المقدّمة

كيف لا يكون منطقُ الإمام الحسين(عليه السلام) وسلوكه مُستمَّداً من وحي القرآن الكريم وقد تربّى في حجر النبوّة ورضع من صدر الإسلام. إنّ ديدن سيرة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) عامّة والإمام الحسين(عليه السلام) خاصّة هو التزام الحوار القرآني مع المخالفين ما استطاعوا إليه سبيلاً، ولا ملجأ للحرب والقتال في قاموس فكرهم إلّا إذا اضطرهم العدو إليها وبعد الإعذار بالنُذر؛ لأنّ الغاية من وجودهم وتحملّهم عبء الرسالة هو هداية الضالين ونجاة المسترشدين حتّى دخولهم في واسع رحمة الله تعالى، فالحرب تقتل تلك الغاية المرتجاة وتحجب المقابل عن تلك الرحمة الواسعة، ولا ربح لمنتصرٍ في القتال والحرب ضمن رسالة ومفهوم الأئمة(عليهم السلام)، وربما حزن الإمام علي(عليه السلام) وتوجّع لقتلى العدو كما هو حاله(عليه السلام) في حرب الجَمَل، فقد قال(عليه السلام): «شفيتُ نفسي، وقتلتُ معشري، إلى الله أشكو عجري وبجري»[1]، وناشد الإمام الحسين(عليه السلام) أعداءه أن
لا يقبِلوا على استباحة دمه، والجناية بحقه وحق أهل بيته وصحبه(عليهم السلام)؛ لأن ذلك سيكون سبباً لدخول أعدائه نار جهنم[2].

لقد تخلّد الخطاب الحسيني عبر الأجيال المتعاقبة، فلم يكن خطاباً مؤقتاً يتوجّه لفئةٍ من الناس أو مرحلةٍ زمنيةٍ معينة، بل كان خطاباً يحمل منهج ثورةٍ شاملةٍ ويؤسّس لمدرسةٍ فكريّةٍ، ينهل منها الأحرار في كلِّ زمانٍ ومكان، فخلود الخطاب الحسيني مقترنٌ بخلود الخطاب القرآني المعجز ومتفرّع عنه كغصنِ شجرةٍ مباركةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء.

إنّ أهم ما يُميّز الخطاب الحسيني هو التنوّع في التراكيب والأسلوب وبلاغة الدلالات المتكاثرة عند تعدد القراءات وتعمّق التحليلات غوراً في استجداء معانيه المتنامية؛ إذ يجد المتأمِّل لذلك الخطاب من الجمل الإنشائية والخبرية المتناسبة مع شأن صدور المقال، والمتسقة مع سبب توجيه الكلام من تهديدٍ أو ترغيب.

إنّ المستند الأول في حوار الإمام الحسين(عليه السلام) هو محكمُ القرآن الكريم ذو الحُجّةِ البالغة على جميع مَن اعتنق الإسلام واتّخذه منهجاً لسلوكه وسائر أحواله، ومن خلال استقراء المصادر وجدتُ أنّ استعمال الإمام الحسين(عليه السلام) لآي الذكر الحكيم قد تقسّمت أغراضه بين ما يُثبت حقيقة وجود الخالق ووحدانية أمره ونفاذ مشيئته (جلّ وعلا)، وبين ما يُثبت شروط الخلافة الشرعيّة لعباد الله تعالى في أرضه دون مَن سواهم من ملوك وجبابرة، وغرض ثالث استعمله(عليه السلام) في إثبات شرعيّة ثورته وسلامة موقفه من حكم الطاغية يزيد، وقد حاولتُ اتّخاذ منهج التحليل قدر جهدي بحثاً في كتب التفسير والكلام من مصادر الفريقين المعتبرة، والخروج بنتائج علميّة تكون حُجّةً لسائر أهل الإسلام ومَن رَغِبَ في معرفة الحقيقة والتمس طريقها، وأرجو أن أكون قد بلغتُ مُرادي بتوفيقٍ من الله تعالى وحسن رعايته.

تمهيد: معنى الحوار وأهميته

المعنى اللغوي والاصطلاحي

الحوار في اللغة من الحور أي: «التردد إمّا بالذات وإمّا بالفكر... والقوم في حوار: في تردد إلى نقصان... والمحاورة والحوار المرادّة في الكلام، ومنه التحاور قال الله تعالى:(وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)[3]»[4].

أمّا معنى الحوار اصطلاحاً، هو: تبادلٌ في الكلام بين اثنين وتناقل المعلومات فيما بينهما والتأثر في الأفكار، وهو ما يجري في المحادثات بين المختلفين محاولة للوصول إلى توافق نسبيّ أو مطلق. إنّ الحوار والجدال لهما معنى النقاش بين طرفين أو أكثر بقصد إظهار حُجّة مُعيّنة، وإثبات حقّ، ورَدّ للفساد[5].

وعرفّت المحاورة بكونها: «عرض لوجهتي نظر، أو هي نوع من توضيح خصائص مختلفة لأمرين»[6].

أهمية الحوار

الاختلاف بين عاقلة الناس سمةٌ رافقت البشريّة منذ وجودها، وخير سبيل لتفادي آثار الاختلاف السلبية هو الحوار بين الثقافات المتفاوتة والحضارات المتباينة.

إنّ السؤال والاستفسار حالة طبيعية لا بدّ أن يمرّ بها الإنسان الباحث حتّى يصلَ إلى الحقيقة، وخير وسيلة كاشفة عن المبهمات ورافعة للشبهات هي الإعلام الصادح بروح الحوار البنّاء والمتجسّد في ملتقى الخطاب، أو النقاش العلمي، المتوشح برداء الموضوعيّة والمتجرد عن التعصب الأعمى ونكران الذات، فالإعلام الإيجابي له دورٌ كبيرٌ في نقل الحوار الهادف؛ لترسيخ المبادئ في النفوس وإحداث قفزة معنويّة عند الإنسان، كما يستنهض الهمم نحو الصلاح، فالحوار يترك أثراً بليغاً في نفس الإنسان ويُبلور سلوكه واتجاهاته، ولا يخفى أثره في إثارة انتباهه إلى الحقيقة التي يدعو إليها، فيرسّخ الحقّ في ذهن الضال بكيفية جذّابة، وهذا الترسيخ يدعو الإنسان ويحفزّهُ لتجسيد ذلك الحقّ، فمن هنا يتبلور اهتمام الإنسان بضرورة الحوار في نقل الحقائق وهداية الطالب لها[7].

ولأهمية الحوار فقد حاور الله (سبحانه) الملائكة مع ثبوت حقّ طاعته؛ لكي يُعلِّمنا أساس الحوار، كما تعدّى الأمر تنزلاً بحواره مع الملائكة ليشمل ذلك إبليس أيضاً، فقد حاور المولى تعالى إبليسَ عندما أمره بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكانت الحكمة من ذلك أنْ يُعلِّمنا كيف نُحاور أعداءنا، كما يتجلّى الحوار في حياة الأنبياء والرسل في مُحاورتِهم لأقوامهم خلال الدعوة بأسلوبٍ سلسٍ وليّنٍ متحلِّين بالصبر على ذلك[8].

