الإصلاح الحسيني: ابتداءً نشكركم (سماحة الشيخ) على استجابتكم الكريمة لدعوة مجلّتنا، لنبدأ معكم حواراً نأمل أن نتناول فيه نقاطاً مهمّة في موضوع (أساليب النصرة في القرآن الكريم وتجلّياتها في النهضة الحسينية)، وحرصاً منّا على تغطية شاملة لأهم مطالب الموضوع، والاستفادة المثلى من هذه الفرصة المتاحة، ارتأينا أن نطرح على سماحتكم مجموعة من الأسئلة ضمن محاور تمثل المفاصل الأساسية في موضوع حوارنا.

الإصلاح الحسيني: ابتداءً نودّ من سماحتكم أن تقدّموا للقارئ العزيز إطلالة على مفهوم النصرة في المعاجم اللغوية، وما تتمخّض عنه أقوال اللغويين من معانٍ؟

(الشيخ الكوراني): بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على الإخوة الأعزّاء في مجلّة الإصلاح الحسيني. قبل البدء بالإجابة عن سؤالكم أودّ الإشارة إلى أنّنا لو وقفنا على عنوان النصـرة في القرآن الكريم لوجدنا أنّ الله تعالى وفي آية واحدة نسب هذه المفردة إلى الناس تارةً وإلىه تعالى تارةً أُخرى، حيث قال (عزّ من قائل):(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [1]، فالنصـر الأخير الملحوظ في هذه الآية وإن كان من الله(عز وجل)، إلّا أنّه مشـروط بنصر سابق عليه يكون مصدره الناس أنفسهم، فهم بعد أن ينصروه من خلال الجهاد في سبيله، والقتال لوجهه، ينصـر الله نياتهم، ويوفّقهم، ويسهّل الأسباب المقتضية لظهورهم وغلبتهم على عدوّهم[2].

وبعد وضوح هذا الأمر يتبيّن لنا أنّ النصرة في القرآن الكريم وفي اللغة استُعملت بمعنى واحد، وهو المعنى العرفي، هذا المعنى الذي اشتّق منه مصطلح (الأنصار) الذي نشأ بعد هجرة الرسول(صلى الله عليه واله) إلى المدينة المنوّرة، فهذه الفئة المؤمنة قد نصرت النبي(صلى الله عليه واله) وساعدته في محنته إبّان المواجهة بينه وبين قريش؛ وعليه فالذي يتبادر من (النصرة) هو نصرة المظلوم ومساعدته، سواء كان في حرب أو في أي موقف آخر.

هذه إطلالة على مفهوم النصرة بشكل عامّ، أمّا التوسّع أكثر في المقام فنرجئه إلى ما سوف نقدّمه من إجابات عمّا تتفضّلون به من أسئلة أُخرى في هذه الحوارية.

الإصلاح الحسيني: ما هي الجذور التاريخية لاستعمال مصطلح النصرة والأنصار في ثقافتنا الإسلامية؟

(الشيخ الكوراني): إنّ الجذور التاريخية لاستعمال مصطلحي (النصـرة) و(الأنصار) في الثقافة الإسلامية يمكن أن نكتشفهما من خلال الرجوع إلى آيات القرآن، وذلك كالآية القرآنية المتقدّمة في جوابنا عن سؤالكم الأوّل، ويمكننا أن نكتشفهما أيضاً من سيرة الرسول الأعظم(صلى الله عليه واله)، وموقفه تجاه الذين آووه ونصروه وبايعوه من أهل يثرب، فإنّه وتثميناً لهذا الموقف الجليل أطلق عليهم لقب الأنصار، فاشتُهر مصطلح الأنصار، واستمر بهذا المعنى، حتّى أُطلق على الكثير من الحركات والجماعات الرافضة للظلم ـ والتي تقف بوجه السلطات المعادية لخط أهل البيت(عليهم السلام) ـ
مصطلح الأنصار، وهي تفتخر بارتباطها بأنصار النبي(صلى الله عليه واله)، وموقفهم المشـرِّف معه(صلى الله عليه واله) في مواجهة الظلم، ونشـر الإسلام، والدعوة إليه بالحق.

الإصلاح الحسيني: يحدّثنا القرآن الكريم عن صور ونماذج للنصـرة من قبل الله تعالى لنبيه(صلى الله عليه واله) والمؤمنين في معركة بدر وغيرها، فما هي معايير تحقّق هذا النوع من النصرة الإلهية؟ وبعبارة أُخرى ما هي السنن الإلهية فيما يرتبط بالنصرة والمدد الإلهي الغيبي؟

(الشيخ الكوراني): فيما يرتبط بمعايير النصـر الإلهي ـ أو شروطه بتعبير آخر ـ
يمكننا أن نطرح شرط الإخلاص لله، وأن يبذل الشخص كلّ ما يستطيع في سبيله؛ وبالتالي فإذا حدث خلل في نصـرته من هذا الجانب كما حدث في معركة أُحد، فإنّه سوف تُسلب منه النصرة، كما سُلبت من المسلمين الذين لم يطيعوا أوامر نبيّهم(صلى الله عليه واله) كما ينبغي في المعركة المشار إليها آنفاً، فإنّه ونتيجة عدم إخلاصهم وذنوبهم (اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ)[3]؛ إذاً قاعدة النصـرة أو قانون النصـرة أو سنّة النصـرة الإلهية ستكون حاضرة ما دام المعيار المذكور موجوداً.

