملة هم أهل البيت(عليهم السلام) ، فعن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) : «نحن حجّة الله في عباده، وشهداؤه على خلقه، وأمناؤه على وحيه، وخزانه على علمه، ووجهه الذي يؤتى منه، وعينه في بريته، ولسانه الناطق، وبابه الذي يدل عليه، نحن العالمون بأمره، والداعون إلى سبيله، بنا عُرف الله وبنا عُبد الله، نحن الأدلّاء على الله، ولولانا ما عُبد الله»^{^[24]}.

وخير دليل على ذلك هي الزيارة الجامعة التي بيّنت أسباب وكيفيّة الوصول إلى هذا المستوى المرموق من التكامل.

التفسير البنائي للسورة

يمكن أن نطرح هنا تساؤلاً مفاده: ما هي العلاقة بين قوله تعالى:(وَالْفَجْرِ)وقوله تعالى:(لِّذِي حِجْرٍ)، وكذا ما بينها وبين هذه الشخصية المتكاملة التي بلغت القمّة في الكمال، أو الوصول إلى(النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) كما في التعبير القرآني؟

هذه النقطة تحتاج إلى إضاءة، وخلاصتها: لا بدّ أن تكون هناك علاقة بين هذا القسم بخصوص هذا الزمن الخاصّ(وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)^{^[25]}، وبين (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ)^{^[26]} أي: الإنسان اللبيب العاقل؛ لأنّ كلّ سورة قرآنية لها هندسة خاصّة، وبناية خاصّة، ويمكن أن نرجعكم في هذا المجال إلى كتاب(التفسير البنائي) للمرحوم الدكتور محمود البستاني^{^[27]}.

والتفسير البنائي لهذه السورة يختلف عن سورة الليل وعن سورة الضحى والسور الأُخرى؛ إذ نرى في هندسة هذه السورة ارتباطاً وثيقاً بين مطلع السورة ونهايتها وبين أجزاء السورة، فقد نقلتنا من(الفجر) إلى(ذي حِجر)، ثمّ إلى ثلاث حضارات إنسانية مميّزة ذكرها القرآن الكريم وانتهى بنا إلى أسباب انهيار هذه الحضارات ودمارها، كما نقلتنا إلى التصورات الخاطئة للإنسان التي تجعله ينحرف عن المسير المطلوب (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ... )^{^[28]}، وهذه التصوّرات عبارة عن: الخطأ في فهم الحياة، الخطأ في فهم المسؤوليات الملقاة على عاتق الإنسان، الخطأ في فهم الأهداف، الخطأ في فهم المسيرة، وهذه الأخطاء مع تطبيقاتها تنتهي بالإنسان إلى طريق مسدود.

ثمّ يأتي القرآن الكريم ليفتح أذهاننا ويرشدنا إلى المفتاح المهم الذي يغيّر من حياة الإنسان ويجعله يعيد النظر في كيفية فهمه للحياة ، وذلك من خلال قوله تعالى:(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)^{^[29]}، وهنا تكمن النقطة المفصلية الأساسية التي تربط الإنسان في الدنيا بالآخرة، وتجعله يغيّر كلّ حساباته ومعاييره، وهذا هو الشيء الغائب غياباً كبيراً عن حياتنا، وذلك لحبّ الإنسان وتعلّقه بالدنيا، قال تعالى:(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)^{^[30]}.

فلماذا يقع الإنسان في هذا الفخ، والله تعالى يقول:(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)^{^[31]}؟! ولماذا يغيب عنّا، أو نغيب نحن عن أنّنا أبناء الآخرة؟! فنحن نعيش للدنيا ونترك الآخرة، بينما الآخرة هي قدرنا، فلو بقيَ الإنسان يستذكر هذه الحقيقة المهمّة في حياته، ويسترشد بهدي القرآن الكريم بشكل جيد، سوف يرجع في حساباته ويتفتح عقله، ويبدأ باستثماره في تغيير فهمه عن حقيقة الحياة وعن المصير الذي ينتظره، ويسلك طريق الشخصية المتكاملة أو(النفس المطمئنّة) التي طبقت في بعض الأحاديث الشريفة على شخصية الحسين(عليه السلام) والنفس المطمئنّة الحسينية.

كيفية الاقتداء بالنفس المطمئنّة الحسينية

من الإشكاليات التي نعيشها في الوقت الحاضر هو موضوع الاقتداء؛ إذ نجد كثيراً ممّن يحبّ الإمام الحسين(عليه السلام) ويتّبعه ويواليه في مجتمعنا الإسلامي يتضاربون في سلوكهم ما بين مُفرط ومفرّط، ما بين غالٍ ومقصّر ومعتدل، وهذه نقطة لا بدّ من معرفة منشأها، ولماذا هذا الاختلاف الكبير في سلوك الموالين والمحبّين للإمام الحسين(عليه السلام) ، مع اعتقادهم بأنّهم يتّبعون الإمام الحسين(عليه السلام) كما ينبغي؟

ومن هنا؛ ينبغي أن نعرِّج على أسباب هذا التضارب في السلوك، والناتج عن الفهم الخاطئ أو الفهم المشوب ببعض السلبيات التي تؤثر على السلوك، فإنّ طريقة فهمنا للإمام الحسين(عليه السلام) هي التي تؤثر على كيفية اقتدائنا به(عليه السلام) وهكذا بالنسبة إلى سائر أهل البيت(عليهم السلام) .