لقد اتّبع الإمام الحسين(عليه السلام) أُسلوب الحوار مع الآخرين طيلة مدّة إمامته التي استمرت عشر سنوات، فقد تناول الموضوعات العقديّة المتعلّقة بالتوحيد الإلهي وصفاته مستعملاً الآيات القرآنية ومستشهداً بمضمونها البليغ تمهيداً لإثبات الخلافة الإلهيّة ومنها إمامته(عليه السلام)، وبطلان حكم مَن سواه من بني أُميّة، ولم يعدم الحوار مع عدوه حتّى في ساحة الحرب رجاء هداية مَن كانت له أُذنٌ واعية، أو دفعه عن إثم التوّرط بدمه الطاهر.

بناءً على ما تقدّم؛ سينقسم البحث إلى ثلاثة مباحث أتناول في أوّلها حوار الإمام الحسين القرآني في إثبات التوحيد وصفات الذات الإلهيّة، والثاني حواره(عليه السلام) في إثبات الخلافة الشرعيّة، وفي الثالث حواره(عليه السلام) في إثبات أحقيّة موقفه من حكم بني أُميّة وشرعيّة نهضته المباركة.

المبحث الأوّل: حواره(عليه السلام) القرآني في إثبات الصانع وصفاته

وجدتْ الحركات المنحرفة عن الدين الإسلامي في عهد بني أُميّة أرضاً خصبة لنمو الشبهات والترويج للضلال، فقد سمح بنو أُميّة للمرجئة والمُجبّرة بممارسة نشاطهم الفكريّ بكلِّ حريّةٍ، بل قدّموا لهم الدعم المادي أيضاً[9]. وكانت فرقة المجبِّرة ـ القائلة بمبدأ خلق الله لأعمال العباد ـ من بدع بني أُميّة خاصّةً، استغلوها في شرعنة حكمهم وتبرير ما يصدر عن ملوكهم من مخالفات شرعيّة صارخة.

لقد انطلق الإمام الحسين(عليه السلام) بدافع الشعور بالمسؤولية الشرعيّة متصدياً لتلك العاصفة الصفراء، ومدافعاً عن أصول العقيدة الغرّاء، وذائداً عن الأمانة الكبيرة التي استودعها إيّاه جدّه المصطفى.

كان من أهم المسائل التي حاور فيها أهل الضلال هي مسألة التوحيد الخالص من كلِّ شبهةِ تجسيمٍ أو مثال، فقد استشهد الإمام الحسين(عليه السلام) بقوله تعالى: (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[10]، وقوله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[11]، فقد ترجم حواره(عليه السلام) منطلقاً من هذه الآية المحكمة لنسف كلِّ شبهةٍ دخلت القلوب الزائغة عن الحقّ. فوقف(عليه السلام) بوجه المبطلين مفنِّداً مزاعم أهل الضلال بحوارٍ بليغٍ يستحوذ على مجامع القلوب الهائمة لمعرفة ربِّها والحائرة في زحمة توّهم الشبهات، فقال(عليه السلام): «أيُّها النَّاس، اتقوا هؤلاء المارقة الذين يُشبِّهون الله بأنفسهم، يضاهئون قول الذين كفروا من أهل الكتاب، بل هو الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)...»[12]. لقد استهلّ حواره(عليه السلام) بجملةِ تهديدٍ ووعيدٍ من خطورةِ الاعتقاد بهذه الشبهات؛ ليُثيرَ انتباه الأذهان إلى ما يخلصهم من دواعي العذاب ومسبباته، فكانت هذه التقدمة من صميم القرآن الكريم وجوهره وصفاً للباري بما وصف به نفسه تعالى في مقابل ما يصفه به أهل الضلال ومريدو الفتن. ثمّ يسترسل(عليه السلام) بإثبات التوحيد الإلهي بجميع مراتبه وجميل صفاته وبديع أفعاله (جلّ وعلا) بقوله(عليه السلام): «استخلص الوحدانية والجبروت، وأمضى المشيئة، والإرادة، والقدرة، والعلم بما هو كائن، لا منازعَ له في شيءٍ من أمره، ولا كُفو له يعادِلُه، ولا ضِدَّ له ينازعه، ولا سَمِيَّ له يشابهه، ولا مثلَ له يُشاكله»[13].

إنّ من لوازم إثبات صفة التوحيد ونفي الشبيه وفقاً لحوار الإمام الحسين(عليه السلام) هو إظهار عظمة الخالق، وبيان قدرته وسعة علمه سبحانه لكلِّ عاقلٍ له قدرة التمييز بين تلك العظمة وجبروتها، وبين صفات مَن يكون للمولى سبحانه شبيهٌ أو مثالٌ ـ بحسب زعم أهل الضلال ـ من ذوي الأجسام المحسوسة؛ لتفرده تعالى بالعظمة فجلَّ عن أن يحيط به شيءٌ من أبصار المخلوقين القاصرة، وذلك يتضمن انتفاء الشبيه فضلاً عن الشريك من أجسام محدودة بذاتها ومتحيّزة، فكونها مُدرَكة بالأبصار من سمات المحدثات أي: محدودة القدرة، وهي ممّا لا تليق بمقام الإلوهيّة، وقد وتنزّه عنها الواجب بذاته، ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار[14].

إنّ سرَّ عظمته (جلَّ وعلا) يتجلّى في سعة علمه ونفاذ مشيئته في خلقه مع احتجابه عنهم، فهو سبحانه يراهم ويدرك أحوالهم ولا يعزب عنه علم مثقال ذرة، فدفع توهم السذج من أهل الضلال يكون ببيان أنّه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه المنافي للجسمية ولوازمها، وقوله: (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)دفع آخر لما يسبق إلى أذهان هؤلاء الذين اعتادوا بالتفكر المادي، وأخلدوا إلى الحسّ، وتجانسوا مع المحسوس حتّى توهمّوا أنّه تعالى إذا ارتفع عن تعلّق الأبصار به خرج حسّه أيضاً عن رؤية المحسوس، وانقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشيءٍ كما أنّه لا يعلم به شيء، ولا يُبصِرُ شيئاً كما لا يُبصِرُهُ شيء، فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله: (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)، وعلّة الدعوى تكمن في قوله: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، واللطيف هو ما يُقابل الكثيف أي: الرقيق النافذ في الشيء، والخبير مَن له الخبرة المطلقة، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيءٍ حقّاً كان شاهداً على كلّ شيءٍ لا يفقده ظاهر شيء من الأشياء ولا باطنه، فهو تعالى يدرك لمح البصر فضلاً عن المبصَر، والباصرة لا تدرك إلّا المبصَر، فما أعظمه وأجلَّ قدرته سبحانه وتعالى ربُّ العزّة عما يصف المشركون[15].

لقد ألقى أهل الجاهليّة الأُولى واليهود بضلالهم على مَن انتحل سمة
الإسلام ـ حقناً لدمه ـ فصار يبتدع خدعة التشبيه والتجسيم انطلاقاً من واقعه الماديّ[16]، ورفضاً لعبادة ما لا يُرى بالعين الباصرة، وغايته العود بالأُمّة إلى حنثها العظيم وشركها القديم، فتصدّى الإمام الحسين(عليه السلام) لتلك الأفكار الضالّة والعقائد المنحرفة صوناً لدين جدّه المصطفى(صلى الله عليه واله) ووحدة أُمّة الإسلام. لقد خطّ الإمام الحسين(عليه السلام) بمداده قبل دمه خارطة التوحيد وسبيل الوصول إلى معرفة الله تعالى، وانتقل بالعقل الإسلامي من جموده على الإدراك المادي إلى التحرر من سجن القصور الذهني والارتقاء بالنفس لرؤية معبودها المجرد عن الحوادث والصفات الماديّة بالبصيرة القلبية، ومنه تتحقق الغاية الإلهيّة من إيجاد الخلق بما ذكره سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[17].