نعم، هذا لا يعني أنّه في كلّ مورد فُقد فيه النصـر الظاهري لشخص أو فئة فإنّ هؤلاء كان يعوزهم الإخلاص في مجالي العقيدة والعمل؛ والسبب في ذلك هو أنّنا لا نعرف العوامل والدوافع التي نحكم في ضوئها بصحّة وسقم الحركة التي قام بها هؤلاء، ولا نعرف أيضاً الحكمة الإلهية الكامنة وراء عدم تحقّق النصر لهم.

وبالنتيجة فلا بدّ لنا أن نكون من المتأمّلين في النصر الإلهي، والجازمين بتحقّقه والساعين إليه من خلال استكمال كافّة الشرائط المطلوبة في المقام، والتي من أبرزها ما ذكرناه في كلامنا المتقدّم.

الإصلاح الحسيني: هناك الكثير من الآيات تدلّ على أنّ الله تعالى أخذ على نفسه نصـر الأنبياء والمؤمنين، منها قوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[4]، وفي آية أُخرى يقول تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[5]، ويقول تعالى أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[6]، إنّ هذه الآيات ونظائرها ربّما تثير شبهة لدى البعض، مفادها: لماذا غابت هذه النصرة في يوم عاشوراء مع أنّها تمثِّل وعداً إلهياً؟ فهل هناك مَن يستحقّ هذه النصرة أكثر من الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه؟! وهل للنصـر معنى آخر ينسجم مع خسارة المعركة عسكرياً؟

(الشيخ الكوراني): إنّ الوعد المذكور في الآيات التي وردت في سؤالكم من الأُمور المسلّمة التي لا ينبغي الشكّ فيها، إلّا أنّه من المفترض أن نتوجّه إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أنّ النصـر ينقسم إلى قسمين، هما: النصر المادّي (العسكري)، والنصر المعنوي، ممّا يعني أنّ الوعد الإلهي بالنصـر لا تؤثّر فيه الخسارة العسكرية في بعض الأحيان ـ ونحن وكما هو مشاهد لدى الجميع ـ لمسنا تحقّق الوعد الإلهي بحقّ النهضة الحسينية المباركة، والثمرات الكثيرة المترتّبة على الانتصار المعنوي لها، سواء في الأزمنة الماضية، أم في زماننا الحالي.

أضف إلى ذلك أنّ الحياة لا تنحصـر في زمان قصير يقيس فيه الإنسان المفاهيم الإلهية في ضوء مدّة عمره، بل من المفترض أن ينظر عموم الأحداث التي ستمرّ بها البشرية، ومن المؤكّد أنّ ربط النهضة الحسينية بالأُطروحة المهدوية، وقيام دولة الإمام الحجّة(عجل الله فرجه الشريف)، ستكون نتيجته انتهاء الظلم، وانتصار المؤمنين، وإقامة دولة العدل التي ستستمر أضعاف ما حكم الطغاة؛ إذاً هذا نصرٌ ماديٌّ ومعنويٌّ لدولة الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، ونصـر معنويٌّ للنهضة التي قام بها الإمام أبو عبد الله(عليه السلام).

ثمّ إنّه لدينا موارد أُخرى في القرآن تضمّنت الوعد الإلهي بالنصر، كقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[7]، مع ملاحظة أنّ الرسل(عليهم السلام) لم يتحقّق لهم النصر الظاهري في جميع المواطن؛ لتخلّف بعض الشرائط المطلوبة في تحقّق هذا النوع من النصـر، بل يمكننا أن نقول بشكل عامّ: إنّ المسيطر والمنتصر والحاكم على الأرض هم الطغاة، وأمّا الأنبياء(عليهم السلام) ففي فترات قليلة تمّت فيها شروط نصرهم صارت لهم الغلبة الظاهرية على خصومهم.

وعليه؛ فالوعد الإلهي بنصرة الأنبياء(عليهم السلام) لا ينحصر بمصداق واحد، وهو النصـر الظاهري، بل له مصداق آخر، يتضمّن إرساء الدعوات التي نادى بها الأنبياء(عليهم السلام)، والتي سعوا من خلالها إلى إحياء نداء الفطرة الإلهية لدى البشر، وجعل كلمة الله هي العليا، مقابل الدعوات الهدّامة التي تسعى إلى جرّ الإنسان نحو عبودية مظلمة، يسير فيها خلف نزواته وغرائزه، مبتعداً كثيراً عن الغاية السامية التي كانت سبباً لخلقته وإيجاده في هذه النشأة، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[8].

أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى:(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[9] بيّن لنا مصداقاً ثالثاً للنصر الإلهي، وهو نصر الأنبياء(عليهم السلام) والمؤمنين يوم القيامة، فلا يشترط أن يكون النصر واقعاً في هذه النشأة وحسب، فيمكن تحقّقه من خلال معاقبة الظالمين بإدخالهم نار جهنّم، وإثابة المظلومين بإدخالهم في النعيم وجنات الخلد، فأيّ نصرٍ أبلغ من هذا.

إذاً؛ فإذا غابت النصرة العسكرية (الظاهرية) في يوم عاشوراء عن الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه، مع أنّها تُمثِّل وعداً إلهياً، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[10]، فإنّه لا يعني الشكّ بحقّانية القضية الحسينية؛ والسبب في ذلك هو أنّ نهضة المولى أبي عبد الله(عليه السلام) وإن خسرت المواجهة عسكرياً إلّا أنّها أفرزت ظلامة ومأساة أصبحت أُنشودة لجميع الأجيال، وشعاراً لهم، وهم يواجهون الجبابرة والطغاة في شتّى المستويات، وسوف يستمر هذا الشعار جذوة مستعرة، ليكون عاملاً رئيساً في النصر الإلهي الآتي الذي سيتحقّق على يد الإمام صاحب الأمر والزمان(عجل الله فرجه الشريف)، فهل من نصر حقّقته النهضة الحسينية أعظم من هذا النصر الذي يجعلها ممهِّدة لدولة الحقّ الإلهي؟ كيف لا وإنّ مؤسّس هذه الدولة المباركة ـ كما جاء في الآثار ـ قد لُقّب بالطالب بثأر جدّه الإمام الحسين(عليه السلام)، بل الطالب بثأر جميع الأنبياء(عليهم السلام) الذين لحق بهم الظلم، ولم يتمّ الانتصار لهم، وقد جاء هذا المعنى في دعاء الندبة: «أَيْنَ الطّالِبُ بِذُحُولِ الأَنْبِياءِ وَأَبْناءِ الأَنْبِياءِ؟ أَيْنَ الطَّالِبُ بِدَمِ المَقْتُولِ بِكَرْبَلاَء؟»[11].

هذا، وإنّ ما أودّ الإشارة إليه أنّ السبب الذي يرجع إليه طرح شبهات كهذه هو غياب العلم بالمخطّط الإلهي، فالبعض لجهلهم بذلك يطلبون دائماً أن تكون مادّة الحسم في أيّ صراع بين جبهتي الحقّ والباطل بيد الله(عز وجل) مباشرة، بينما المخطّط الذي رسمه(عز وجل) للبشـرية هو بقاء هذا الصراع، وأخذه لمجراه الطبيعي، وفي ضمن هذا المخطّط أيضاً قدّر سبحانه وتعالى أن تقع الظلامة الكبرى على الأُسرة النبوية الطاهرة، وأبرز مصاديق هذه الظلامة هو ما وقع في كربلاء، فيمكننا القول: بأنّ الله(عز وجل) قد شاءت إرادته ألّا ينصـر الإمام الحسين(عليه السلام) عسكرياً، ونظراً لكون إرادتهم(عليهم السلام) تابعة لإرادة المولى(عز وجل)، فالإمام(عليه السلام) نفسه لم يطلب هذه النصـرة من الله تعالى، ولو طلبها بكلمة واحدة لتمّ نصره بالملائكة أو بغيرهم.

وخير دليل على إمكان هذا الأمر ما ورد في الأثر عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّ القوم لمّا هجموا على الخيام هيّأ الله(عز وجل) فارساً على هيئة المقاتلين من أهل الشام يدافع عنه[12]، والسرّ في تحقّق هذا الأمر هو إرادة حفظ هذا الإمام العليل مهما كلّف الأمر، بينما الأمر قد يكون مختلفاً بشأن الإمام الحسين(عليه السلام)، فهو على الرغم من كونه مستجاب الدعاء في أيّ زمان ومكان، مالكاً للاسم الأعظم، إلّا أنّه لم يطلب ذلك، والسبب قد يجهله الناظر إلى الواقعة في حينها، لكن الذي شاهد البركات والثمرات التي ترتّبت على إشاعة قيم هذه النهضة في الأوساط الشيعية خصوصاً، والإسلامية عموماً، والبشـرية بوجه أعم، يقف على حقيقة أنّه(عليه السلام) وإن خسر المعركة عسكرياً إلّا أنّه حقّق إنجازاً معنوياً أكبر بكثير من أيّ نصـر عسكري حقّقته ثورة أو حركة تغييرية.