يوجد اختلاف في التصوّر والفهم لمقام أهل البيت(عليهم السلام) بحيث إنّ بعض التصوّرات والأفهام تمنعنا من الاقتداء بهم(عليهم السلام) ، فمثلاً هناك صنف من الناس يتصوّرون أنّ أهل البيت(عليهم السلام) لا يمكن الاقتداء بهم؛ لأنّهم في مرتبة عليا من الكمال ليس بمقدورنا الوصول إليها، وأنّنا عاجزون عن فهمهم وعن تصوّر مكانتهم ومقامهم.

وفي المقابل هناك مَن يحبّون أهل البيت(عليهم السلام) ويودّونهم عملاً بآية المودّة، لكنّهم لا يرون صحّة الاقتداء بهم، ويجعلونهم بمنزلة البشر العاديين؛ وأنّه لا فرق بينهم وبين سائر الصحابة.

وكلا الرؤيتين تمنعان من الاقتداء بأهل البيت(عليهم السلام) ، أمّا الأُولى فهي رؤية غالية تعتقد بعدم إمكان الاقتداء بهم(عليهم السلام) ؛ لعلوّ مرتبتهم، وأمّا الأُخرى فهي رؤية تقصيرية تمنع ـ كذلك ـ من الاقتداء بهم(عليهم السلام) ؛ باعتبارهم أُناساً عاديين.

واللازم قوله هو: إنّ الله تعالى جعل أهل البيت(عليهم السلام) قدوةً لنا، قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)^{^[32]}، وإلّا فلو كان عندنا نبيٌ أو إمامٌ لا يمكن أن نقتدي به فما الفائدة من وجود هذا النبي أو هذا الإمام؟! وما الفائدة من ولائنا له؟! إذاً؛ ينبغي أن يكون فهمنا فهماً يجعلنا قادرين على الاقتداء بهم؛ رغم أنّنا لا نصل إلى مرتبتهم، كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : «... أَلا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد»^{^[33]}، فنحن لا يمكن أن نكون كأمير المؤمنين(عليه السلام) ولكن بإمكاننا أن نقتدي به(عليه السلام) .

أمّا بناءً على الرؤية التقصيرية والغالية فلا يمكن للإنسان الاقتداء مطلقاً، وبذلك يبدء يتهرّب من مهمّة ومسؤولية الاقتداء بهم(عليهم السلام) ؛ ولذلك نجد الإفراط والتفريط فيما بين الموالين والمحبّين لأهل البيت(عليهم السلام) .

إذاً؛ هناك بون شاسع بين هؤلاء المحبّين؛ يعود سببه إلى سوء الفهم والنظرة الخاطئة إلى أهل البيت(عليهم السلام) ، والابتعاد عن الأساسيات التي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تكون في الشخصية القدوة من أنبياء ورسل وأئمّة(عليهم السلام) .

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

الكتب

1. الإرشاد، محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، تحقيق: مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لتحقيق التراث، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414 هـ/1993م.

2. بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، تحقيق: محمد الباقر البهبودي، الناشر: مؤسسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية المصححة، 1403هـ/1983م.

3. التفسير البنائي للقرآن الكريم، محمود البستاني، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1424هـ.

4. تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

5. شرح أصول الكافي، محمد صالح المازندراني، تحقيق: السيّد علي عاشور، الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1421هـ/2000م.

6. عيون أخبار الرضا(عليه السلام) ، محمد بن علي بن الحسين المعروف بالشيخ الصدوق، تحقيق وتصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1404هـ/1984م.

7. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة، 1363ش.

المواقع الإلكترونية

8. https://imamhussain.org/holy-quran/6309

[1] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٢٤، ص٩٣.

[2] اُنظر: المصدر السابق: ج٤٥، ص٨٧.

[3] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ص96.

[4] النحل: آية43.

[5] الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج2، ص32.

[6] اُنظر: مراتب النفس في الذكر الحكيم، مقال منشور على موقع العتبة الحسينية المقدّسة:

https://imamhussain.org/holy-quran/6309.

[7] يوسف: آية53.

[8] القيامة: آية2.

[9] الفجر: آية27ـ 28.

[10] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص218ـ 219.

[11] المصدر السابق: ج43، ص261.

[12] المصدر السابق: ج25، ص360.

[13] الفجر: آية27ـ30.

[14] الكهف: آية110.

[15] الليل: آية12ـ21.

[16] المازندراني، محمد صالح، شرح أُصول الكافي: ج1، ص219.

[17] المصدر السابق.

[18] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص56.

[19] الضحى: آية5.

[20] اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج1، ص176.

[21] الحجر: آية29.

[22] القيامة: آية22ـ23.

[23] الحجر: آية40. ص: آية83.

[24] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج26، ص260.

[25] الفجر: آية1ـ2.

[26] الفجر: آية5.

[27] اُنظر: البستاني، محمود، التفسير البنائي للقرآن الكريم: ج5، ص334ـ342.

[28] الفجر: آية15ـ 17.

[29] الفجر: آية21ـ 24.

[30] القيامة: آية20ـ21.

[31] الضحى: آية4ـ5.

[32] الأحزاب: آية21.

[33] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج33، ص474.

نـدوة: النفس المطمئنة الحسينية..كيف نفهمها؟ وكيف نقتدي بها؟