لقد سلك الإمام الحسين(عليه السلام) طريق أهل الصدق طلباً للجذب بدل الكسب، فاستبدل التحقق بالآثار الماديّة بكسوة ومضة الأنوار الإلهيّة كما ظهر في دعائه يوم عرفة، وهو دعاء مَن سقاه ربّهُ شراباً طهوراً، فصار طاهر السرّ عن النظر إلى غير الساقي، ومصون الضمير عن حبِّ الشراب وإن كان طهوراً؛ لأنّ لا مجال فيها لظهور غير المعبود ولا مطلوب فيها إلّا المعبود ولا مقصود فيها إلّا معرفة المعبود بالمعبود لا بغيره من آيات الآفاق أو الأنفس[18].

فقد ورد عن الإمام الحسين(عليه السلام) في دعاء يوم عرفة قوله: «إلهي ترددي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً... إلهي هذا ذلِّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك وبك أستدل عليك»[19].

لقد تقدّم الاستدلال بتعليل مسلكه(عليه السلام) وبيان سببه بقوله: (إلهي ترددي في الآثار يوجب بُعدَ المزار)، وختم استدلاله بالغاية من اعتماد هذه الوسيلة في مسلكه بقوله: (منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدلُ عليك)، وهو طريق الخواص (اللِّمّي) الذي يورث القطع بانتقاله من يقينه بالعلّة (الأظهر وجوداً) إلى المعلول، ويقابله طريق العوام (الدليل الإنّي) وهو طريق يورث الظن بانتقاله من المعلول إلى العلّة، فهنا يتحدّ الدالّ والمدلول؛ لأنّه تعالى دلّ على ذاته بذاته دون خلقه، وهو ما انتهجه(عليه السلام)؛ لأنّ ما عدا ذلك إمّا استدلال عليه تعالى بآيات الآفاق، وفي ذلك ينحاز كلّ واحد من المستدِلّ والدليل والمدلول حياله، وإمّا استدلال عليه تعالى بآيات الأنفس، وفي ذلك وإن يتّحد المستدِلّ والدليل ولكن ينحاز كلّ منهما عن المدلول، ومعلوم أنّ الدال إذا لم يكن المطلوب إثباته نفسه فلا يمكن أن يدلّ عليه حقّ الدلالة بخلاف ما إذا كان عينه كما في هذا الدعاء البالغ؛ إذ إنّه(عليه السلام) استدل بالله على وجود الله وعرفه من ذاته الظاهر، وحكم بأنّه لا ظهور لغيره تعالى حتّى يكون هو المظهر له[20].

وكما دأب العقلاء في حوارهم مع الآخرين في اعتمادهم على مبدأ إنكار الأفكار المغلوطة أولاً تمهيداً لنفيها (طريق الهدم)، ثمّ يتبعه مبدأ طلب الإقرار بالأفكار الصائبة والإذعان لها تأسيساً بديلاً لسابقتها المغلوطة (طريق البناء)، فقد سار الإمام الحسين(عليه السلام) بهذا النحو، إذ بدأ بالإنكار ـ تعميداً لطريق إثباتٍ أرقى من سابقه ومؤيداً له ـ بمبدأ الأولوية أي: مَن كان ثبوته يبدأ من ظهور معلولاته وآثارها وهو المظهر لها فهو أوْلى بثبوت ذاته بذاته، وإثبات معلولاته يكون متأخراً رتبةً وأقلّ ظهوراً.

ومن روائع حواره(عليه السلام) ما كتبه للحسن البصري جواباً عن سؤاله حول مبدأ القضاء والقدر، ونقضاً لرأي المجبِّرة القائل بنسبة كلّ أفعال العباد لله جلّ وعلا عن ذلك؛ لغرض تبرير أفعال ملوك بني أُميّة من فسق وقتلٍ للنفس المحترمة، فقد انطلق(عليه السلام) من قوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[21]، مفسِّراً للآية بحوارٍ حكيم ابتدأه(عليه السلام)، بقوله(عليه السلام): «... ومَن حمل المعاصي على الله(جل وعلى) فقد افترى على الله افتراءً عظيماً، إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه، ولا يُعصى بغلبة، ولا يهمل العباد في الهلكة، لكنّه المالك لما ملكّهم، والقادر لما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله صادّاً عنها مبطئاً، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم وبين ما ائتمروا به فعل، وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسراً، ولا كلّفهم جبراً، بل بتمكينه إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم»[22]. ولقد ذكرَ بعض أهل التفسير أنّ معنى الآية (وَالله أَمَرَنَا بِهَا) هو: أنّهم ادّعوا أن لو كان الله لا يريد فعلنا لمنعنا عنه بقدرته، ولا دليل لهم على أنّ الله أمرهم بمعنى التشريع، وقد مضى ذمّ التقليد وأفعال الجاهليّة[23].

فدعوى المجبِّرة باطلة ومخالفة لصريح محكمات الكتاب المجيد لقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[24]، وهو ما قرره(عليه السلام) بقوله: «إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه»، فمعنى الاختيار واضح من مضمون الآية المباركة وغيرها من الآيات الناطقة بحقّ الاختيار للإنسان في الدنيا في جميع شؤون عقائده وسلوكه، ولا تعني معصيته تفوّق قدرته على قدرة الله تعالى «ولا يُعصى بغلبة»، فلا عجز في مقام الذات المقدّسة، وإنما لها القدرة المطلقة. وهنا قد جمع الإمام الحسين(عليه السلام) نفي التفويض والجبر معاً حفظاً لحقّ الله تعالى في صفات الكمال والجلال، فالله تعالى هو مَن وهب الوجود بالحياة والقدرة وعلّم الناس ما ينفعهم، فإن شكروا نعمته أطاعوه باختيارهم عرفاناً لإحسانه، وإن كفروا نعمته خالفوا شريعته بمشيئته دون أمره سبحانه، فهم وإن كانت طاقتهم وقوّتهم من جملة أفضاله وأنعامه، لكنّهم عصوا أمر خالقهم ولم يخرجوا عن حدِّ مشيئته فلو شاء الله لمنعهم عن معصيته ولهداهم سبيله ولكن حقّ عليهم العذاب بعد الإنذار بما قدّمت أيديهم وبسبب عنادهم بعد معرفتهم للحجج الدامغة.

خلاصة المبحث

انبرى الإمام الحسين(عليه السلام) من خلال حواره القرآني إلى إثبات كمال الصفات للباري(جل وعلى) بما ورثه عن أهل بيت الرحمة(عليهم السلام)، ونفي ما لا يليق عنها كالجسميّة الماديّة والأحوال البشريّة؛ ليدحضَ مخططات آل أُميّة الرامية لعودة الناس إلى شرك الجاهليّة وعبودية الأصنام الماديّة والبشريّة.