ويمكن أن نؤيّد المعنى المتقدّم بما ورد عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّه جاءه رجل مهموم، وشكا له قرضه الذي أثقله، ولم يكن عند الإمام(عليه السلام) مال؛ لأنّ الوليد كان قد صادر أمواله، فأعطاه قرصيه قوت يومه، وأمره أن يذهب إلى السوق ويشتري بهما شيئاً، فوجد سمكتين غير مرغوبتين، فاشتراهما، فوجد في جوفها لؤلؤتين ثمينتين، وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه، وحسنت بعد ذلك حاله، فقال بعض المخالفين: ما أشدّ هذا التفاوت! بينا علي بن الحسين لا يقدر أن يسدّ منه فاقة إذ أغناه هذا الغناء العظيم، كيف يكون هذا؟ وكيف يعجز عن سدّ الفاقة مَن يقدر على هذا الغناء العظيم؟[13]، فقال علي بن الحسين(عليه السلام): «هكذا قالت قريش للنبي(صلى الله عليه واله): كيف يمضـي إلى بيت المقدس، ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء(عليهم السلام) من مكّة، ويرجع إليها في ليلة واحدة، مَن لا يقدر أن يبلغ من مكّة إلى المدينة إلّا في اثني عشر يوماً، وذلك حين هاجر منها؟!... جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه، إنّ المراتب الرفيعة لا تُنال إلّا بالتسليم لله جلّ ثناؤه، وترك الاقتراح عليه، والرضا بما يدبّرهم به، إنّ أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لما يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله(عز وجل) عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنّهم مع ذلك لا يريدون منه إلّا ما يريده لهم»[14]؛ إذاً فعدم نصـرة الله للإمام الحسين(عليه السلام) فيها حكمة إلهية.

وقد تكون الرواية التي ذكرها الشيخ الصدوق(رحمه الله) عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)، هي في مقام بيان هذه الحكمة، حيث ذكر الإمام(عليه السلام) أنّ شهادة جدّه الإمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء كانت من الأُمور المقدّرة لله تعالى، وأنّه من اللازم حصولها حتّى يفوز(عليه السلام) بالمنزلة والمقام الرفيع عنده(عز وجل). وهذه الرواية طويلة نقتصر فيها على محلّ الشاهد، حيث يقول الإمام الصادق(عليه السلام) بعد تطرّقه للكتاب الوارد من يزيد بن معاوية الذي يأمر به بأن يُبعث إليه برأس الإمام الحسين(عليه السلام): «فهمّ [أي الإمام الحسين(عليه السلام)] بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق، فلمّا أقبل الليل راح إلى مسجد النبي(صلى الله عليه واله) ليُودّع القبر، فلمّا وصل إلى القبر سطع له نور من القبر، فعاد إلى موضعه، فلمّا كانت الليلة الثانية راح ليودّع القبر، فقام يصلّي فأطال، فنعس وهو ساجد، فجاءه النبي(صلى الله عليه واله) وهو في منامه، فأخذ الحسين(عليه السلام)، وضمّه إلى صدره، وجعل يقبّل بين عينيه، ويقول: بأبي أنت، كأنّي أراك مرمّلاً بدمك بين عصابة من هذه الأُمّة، يرجون شفاعتي، ما لهم عند الله من خلاق، يا بُني، إنّك قادم على أبيك وأُمّك وأخيك، وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجنّة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة. فانتبه الحسين(عليه السلام) من نومه باكياً، فأتى أهل بيته، فأخبرهم بالرؤيا، وودّعهم، وحمل أخواته على المحامل وابنته وابن أخيه القاسم بن الحسن بن علي(عليه السلام)، ثمّ سار في أحد وعشرين رجلاً من أصحابه وأهل بيته»[15].

الإصلاح الحسيني: تضمّنت بعض المصادر روايات تشير إلى أنّ الملائكة طلبت من الله تعالى أن تنصر الإمام الحسين(عليه السلام)، فأذن لها، فمكثت تستعد للقتال وتتأهّب حتّى قتل(عليه السلام)، وأنّ جمعاً من الملائكة والجنّ طلبوا الإذن من الإمام الحسين(عليه السلام) لمناصرته فلم يقبل ذلك منهم، إلى أيّ مدى يمكن الوثوق بهذه النصوص؟ وما هو رأي سماحتكم في مضامينها التي ربّما تثير بعض الشبهات؟ وإن صحّت هذه الروايات فلماذا لم يقبل الإمام(عليه السلام) هذا النوع من النصرة؟

(الشيخ الكوراني): بيّنت لكم في الجواب عن السؤال السابق أنّ النصـرة الإلهية سواء كانت بواسطة الملائكة أو بالجنّ أو بغير ذلك، كانت ممكنة من قبل المولى(عز وجل) من الناحية العقلية، فلا مانع حينها من نصوص كهذه. نعم، المخطط الإلهي ـ كما أسلفنا ـ
كان ناظراً إلى مصلحة أعظم من تحقّق النصرة الآنية في واقعة الطفّ، ونظراً لكون الإمام الحسين(عليه السلام) يسير على وفق هذا المخطّط رفض لذلك الاستعانة بالوسائل الإعجازية من أجل تحقيق النصر العسكري في حربه ضدّ المعسكر الأُموي.

ولعلّ الملائكة عندما حُرموا من نصرة الإمام الحسين(عليه السلام) قد عُوّضوا بمهام أُخرى لا تقلّ أهمية عن النصرة العسكرية، من قبيل: البكاء عليه(عليه السلام) إلى يوم القيامة، والصلاة عليه، والاهتمام بزوّاره والدعاء لهم، فنفس الرواية التي يمكن أن تكون منطلقاً لسؤالكم قد أشارت إلى بعض هذه المهام، وهذه الرواية هي التي أوردها الشيخ الصدوق(رحمه الله) في (أماليه) عن الإمام الصادق(عليه السلام): «إنّ أربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي (صلوات الله عليه)، فلم يؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستئذان، وهبطوا وقد قُتِل الحسين(عليه السلام)، فهم عند قبره شُعْثٌ غُبْرٌ يبكونه إلى يوم القيامة، ورئيسهم ملك يُقال له: منصور»[16].

وفي رواية أُخرى أوردها الشيخ الصدوق(عليه السلام) في كتابه (ثواب الأعمال) عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً: «إنّ أربعة آلاف ملك عند قبر الحسين(عليه السلام) شُعْثٌ غُبْرٌ يبكون إلى يوم القيامة، بينهم ملك يقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه، ولا يودّعه مودّع إلّا شيّعوه، ولا يمرض إلّا عادوه، ولا يموت إلّا صلّوا على جنازته، واستغفروا له بعد موته»[17]، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي ذكرت هذا المعنى[18].

الإصلاح الحسيني: لماذا يطلب الإمام الحسين(عليه السلام) النصرة وهو في طريقه إلى كربلاء مع أنّه(عليه السلام) يعلم بمصيره ومصير مَن معه من القتل والسبي كما صرّح(عليه السلام) بذلك في بعض خطبه؟

(الشيخ الكوراني): يمكن الجواب عن هذا السؤال بأنّه قد ورد في الروايات عن الإمام الحسن(عليه السلام) قال: «سمعت أبي [أمير المؤمنين(عليه السلام)] يقول: قال رسول الله(صلى الله عليه واله): لن تذهب الأيام والليالي حتّى يلي على أُمتي رجل واسع البلعوم، رحب الصدر، يأكل ولا يشبع، وهو معاوية»[19]، وعلى الرغم من هذا الإخبار نجد أنّ الإمام علياً(عليه السلام) قد عبّأ الأُمّة لقتاله، وبالفعل وقعت معركة صفّين، التي كانت نتائجها لمصلحة معسكره(عليه السلام) لولا مكائد ابن العاص، وتخاذل بعض الكوفيين وجهلهم، ومن الواضح أنّ هذه التعبئة لا تتنافى مع الإخبار المتقدّم، فإقامة الحجّة على معاوية وأتباعه من جهة، وعلى مَن في معسكر الإمام(عليه السلام) من جهة أُخرى، كان يتطلّب تحرّكات تسعى إلى إثبات أحقّيته(عليه السلام)، وإبطال ما عليه معاوية بعدما رفض إطاعة أوامر الخليفة الشـرعي على عموم المسلمين، وصولاً إلى الحركة العسكرية لاستئصال هذه الغدّة السرطانية التي كانت تنخر بالكيان الإسلامي، على كلّ حال علم الإمام(عليه السلام) بعواقب الأُمور شيء، وحركته باتّجاه تكليفه الظاهري شيء آخر.

ونفس الكلام نسوقه للجواب عمّا ورد في سؤالكم، فهم(عليهم السلام) نور واحد، ومواقفهم في أمور كهذه لا تتخالف، فالإمام الحسين(عليه السلام) على الرغم من علمه الواقعي بمآلات الأُمور في واقعة الطفّ، من قتل له ولأهل بيته وصحبه، وسبي للأُسرة الكريمة بعد ذلك، إلّا أنّه لم يألُ جهداً في طلب النصرة؛ والسبب في هذا الاستنصار يعود إلى غرضين أراد الإمام(عليه السلام) تحقيقهما:

الأوّل: إقامة الحجّة على الأُمّة.