إنّ مسلسل مؤامرات بني أُميّة لم يتوقف عند هذا الحدِّ، بل سجّل محاولةً أُخرى ـ من
محاولات كثيرة ـ تصدّى لها الإمام الحسين(عليه السلام) في النقض على بدعة الجبرية (عقيدة خلق الأعمال)؛ لأنّ خطرها يكمن في شرعنة حكومة آل أُميّة رغم انتهاكهم للحرمات، فما كان من الإمام الحسين(عليه السلام) إلّا أن يُثبت فساد هذه الدعوى انطلاقاً من تذكير الناس بآيات الله الصادحة بحقيقة أنّ الله تعالى لا يُكره الناس على طاعته ولا يُجبرهم على معصيته، ولا يختار الملوك بإرادته وإن أذن بمشيئته بعد تحقق مقتضى الأسباب الطبيعية (الفصل بين الأمر والمشيئة)، فهو أمرٌ بينهما يتلخص في بيان أنّ الله أمرَ الناس بلزوم أوامره واجتناب نواهيه مع حفظ حقّ اختيارهم؛ لكي يُثيب المطيعين بجنته ويُعذِّب العاصين بناره، فليس ما ارتكبه العاصي بأمر الله تعالى ولا بخارجٍ عن قدرته سبحانه، بل شاء الله أن تجري الأُمور وفقاً لطبيعة نظام العليِّة، فإنّ الأسباب وإن كانت تجري بقدرته اختباراً لعباده، ولكنّ الحوادث لا تقع إلّا بمشيئته (جلّ وعلا) حفظاً لسلطنته وقدرته، فإن شاء وقعت وإن لم يشأ لم تقع.

وبذلك فقد هدّم الإمام الحسين(عليه السلام) المخطط الأُموي معنوياً تمهيداً لإذكاء أوار الثورة بعد سحب بساط الشرعيّة من تحت هذه الفئة الضالة.

المبحث الثاني: حواره(عليه السلام) القرآني في إثبات الخلافة الشرعيّة

كان تأكيد الإمام الحسين(عليه السلام) على العمل بمضمون محكم القرآن الكريم في اتّباع الخليفة الشرعي، وهو المستخلف بأمر الله تعالى وحكمته؛ لأجل إنفاذ مشيئته سبحانه في عالم التكوين الدنيوي وتحقيق إرادته في خلقه، وأنّ اختيار بيعة الناس لخلفاء الله (جلّ وعلا) والامتثال لأحكامهم هو سرُّ سعادتهم وصلاح حالهم في الدنيا والآخرة.

لقد استند الإمام الحسين(عليه السلام) في حواره مع الأُمّة الإسلامية إلى منطق القرآن الكريم مستشهداً بآياته المباركة كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ...)[25]، وقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)[26]، والمراد من تلكما الآيتين هو التأكيد على أهميّة مقام النبوّة والولاية في حياة المسلم، فهو سبب النجاة من مهبط الضلال ومصيدة الشيطان، وله رافدان أحدهما مُبلِّغ والآخر مجرٍ[27]، فمَن ترك طاعة أولي الأمر سقط بحبائل الشيطان.

وأولو الأمر في رأي مفسري العامّة هم فئة خاصّة من أهل العلم والفضل والمنزلة الاجتماعية العليا[28]، فمَن هم أعلى منزلة وأغزر علماً وأعظم شأناً من أهل بيت النبوّة المتمثِّل في الإمام علي(عليه السلام) وبنيه المعصومين(عليهم السلام)؟!

«لقد قيل لمعاوية: إنّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين(عليه السلام)، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب فإنّ فيه حصراً أو في لسانه كلالة. فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن، فلم يزل حتّى عظم في أعين الناس وفضحنا، فلم يزالوا به حتّى قال للحسين: يا أبا عبد الله، لو صعدت المنبر فخطبت. فصعد الحسين(عليه السلام) على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي(صلى الله عليه واله) فسمع رجلاً يقول: مَن هذا الذي يخطب؟ فقال الحسين(عليه السلام): نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله(صلى الله عليه واله) الأقربون وأهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله(صلى الله عليه واله) ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كلّ شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتّبع حقائقه. فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله(جل وعلى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ ...) وأُحذركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم؛ فإنّه لكم عدو مبين... قال معاوية: حسبك يا أبا عبد الله قد بلغت»[29].

لقد جعل الإمام(عليه السلام) خط طاعة الله تعالى ممتداً إليهم(عليهم السلام) بواسطة الملازمة الحكميّة مع طاعة رسول الله بقوله(عليه السلام): «... فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة»، أيّ: إنّ البرزخ الفاصل بين اتّباع الحقّ وطاعة الرحمن عن اتّباع الباطل وطاعة الشيطان هو الاعتقاد العملي بولاية أهل بيت النبوّة، وبناءً عليه صدر تحذيره(عليه السلام) للناس: «وأحذركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان»[30].

إنّ هذا الحوار القرآني البديع يُخاطب العقل ويذكّره بحقيقة قصور الإنسان المعرفي من دون التمسّك بمرجعيّة المعصوم المتجليّة في القرآن الكريم (الثقل الصامت) وأئمة أهل البيت (الثقل الناطق)، فإن جُعلا مرجعاً لمعرفته ومصدراً لسلوكه، استقامت حياته وانتظمت شؤونه وسَعُدَ في الدنيا وفاز في الآخرة، وإن اتّبع شهواته ووساوس الشيطان اضطربت حياته وزاد بلاؤه وكثرتْ محنه وشقي في آخرته، وهو ما قررته الآية المباركة: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[31]، فالنتائج تتبع أخسّ مقدّماتها كما تتأثر الأحداث التاريخية بطبيعة العقل البشري ومستوى إدراكه للحقائق الإيمانية، وعليه كانت دعوة الإمام الحسين(عليه السلام) الصريحة للأُمّة إلى ضرورة إدراك الناس للحدِّ الفاصل بين الإيمان والكفر وما يترتّب على إثره من نتائج في الدارين، فقد أبرز في حواره فضل أهل البيت(عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس، ومقامهم عند الله تعالى بكلامٍ مستوحى من آي الذكر الحكيم.

انطلاقاً ممّا ذُكِرَ يسترسل الإمام(عليه السلام) في إلقاء الحُجّة البالغة من حواره البليغ، ويبعث رسالة أُخرى فيها مصداق للإمامة يذكِّرهم فيها بضرورة الإقرار بولاية الإمام علي(عليه السلام) امتثالاً لتنصيب النبي(صلى الله عليه واله) له في غدير خم وبيعتهم له، وكان ذلك قبل موت معاوية بسنتين، فبعد أن حجّ الإمام الحسين(عليه السلام) جمع الناس، ثمّ قال في سؤالٍ تقريري: «أُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله(صلى الله عليه واله) نصبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال: ليبلغ الشاهد الغائب؟ قالوا: اللهم نعم»[32]، وهي خطوة متقدّمة في الاستدلال على قضيةٍ ـ قياسها معها ـ حكمها منتج لدليلِ أفضليّة الإمام علي(عليه السلام) أوّلاً، ولزوم امتثال أمر رسول الله(صلى الله عليه واله) في الاقتداء بولايته ثانياً، وقد أقرّوا وبايعوا الإمام علياً(عليه السلام) وقتها فلا ينبغي ـ عقلاً وشرعاً ـ أن ينكثوا بيعته ويستبدلوها ببيعة مَن لا حظّ له في علمٍ، ولا رصيد عنده من تقوى ـ مقابل أهل بيت النبوّة ـ وإن تقادمت السنون والأزمان.