الثاني: الحصول على شريحة فذّة من الأصحاب، وهذا ما يمكن فهمه من خلال الإعلان بشكل واضح وصريح لـمَن يسير معه بأنّ مصير الجميع سيؤول إلى الشهادة، فقد كتب(عليه السلام) وهو في مكّة إلى أخيه بن الحنفية: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَن قِبله من بني هاشم، أمّا بعد فإنّ مَن لحق بي استُشهد ومَن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام»[20]. فيا لها من منزلة عظيمة وثواب جزيل تحصل عليه هذه الثلّة الطيبة، كيف لا وقد صرّح بأنّ هؤلاء مشاركون له(عليه السلام) في الفتح الذي انبثق من هذه النهضة المعطاء.

ومن هذا المنطلق؛ أرى أنّ أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) أفضل من أصحاب الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) الذين يُعبِّر عنهم الرسول الخاتم(صلى الله عليه واله) بـ (إخواني)[21]؛ وذلك لأنّ أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) يعرفون بأجمعهم أنّهم لا ينجون أبداً، فكلّهم سوف يُقتلون يوم العاشر، ومع هذه المعرفة والوضوح التام لم يكن منهم إلّا الرضا والقبول، روى الراوندي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّه قال: «لـمّا كانت الليلة التي قُتل فيها الحسين(عليه السلام) في صبيحتها قام في أصحابه، فقال(عليه السلام): إنّ هؤلاء يريدونني دونكم، ولو قتلوني لم يقبلوا إليكم، فالنجاء النجاء، وأنتم في حلٍّ، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتِلتم كلّكم. فقالوا: لا نخذلك، ولا نختار العيش بعدك. فقال(عليه السلام): إنّكم تُقتلون كلّكم حتّى لا يفلت منكم واحد»[22]، بل كانوا فرحين مستبشرين يتسارعون لنيل مرتبة الشهادة بين يدي إمامهم الحسين(عليه السلام)، قال السيّد ابن طاووس في (اللهوف) غداة يوم عاشوراء: «أمر الحسين(عليه السلام) بفسطاط فضُـرب، فأمر بجفنة فيها مسك كثير وجعل عندها نورة ثمّ دخل ليطلي، فرُوي أنّ برير بن خضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري وقفا على باب الفسطاط ليطليا بعد، فجعل برير يضاحك عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: يا برير، أتضحك؟! ما هذه ساعة ضحك ولا باطل، فقال برير: لقد علم قومي أنّني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، وإنّما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوالله ما هو إلّا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم بها ساعة ثمّ نعانق الحور العين»[23]. أمّا أصحاب الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف) فلا أحد يُقتل منهم كما قُتل أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام)، بل بعد ذلك يصيرون حكّام العالم.

الإصلاح الحسيني: هل كانت نصرة الإمام الحسين(عليه السلام) واجبة أو كانت على نحو التخيير، ممّا يمكن معه التماس العذر لمن تخلّف عن نصرته(عليه السلام)؟

(الشيخ الكوراني): إذا أردنا أن نتحدّث بدقّة عن الحكم الشرعي لنصرة المولى أبي عبد الله(عليه السلام) فإنّه ينبغي لنا معرفة الغاية التي أدّت به(عليه السلام) إلى التحرّك والنهوض بوجه السلطة الحاكمة آنذاك، وهذه الغاية يمكننا الحصول عليها من خلال الرجوع إلى الوصيّة التي كتبها(عليه السلام) إلى أخيه محمد بن الحنفية عند خروجه من المدينة قاصداً مكّة، والتي جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أنّ لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَن في القبور، وأنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب(عليهما السلام)...»[24]؛ إذاً فغايته(عليه السلام) تتجلّى من خلال هذه الوصية في الأُمور التالية:

1ـ السعي إلى إصلاح الأُمّة الإسلامية.

2ـ تحقيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3ـ السير بسيرة جدّه المصطفى(صلى الله عليه واله) وأبيه على المرتضى(عليه السلام).

ومن الواضح أنّ نصرة المولى أبي عبد الله(عليه السلام) لتحقيق هذه الغايات هي عبارة عن نصـرة دين الله(عز وجل)، هذه النصرة التي لا يشكّ أحدٌ في أنّها من أوجب الواجبات، كيف لا وقد جاءت التصـريحات القرآنية الكثيرة التي تأمر المسلمين بالجهاد في سبيل الله، والوقوف بوجه كلّ مَن تسوّل له نفسه المساس بدينه(عز وجل) من أئمّة الكفر وأولياء الشيطان، قال تعالى:(وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ)[25]، وقال أيضاً: (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ )[26]، وقال كذلك: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[27]، إلى غير ذلك من الآيات التي تحثّ المسلمين على الدفاع عن الدين، ومقاتلة العدو، ولزوم إعداد العدّة والعدد لمواجهة أيّ خطر يُداهم هذا الدين الحنيف؛ هذا الخطر الذي كان واضحاً عند الإمام الحسين(عليه السلام) ولم يُخفه أبداً، فقد صرّح به في محاورته مع اللعين مروان بن الحكم الذي طلب منه(عليه السلام) البيعة ليزيد، حيث قال له الإمام(عليه السلام): «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد»[28].

وبعد هذه الغايات التي بيّنها(عليه السلام)، وبعد هذا التشخيص الدقيق له(عليه السلام)، لا يبقى مجال للشكّ في كون نصرته(عليه السلام) من الواجبات، وأنّ مَن تخلّف عنها من دون مبرّر شرعي يُعدّ من المقصّرين والمذنبين، قال تعالى في ذمّ أمثال هؤلاء: (وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[29]، وقال أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ الله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[30]، وقال كذلك: (لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)[31].

أمّا ما قد يُقال بشأن الوعد الإلهي بنصرة مَن ينصره ويجاهد في سبيله، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[32]؛ فإنّه من المعلوم أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) قد بذل قصارى جهده في نصرة دين الحقّ، سواء من الناحية المادّية بإعداد المناصرين ووضع الخطّة العسكرية للمواجهة يوم العاشر من المحرّم، أو من الناحية الروحية، بالدعاء والتضـرّع إلى الله(عز وجل)، فكلّ أسباب النصر الإلهي معدّة ومتوقّفة على إرادته سبحانه، فقد أجبنا عن هذا الإيراد فيما سبق، بأنّ النصر الإلهي لا ينحصر في النصر المادّي (العسكري) وحسب، بل يشمل أيضاً النصر المعنوي، فنهضته ـ بحمد الله(عز وجل) ـ أصبحت سنداً أساسياً لتثبيت دعائم الدين الحقّ، ونبذ الظلم والفساد بشتّى صورهما، ويُضاف إلى هذا ما قلناه سابقاً: بأنّ ما تحقّق في كربلاء من ظلامات سيكون عاملاً رئيساً في النصر الإلهي الآتي الذي سيتحقّق على يد الإمام صاحب الأمر والزمان (عجل الله فرجه الشريف).

الإصلاح الحسيني: نشاهد من الإمام الحسين(عليه السلام) موقفين مختلفين فيما يرتبط بموضوع النصـرة، فهو يطلب النصرة تارة، ويأذن لأصحابه بالانصراف، ويجعلهم في حلٍّ منه تارة أُخرى، كيف يمكن أن نجمع بين هذين الموقفين المختلفين؟

(الشيخ الكوراني): نعم يبدو لأوّل وهلة أنّ هناك تعارضاً بين الموقفين، فإنّه(عليه السلام) قُبيل خروجه من المدينة، وفي أثناء تواجده في مكّة، أو عند خروجه منها وتوجّهه إلى العراق، لم يكفّ عن تحشيد الأنصار وحثّهم على نصرته في النهضة الإصلاحية التي قام بها ضدّ طاغية عصـره يزيد بن معاوية. فهو(عليه السلام) وجّه ابن عمّه مسلم بن عقيل لأخذ البيعة له من أهل الكوفة[33]، وفي مكّة نجده(عليه السلام) يُرسل رسالة إلى أخيه محمد ابن الحنفية وبني هاشم يحثّهم على نصرته والتضحية في سبيل الله معه، حيث جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومَن قِبله من بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ مَن لحِق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح، والسلام»[34]، وفي هذه الأثناء أيضاً يكتب(عليه السلام) كتاباً يطلب فيه النصرة من زعماء أهل البصـرة، جاء فيه: «أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلَّغ ما أُرسل به (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس... وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، فإنّ السنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتُطيعوا أمري أهدِكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله»[35]، إلى غير ذلك من الدعوات التي قام بها(عليه السلام) لبعض الشخصيات التي التقى بها وهو في طريقه إلى العراق، كالضحّاك بن عبد الله المشرقي، ومالك بن النضر الأرحبي، وزهير بن القين البجلي.

ومع كلّ هذه الدعوات نجده(عليه السلام) عند وصول خبر شهادة سفيره مسلم بن عقيل إليه، وكذلك خبر شهادة عبد الله بن يقطر، يُخرج للناس كتاباً ويقرأه عليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّه قد أتانا خبر فظيع: قتل مسلم بن عقيل، وهانئ
ابن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمَن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام. فتفرّق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممَّن انضووا إليه...»[36].

إنّ هذا التعارض البدوي يرتفع من خلال التعرّف على الهدف والغاية الكامنين وراء الإذن المشار إليه الصادر عنه(عليه السلام)، وذلك من خلال القول: بأنّ هذا الإذن بالانصـراف هو بمثابة رفع التوهّم الذي قد يحصل لدى البعض من أنّه(عليه السلام) ذاهب من أجل الاستحواذ على الحكم، وأنّ الأُمور مرتّبة على هذا الأساس، وسوف يحصل مَن معه على العديد من المكاسب والامتيازات، فبعمله(عليه السلام) هذا أثبت للجميع أنّه ليس بصدد استغفال هؤلاء، وإنّما أراد منهم المضـي معه وهم على حقيقة من أمرهم.