وفي سياقٍ متّصلٍ يستفهم الإمام(عليه السلام) الناس بسؤال تقريري آخر ـ يتضمّن معنى التنبيه إلى سريان مبدأ الولاية لأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وامتدادها الشرعي فيهم من بعد الإمام علي(عليه السلام)، وطلب الإذعان لولايتهم ـ بقوله: «أتعلمون أنّ رسول الله(صلى الله عليه واله) قال في آخر خطبة خطبها: إنّي قد تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي، فتمسّكوا بهما لن تضلوا؟ قالوا: اللّهم نعم»[33]، فديمومة الإسلام الحقيقي مرتبطة بدوام التولّي لأئمّة أهل بيت الرحمة(عليهم السلام) والامتثال لأوامرهم والتزام طاعتهم، ولكنّ القوم كانوا مصداقاً لقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[34]، لقد ألقى الإمام الحسين(عليه السلام) عليهم الحجّة البالغة وألزمهم الامتثال للأمر الإلهي، فبعد اليقين والقطع بصدور هذه الوصايا من النبيّ الأكرم(صلى الله عليه واله) في حقّ الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ومع إقرارهم بولايتهم كان أكثرهم جاحدين بها ومنكرين لفضلهم ظلماً وتكبّراً.

ممّا تقدّم من أنوار الإمام الحسين(عليه السلام) الفكريّة التي صاغها في حواريّة عقديّة مستوحاة من كتاب الله العزيز ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ في إثبات مقام الخلافة الشرعية لأهل بيت النبوّة(عليهم السلام) يمكن أن نستخلص منها استنتاجاً نافعاً في بناء كيان المؤمن العقديّ يتضمّن ما يلي:

إنّ الإنسان مهما بلغ من علمٍ ومنزلةٍ اجتماعية لا يخرج عن حقيقة العبوديّة لله تعالى، ويبقى العبد محتاجاً لعون خالقه وتأييده في خوض عباب هذه الحياة المشحونة بالمشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها من الأمور الماديّة والمعنويّة، ولا يُمكن لأيّ إنسانٍ أن يتصدّى لحلّ جميع تلكم المشكلات ما دام غير متكاملٍ من جميع جهات الكمال المادي والمعنوي؛ لأنّ مهام القيادة خطيرة، ومسؤوليّة أمانة الخلافة الإلهيّة في الأرض لا يتحمّلها إلّا مَن توافر فيه شرط الكمال والخلو من كلِّ نقصٍ يُوجب الخطأ في تنفيذ أحكام الخالق الحكيم بين عباده، فلا يُمكن بحالٍ أن يُصلِحَ المرءُ غيرَهُ ويُكمِّله وهو غير كاملٍ، فضلاً عن كونه فاسداً؛ لأنّ فاقد الشيء بذاته لا يُعطيه لغيره، بل هو أحقّ بالتلّقي والاستمداد، فمَن تسنّم منصباً بغير استحقاق فقد أطاع نفسه الأمّارة بالسوء واستجاب لوساوس الشيطان وصار أداةً طيِّعةً لمكائده المسببة للفساد والهلاك.

إنّ الحوار الحسيني انطلق من وحي الفطرة السليمة مستدلاً على ضرورة اتّباع مَن أراد الله تعالى أن يكون خليفةً وحاكماً بين عباده باستحقاقٍ بعد توافر شروط الكمال والتنزّه عن كلِّ رجسٍ يمنعه من تحقيق العدل الإلهي، ولا يستحق هذا المنصب إلّا مَن شَهِدَ له القرآن الكريم بعصمته وكمال أخلاقه، وقد أمر الله تعالى عباده بلزوم طاعة نبيِّه الأكرم وأهل بيته من الأئمّة المعصومين؛ لتحقيق الغاية من إيجاد الخلق وتأمين سعادتهم في دار الدنيا وضمان فوزهم في دار الآخرة بالنعيم المقيم.

المبحث الثالث: حواره(عليه السلام) القرآني في إثبات شرعيّة ثورته

واجهَ إعلانَ الثورةِ الحسينيةِ ـ من المدينة المنورة إلى مكّة الـمُكّرمة ـ موجةُ اعتراضِ بعض المحبِّين إشفاقاً، وأصوات انتقاد المغرضين من الأُمويين حقداً، وما كان من الإمام الحسين(عليه السلام) إلّا أن يكون جوابه متناسباً مع معطيات كلِّ معترضٍ بالمداراة للمتعاطفين، ومُفحِماً لكلِّ مناوئ بالحُجّة الدامغة[35].

لقد توجهّت بعض الاعتراضات على نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) بتُهمةِ التمرّد وشقِّ عصا وحدة المسلمين، وأنّها مقدمةٌ لإحداث فتنةٍ عظمى. فكان جوابه(عليه السلام) في ردِّ هذه الشبهة ـ مستمّداً من دستور الأُمّة وثقلها الأوّل ـ بحوارٍ مستدلاً بقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[36]، فبيانه(عليه السلام) الثوري هو أحسن القول الداعي إلى طاعة الله تعالى ونبذ طاعة الحاكم الأُمويّ، وجهاده في رفض بيعة الطاغية يزيد المشهور بفسقه هو من أفضل الأعمال الصالحة التي ندب إليها الشارع المُقدّس في التقرّب إلى الله تعالى.

إنّ المتأمّل في جواب الإمام الحسين(عليه السلام) على رسالة الأشدق ـ الذي وصمه فيها بتُهمة الشقاق ودعاه إلى اللجوء إليه تحت وصايته ـ يجدُ فيها مدى صلابته(عليه السلام) وتنمّره في ذات الله تعالى، وهي سرّ شجاعته في تحدّي الإرهاب الأُمويّ، فقد كان ردّه(عليه السلام) بليغاً في نصّه القائل: (أمّا بعدُ، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله مَن دعا إلى الله(جل وعلى) وعمل صالحاً وقال: إنّني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة مَن لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمانة يوم القيامة)[37].

فآية الدعوة تنطوي على مضامين كثيرة استعملها الإمام الحسين(عليه السلام) في الردِّ على قول المرجف والمتخاذل، فهذه المقولة القرآنيّة إنّما صدرت من الله (جلّ وعلا) لتكملة الثناء على المؤمنين (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[38]، ولتوجيه استحقاقهم تلك المعاملة الشريفة؛ وعليه فصدا هذه المقولة يقمع الظالمين في قصورهم، أي: كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل.

وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمّة المشركين ووعيدهم على سوء قولهم، مشعر ـ لا محالة ـ أنّ بين الفريقين بوناً بعيداً، طرفاه الحُسنْ المصرّح به، وما يُقابله مفهوم السيّئ، أيّ: فلا يستوي الذين دعوا للمعروف وعملوا صالح العمل مع الذين أنكروا الحقّ وعملوا أسوأ العمل، كما لا تستوي الحسنة ولا السيئة، والمعنى: أنّ كفّة الداعين للإصلاح راجحة ويلزم قبولها؛ إذ لا أحسن منهم قولاً وعملاً، و(مَن) هنا استفهام نفي، أي: لا أحد أحسن قولاً من دعوة الطاعة لله تعالى كقوله(جل وعلى): (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله) [39]. ومَن دعا إلى الله، هو كلُّ أحدٍ نادى إلى عبادته بإخلاص، والدعاء إلى شيءٍ هو أمرُ الناسِ بالتقوى، وتسمية الواعظ ـ عند بعض العرب ـ بالداعي؛ لأنّه يدعو إلى التشيّع لآل علي بن أبي طالب، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد، وهو ما وُصفوا به آنفاً في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[40]، فقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيد الداعين إلى الله هو النبي الأكرم(صلى الله عليه واله)[41].

ثمَّ بيّنَ الإمام الحسين(عليه السلام) الغاية من ثورته وهي الغاية نفسها من خلق الإنسان؛ ليختبره المولى تعالى في هذه الدنيا، فقال(عليه السلام): «(قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)[42]، فإذا أقمت في مكاني فبمَن يُمتحن هذا الخلق المتعوس وبماذا يُختبرون؟ ومَن ذا يكون ساكن حفرتي وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحا الأرض...»[43]. لقد ابتلى اللهُ تعالى الأُمّةَ الإسلاميّة بموقف الإمام الحسين(عليه السلام) الثوريّ تجاه الطغيان الأُمويّ، واُبتلِيَ الإمام(عليه السلام) بتخاذل تلك الأُمّة وفشلها في الاختبار حتّى أذاقها الله تعالى لباس الخوف والجوع بعد تلك الفاجعة العظمى.

بعد أنّ دافع الإمام الحسين(عليه السلام) بحواره القرآني عن سلامة موقفه الثوريّ من كلِّ شائبةٍ، ونزّه دعوتَهُ عن كُلِّ معصيةٍ أو فتنةٍ مُردية، تقدّمَ(عليه السلام) لإثبات شرعيّة ثورته ببيانٍ صادحٍ بذكر الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله...)[44]، وقوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ)[45]، فقد أعلن(عليه السلام) أنّ الواعز الرئيس لثورته ودافعه الأساس هو حكم الله تعالى بإقامة دولة العدل والأمر بالمعروف الذي حكم به جدّه المصطفى، والنهيّ عن المنكر الذي حاربه جدّه خاتم الرسل، ؛ ونتيجة لذلك نسمع بيانه(عليه السلام) الأوّل لثورته المباركة في وصيته التي كتبها لأخيه ابن الحنفية بعد حوارٍ طويلٍ: (... وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي(صلى الله عليه واله)، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام))[46].

لقد تردد مضمون حواره(عليه السلام) في أذهان الأُمّة الإسلاميّة مدويّاً بين سلبٍ لكلِّ شُبهةٍ ونفيٍّ لكلِّ تُهمةٍ، وبين إيجابٍ لكلِّ ذريعةٍ شرعيّةٍ وإثباتٍ بحُجّةٍ قويّةٍ؛ لأنّ مصدرَها قرآنيٌّ لا يقوى على ردِّها المرجفون، ولا يتمكّن أن يُفنّدها المبطلون. لقد أيقن المسلمون وقتها بضلالة الطاغيّة يزيد وفسقه وجوره، ونزاهة الإمام الحسين(عليه السلام) وعصمته بحبل الله المتين وشرعيّة ثورته، واتّضحت صورة مشهد طرفي الصراع لديهم بوضوحٍ تام، وهنا يكمن ثبوت حُجيّة الثورة البالغة لكلِّ مَن سَمِعَ واعية الإمام الحسين(عليه السلام) ونداءه، وكان ينقصهم قوّة الإرادة وعلوّ الهمّة وشدّها، ورصانة العزيمة ورزانتها لبلوغ مدرك الفتح الأعظم وتحقيق النصر الأكبر، كما أنّ حبّهم للدنيا هو الحاجز الأكبر لفلاحهم، ورأس كلّ خطاياهم؛ لذلك لمّا استشعر الإمام الحسين(عليه السلام) من الأُمّة تثاقلها إلى الأرض وحبّها لزينة الدنيا وإيثارها على نعيم الآخرة ذكرّهم(عليه السلام) ـ وقتها ـ بفناء الدنيا وخلود الآخرة، وحتميّة لقاء الله تعالى للحساب، فتلا قوله تعالى: (وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [47]، وقوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[48].

وتأكيداً لبيانه(عليه السلام) في وصيته حاورهم وهو في طريقه إلى العراق، فقام في الناس خطيباً وداعياً إلى سبيل الحقِّ وصراطه القويم فقد قال(عليه السلام): «إنّ هذه الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلّا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، أَلا ترون أنّ الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقِّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما»[49].

لقد بيّن الإمام الحسين(عليه السلام) أنّ سعادة المرء في الدنيا رهنُ كرامة العيش وعزّة النفس وسيادة المُثل العُليا، ومن دونها فلا خيرَ في الدنيا؛ إذ تكون كالسجن عيشها نكداً ونهارها مُظلماً، وأنّ الإنسان بطبعه يكون مُحبّاً للدنيا، فإن فاق حبُّه لها حبَّه للدين فقد ابتعد عن الله تعالى وأسخط رسولَه(صلى الله عليه واله) والأئمةَ الطاهرين(عليهم السلام)، كما أنّه(عليه السلام) يرى أنّ المرءَ المُحبّ للدنيا إذا تمحّص بالبلاء ينسى دينه ويبقى حريصاً على دنياه الفانية، مائلاً عن ثواب آخرته الباقية، كارهاً للموت وهو حتميّ عليه. ومَن أحبّ دينه وتعلّق قلبه بالله تعالى مشايعاً لرسوله وأوصيائه(عليهم السلام) لن تضرّه القلاقل ولا تغريه الزبارج، وحين يرى أنّ الدين في المعمورة مهجوراً عندها يكره الدنيا ويتمنى الموت لملاقاة مَن أحبّه ويتنعم بجواره.

احتجاجه(عليه السلام) لردعهم عن سفك دمه الطاهر

لقد صدرت من الإمام الحسين(عليه السلام) في حواره مع الأعداء مناشدات فيها أسئلة تقريرية وأُخرى إنكاريّة على غرار الأسلوب القرآني في جداله مع الظالمين، كما نقل أصحاب السير وأرباب التاريخ أنّ الإمام(عليه السلام) أراد أن يلقي عليهم الحجّة البالغة وينبِّه عدوه بالعواقب الوخيمة من مبارزته وقتاله مع أصحابه وأهل بيته، فقام فيهم خطيباً في أكثر من مرّة مذكراً، وجادلهم منكراً عسى أن يثيبوا إلى رشدهم ولا يتورطوا في سفك دمه الطاهر، ولكنّهم أصرّوا على قتاله عناداً للحقّ وطمعاً في عطاءٍ زائلٍ، وكانوا في ثواب الآخرة من الزاهدين.

ومن أهم حوارياته الجدليّة مع أعدائه في يوم العاشر من المحرّم للتعريف بنسبه وحسبه، وقبيل أن تشتدّ الحرب بوطيسها وبعد أن وثب الإمام الحسين(عليه السلام) متكئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته: «أنشدكم الله، هل تعرفوني؟ قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّي رسول الله(صلى الله عليه واله)؟... قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً»[50].

لقد أقرَّ الطرف المعادي بنسب الإمام الحسين(عليه السلام) وفضله وحرمة قتاله على غرار إقرار الناس في القرآن الكريم من قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)[51]، الذي جاء في تفسيره أنّ أتباع الأنبياء والمصلحين قد أقرّوا بالتزام تعاليمهم، وهو بمنزلة الاستحلاف، بعد أن أخذ الله ميثاق النبيين لتبليغ الناس أحكام الكتاب وتعليمهم الحكمة، وأن يتعهدوهم الإيمان بخاتم الرسل وينصروه إن أدركوه، ودلَّ على هذا الحلف (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي)، والإصر هو العهد، والإصر في اللغة الثقل[52]. إنّها مناشدة تجعل القوم في مساءلةٍ كبيرة أمام الله تعالى، وتتبعها أسئلة تقريرية متتالية تُفيد طلب الإذعان وترك الغيّ والشقاق والعناد من خلال تذكيرهم بنسب الإمام الحسين(عليه السلام) وحسبه الرفيع، والذي يُلقي الحجّة البالغة عليهم وتدين إصرارهم مع اعترافهم. فقد كان مثله كمثل مؤمن آل فرعون الذي أنكر على قومه متعجباً من إصرارهم على الحنث الوارد في قوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ)[53]، فهل يحقُّ للقوم قتال سبطِ نبيِّهم من غير ذنبٍ ولا جناية أو تقصير؟

ثمّ ينتقل(عليه السلام) إلى حوار القوم بحُجّةٍ أُخرى عامّة بعد حجّة النسب الخاصّة بشأنه، فيذكِّرهم بالشريعة التي يدينون بها إن كانوا مسلمين حقّاً، فيسألهم مرّةً أُخرى عن المبرر الشرعي لقتاله والاقتصاص منه، فقد قال(عليه السلام): «يا ويلكم، أتقتلوني على سنّة بدّلتها؟! أم على شريعة غيّرتها؟! أم على جرم فعلته؟! أم على حقّ تركته؟!»[54].

وفي احتجاجٍ آخر للإمام مستعملاً السؤال الإنكاري المتضمّن للتعجب من موقفهم العدائي، واستغراباً من إصرارهم على قتاله، فناجزهم بحواره وألقى عليهم الحُجّة متوعداً إيّاهم عذاب الآخرة بنداء: (يا ويلكم)، ثمّ أردف الإمام سؤاله الإنكاري بتعجبٍ «عَلامَ تقاتلوني؟!» أيّ: ما هو سبب قتالهم إيّاه وما هو الوجه الشرعي أو العقلي لذلك، فلا يوجد أيّ مبررٍ يوجب قتال الإمام؛ إذ لم يُغيّر سُنّة باختلاق بدعةٍ، ولم يترك حقّاً في ذمته ولم يؤدّه.

لقد أوضح الإمام(عليه السلام) من خلال جداله أنّ الأُمّة وقتها أُصيبت بداء انعدام المعايير الصائبة، والانحياز لجهة الباطل بلا دليل شرعي أو عقلي غير اتّباعهم الهوى، فأقام(عليه السلام) عليهم الحُجّة البالغة والأدلّة المقنعة، ولكنّهم لم يرعوا ذلك، بل مضوا في غيِّهم، وسعوا في منهج الخلاف لصريح آيات القرآن المجيد، وما أمرهم به من ضرورة إعمال العقل في التمييز بين أهل الحقّ والباطل كما قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ)[55]، لقد أعماهم الجهل وأضلّهم حُبُّ الدنيا، فقست قلوبهم وصارت كالحجارة التي لم تفسّرها قوّة زلزلة الحوار الحسيني وروعته، وبلاغة منطقه، وصدق حديثه.

وخلاصة القول تتمحوّر حول أُسلوب الإمام الحسين(عليه السلام) البديع في حواره مع الآخرين، وما تمخّض عنه من طرق استدلالية باستعماله لآي الذكر الحكيم؛ لما يحمله من أساليب احتجاجية مقنعة، فقد طرق الإمام(عليه السلام) جميع السبل العقليّة والشرعيّة لردع أعدائه من التورّط في سفك دمه الطاهر، فذكّرهم بحسبه ونسبه ومقامه في الإسلام، ثمّ عرج إلى توبيخهم وإصرارهم على قتاله كرجلٍ مسلم ـ على الأقل ـ لعلّة فقدانهم المبرر الشرعي لمناجزته وعدائه؛ إذ لم يُغيّر سُنّةً ولم يأتِ ببدعةٍ، وقد ألقى عليهم الحُجّة البالغة ولم يترك لهم عذراً يقدِّمونه غداً في يوم حسابهم.

ورغم كلّ ذلك البيان البديع والحجج البالغة من حواره(عليه السلام) لم يستجب إلّا النزر القليل من المسلمين، ومع قلّةِ العدد وخذلان الناصر صمد(عليه السلام) مع تلك الثُلّة المؤمنة بوجه جيش أعتى الطغاة وأكثرهم فسقاً، وسجّل(عليه السلام) أكبر حدث شهده تاريخ الإسلام خاصّة والتاريخ الإنساني بصفة عامّة، وهو حدث واقعة الطف التي شهدت أكبر مأساة بقتل الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، وسبي نساء أهل بيت النبي(صلى الله عليه واله) من كربلاء إلى الشام، وهذا الحدث يُمثِّل انعطافة خطيرة في تاريخ المسلمين، ونقطة تحوّل في وعي المجتمع الإسلامي وثقافته؛ لما أحدثه من صرخةٍ مدويّةٍ بوجه الظالمين على مرِّ الأزمان مهما كانت هويتهم أو منزلتهم الاجتماعيّة ومكانتهم السياسيّة.

فسلام على أبي الأحرار يوم وُلِدَ ويوم استُشهد دفاعاً عن بيضة الدين الإسلامي من كيدِ وزندقة بني أُميّة.

نتائج البحث

بعد الاستعراض المقتضب لأُسلوب الإمام الحسين(عليه السلام) الحواري لا بدّ من الخروج بنتائج عدّة، وهي ما يلي:

1ـ إنّ المنطلق الأمثل لمعرفة العقائد الإسلاميّة وأُصول الدين هو القرآن الكريم؛ لقطعيّة صدوره بإجماع علماء الإسلام، إلّا أنّهم اختلفوا في فهم معناه وتحمّل وجوهه؛ بسبب الإعراض عن تأويل المتشابه منه وتفسير محكمات آياته، فقد قام بعض المسلمين بالكشف عن مضمونه بالرأي من دون الرجوع إلى أُصوله ومنابع تفسيره.

2ـ لقد استعمل الإمام الحسين(عليه السلام) آي القرآن الكريم في أغلب محاججاته مع المبطلين والمضلّين كما هو الحال مع المعترضين على خروجه من المغرضين بعد إعلان ثورته المباركة.

3ـ لقد مهّد الإمام الحسين(عليه السلام) لثورته الكبرى بإثبات أُصول الدين الإسلامي؛ لتقوية عقيدة المسلم وزيادة بصيرته، وكشف زيف بني أُميّة وضلالهم وبطلان إمامتهم للأُمّة الإسلامية.

4ـ عمل الإمام الحسين(عليه السلام) في توضيح الحقائق ونشرها كمقدمةٍ لبثّ روح الوعي العقدي في عقول المسلمين قبل استنهاضهم للثورة على أُصول الشجرة الخبيثة.

5ـ اتّسم حواره القرآني(عليه السلام) بقوّة البيان وتمام الحُجّة البالغة على مَن سمع واعيته المباركة؛ لتكون دافعاً لنهضة الأُمّة بوجه الطغاة، ولكنّ أغلب المسلمين وقتها أعرضوا عن صوت الحقِّ ميلاً لهوى النفس الذي أرداهم في الهاوية.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1. الاحتجاج على أهل اللجاج، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (ت548هـ)، نشر: دار الشريف الرضي، مطبعة شريعت، قم المقدسة، الطبعة الأُولى، 1380هـ.

2. الأغاني، علي بن الحسين الأصفهاني (ت356هـ)، تحقيق: د. علي عباس، دار صادر للطباعة، بيروت.

3. الأمالي، محمد بن علي بن بابويه المعروف بالصدوق (ت381هـ)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية، مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

4. الأمالي، محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، تقديم: علي أكبر غفاري، مطبعة دار المرتضى، بيروت.

5. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، محمد باقر المجلسي (ت1111هـ)، نسخة محققة، دار إحياء الكتب الإسلامية، قم المقدسة، الطبعة الثانية، 1411هـ.

6. البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي (ت774هـ)، دار المعارف، بيروت،1410هـ.

7. تاريخ الأُمم والملوك، محمد بن جرير الطبري (ت310هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل، دار المعرف، مصر، الطبعة الثانية.

8. تحف العقول عن آل الرسول، الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني الحلبي (المتوفى في القرن الرابع الهجري)، تقديم: حسين الأعلمي، الناشر: مؤسّسة الأعلمي، بيروت.

9. تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور (ت1393هـ)، الدار التونسية للطباعة والنشر، تونس، 1984م.

10. التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري المعروف بفخر الدين الرازي (ت606هـ)، مجلد دار الفكر، دمشق، الطبعة الأُولى، 1981م.

11. حياة الإمام الحسين بن علي(عليهما السلام)(دراسة وتحليل)، باقر شريف القرشي، تحقيق: مهدي باقر القرشي، العتبة الحسينية المقدسة كربلاء، الطبعة الثانية، ١٤٢٩هـ/٢٠٠٨م.

12. روضة الواعظين، محمد بن الفتّال النيسابوري (ت508هـ)، تحقيق: مجتبى الفرجي، منشورات دليل ما، قم المقدسة، الطبعة الثانية، 1431هـ.

13. شرح نهج البلاغة، عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي (ت656هـ)، تحقيق: محمد إبراهيم، دار الكتاب العربي، بغداد، الطبعة الأُولى، 1428هـ.

14. الفتنة الكبرى، طه حسين، مطبعة الهنداوي، القاهرة، 2012م.

15. الفهرست، محمد بن إسحاق المعروف بابن النديم البغدادي (ت438هـ)، تحقيق: إبراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، 1997م.

16. كتاب الحج (تقرير بحث المحقق الداماد)، عبد الله جواد الآملي.

17. اللهوف في قتلى الطفوف، علي بن موسى بن جعفر بن طاووس (ت664هـ)، تحقيق: الشيخ فارس تبريزيان، نشر: مطبعة أنوار الهدى، قم المقدسة، الطبعة الأُولى،1417هـ.

18. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محمد باقر المجلسي (ت1111هـ)، تصحيح: السيد هاشم الرسولي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، 1412هـ.

19. مفاتيح الجنان، عباس القمّي، تقديم: السيد محمد رضا النوري، دار اليوسف، بيروت.

20. المفردات في غريب القرآن، الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت502هـ)، المحقق: صفوان عدنان الداودي، الناشر: دار القلم، الدار الشامية، دمشق ـ بيروت، الطبعة الأُولى، 1412هـ.

21. الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت548هـ)، تقديم وتحقيق: عبد العزيز الوكيل، طباعة مؤسّسة الحلبي، طبعة القاهرة، 1387هـ.

22. المناقب، الموفق محمد بن أحمد الخوارزمي (ت568هـ)، تحقيق: الشيخ مالك المحمودي، نشر: مطبعة سيد الشهداء، قم، الطبعة الثانية، 1414هـ.

23. موسوعة حياة المستبصرين القسم العقائدي، تأليف ونشر: مركز الأبحاث العقائدية، قم المقدّسة ـ إيران، النجف الأشرف ـ العراق، الطبعة الأُولى، 1424هـ.

24. الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي (ت1402هـ)، الناشر: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 1417هـ. الأُسوة

25. ينابيع المودّة، سليمان بن الشيخ إبراهيم الحسيني القندوزي (ت1294هـ)، تحقيق: علي جمال أشرف الحسيني، دار الأُسوة للطباعة والنشر، الطبعة الأُولى، 1416هـ.

المجلات والبحوث والمواقع الإلكترونية

26. أُسس الحوار مع الآخر وأهميته في الفكر الإسلامي، محمد أحمد: http://alhiwartoday.net/node .

27. الحوار في القرآن، الإمام خالد التلمودي، مجلة منارة الدعوة، 2017م.

[1] ابن أبي الحديد المعتزلي، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة: ج1، ص249. طه حسين، الفتنة الكبرى (علي وبنوه): ج2، ص61.

[2] اُنظر: الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ٢٢٢-٢٢٣.

[3] المجادلة: آية1.

[4] الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن: ص134ـ135.

[5] اُنظر: التلمودي، خالد، الحوار في القرآن، مقال في مجلة منارة الدعوة: ص1، بتاريخ 1/6/2017.

[6] زيادة، خليل عبد المجيد، الحوار والمناظرة في القرآن الكريم: ص18. نقلاً عن: محمد أحمد: أُسس الحوار مع الآخر وأهميته في الفكر الإسلامي: ص2.

[7] اُنظر: مركز الأبحاث العقائدية، موسوعة من حياة المستبصرين: ج1، ص53ـ54.

[8] اُنظر: التلمودي، خالد، الحوار في القرآن، مقال في مجلة منارة الدعوة: ص1، بتاريخ1/6/2017.

[9] اُنظر: أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، الأغاني: ج6، ص132. وأيضاً: ابن النديم، محمد بن إسحاق، الفهرست: ص493. وأيضاً: مراد، بركات محمد، مذاهب الزنادقة وعقائد الباطنية في الفكر الإسلامي: ص28ـ32.

[10] الأنعام: آية103.

[11] الشورى: آية11.

[12] ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول: ص244.

[13] المصدرالسابق: ص244.

[14] اُنظر: ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير: ج7، ص414.

[15] اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج7، ص292.

[16] اُنظر: الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل: ص232.

[17] الذاريات: آية56.

[18] اُنظر: جوادي آملي، عبد الله، تقرير بحث المحقق الداماد (كتاب الحج): ج2، ص62

[19] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج95، ص226. نقلاً عن ابن طاووس في إقبال الأعمال.

[20] اُنظر: جوادي آملي، عبد الله، تقرير بحث المحقق الداماد (كتاب الحج): ج2، ص63.

[21] الأعراف: آية28.

[22] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج5، ص123ـ124.

[23] اُنظر: القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن: ج7، ص135.

[24] الإنسان: آية3.

[25] النساء: آية59.

[26] النساء: آية83.

[27] اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج5، ص27.

[28] اُنظر: ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، ج5، ص140. وأيضاً: الفخر الرازي، محمد بن عمر، مفاتيح الغيب: ج10، ص200.

[29] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص22ـ23.

[30] المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص349ـ350.

[31] الأعراف: آية96.

[32] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج33، ص183.

[33] المصدر السابق: ص184.

[34] النمل: آية14.

[35] اُنظر: القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين: ج3، ص25ـ33.

[36] فصلت: آية33.

[37] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص591. واُنظر: ابن كثير، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص165ـ 166.

[38] فصلت: آية30.

[39] النساء: آية125.

[40] فصلت: آية30.

[41] اُنظر: ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير: ج25، ص288ـ 289.

[42] آل عمران: آية154.

[43] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص42.

[44] آل عمران: آية110.

[45] المجادلة: آية22.

[46] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329ـ330.

[47] الكهف: آية110.

[48] الحديد: آية20.

[49] ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول: ص245.

[50] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص222ـ223. واُنظر: النيسابوري، محمد بن الفتّال، روضة الواعظين: ج1، ص391.

[51] آل عمران: آية81.

[52] اُنظر: القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن: ج4، ص125ـ 126.

[53] غافر: آية41.

[54] القندوزي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودّة: ج3، ص80.

[55] القلم: آية35ـ37

الحوار القرآني عند الإمام الحسين(عليه السلام) - دراسة تحليلية