وفي الحقيقة هذه الفعل لا يصدر إلّا من القائد الحقّ، الذي هو بصدد أداء تكليفه الشرعي من دون أن يكون له هدف دنيوي من وراء ذلك، وعليه؛ فلا يتنافى هذا الإذن مع طلبه للنصرة، فالإمام الحسين(عليه السلام) يسعى إلى الحصول على أنصار حقيقيين يؤمنون بقضيته، ولا يخذلونه ساعة الوثبة، وهذا بالفعل ما حصل، حيث انصرف الكثير ممّن كانوا معه، ولم يبقَ إلّا ثلّة قليلة من الأفذاذ الذين سطّروا بدمائهم أروع صور التضحية والفداء لإمام زمانهم(عليه السلام).

ومع كلّ البصيرة التي اتّصف بها هؤلاء، إلّا أنّه(عليه السلام) لم يتركهم دون اختبار أخير، وهنا يأتي الحديث عن الإذن العامّ الثاني الذي صدر عنه(عليه السلام) ليلة عاشوراء، حيث إنّه قام في تلك الليلة خطيباً فقال: «اللهمّ إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حلٍّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وتفرّقوا في سواده، فإنّ القوم إنّما يطلبوني، ولو ظفروا بي لذُهِلوا عن طلب غيري»[37].

إنّ إباء هؤلاء الأبطال عن الانصراف، وإصرارهم على البقاء[38]، واستشهادهم بين يديه لهو أدلّ دليل على علوِّ منزلة هؤلاء، هذه المنزلة التي لم يكونوا ليحصلوا عليها من دون هذا الابتلاء والتمحيص الذي كشف عن إرادتهم الصادقة في نصرة دين الحقّ المتمثّل بشخص الإمام الحسين(عليه السلام)، هذه الإرادة التي جعلته(عليه السلام) يتباهى بها أمام أُخته الحوراء زينب(عليها السلام) حينما قالت له: «هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أن يُسلموك عند الوثبة!»[39]، فقال(عليه السلام) لها مطمئناً: «والله، لقد بلوتُهم ، فما وجدت فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أُمّه»[40].

أضف إلى ذلك أنّ هذا التصرّف منه(عليه السلام) يكشف عن قمّة توكّله على الله تعالى، وعدم اعتماده على الأسباب الظاهرية، وهذا أيضاً لا يؤدّي إلى حصول التنافي بين إذنه لأصحابه بالانصراف وبين سعيه الحثيث إلى استقطاب الأنصار والداعمين لنهضته المباركة، فهو(عليه السلام) ماضٍ نحو تحقيق هدفه، سواء بقي معه أنصاره أم لا.

نعم، ستكون فائدة بقائهم بإرادتهم راجعة إليهم أوّلاً وبالذات، وذلك لمشاركتهم في المخطّط الإلهي في تقويض دعائم الضلال في تلك الفترة، وإحياء الدعوة الإسلامية على مرّ الأجيال، تمهيداً لتحقيق دولة العدل الإلهي بقيادة الإمام صاحب العصـر والزمان (عجل الله فرجه الشريف)؛ ومن هنا نجد أنّه(عليه السلام) قد كشف لهؤلاء الأفذاذ منازلهم في الجنّة في تلك الليلة[41]، فيا لها من درجة عظيمة ومنزلة رفيعة لا ينالها إلّا مَن كانت له همّة عالية وزلفى لدى المولى(عز وجل)!

الإصلاح الحسيني: ما هي الوسائل الإعلامية التي وظّفها الإمام الحسين(عليه السلام) في طلبه للنصرة ممّن عاصروا أحداث النهضة الحسينية؟ وهل تمكن(عليه السلام) أن يوصل نداءه إلى مَن ينبغي أن يسمعه في الوقت المناسب؟

(الشيخ الكوراني): من الوسائل الإعلامية التي وظّفها الإمام الحسين(عليه السلام) للتعريف بنهضته المباركة ولطلب النصرة من الآخرين وجذبهم نحو الوقوف إلى جانبه، هي مجموعة الرسائل التي بعثها إلى أهل الكوفة والبصرة، وكذلك اللقاءات الفردية بينه وبين بعض الشخصيات التي التقى بها أثناء مسيره المبارك، من قبيل: لقائه مع عبيد الله بن الحرّ الجحفي، وزهير بن القين البجلي، وعمرو بن قيس المشرقي وابن عمّه، وغيرهم.

ومن الوسائل الإعلامية الأُخرى تركيبة الموكب الذي اصطحبه الإمام الحسين(عليه السلام) معه في حركته المباركة، هذا الموكب الذي تألّف من نساء وأطفال، أضف إلى ذلك طبيعة بعض الشخصيات التي انضمّت إلى الركب الحسيني ومكانتهم، كالصحابي الجليل أنس بن الحارث الأسدي، وشيخ القرّاء برير بن خضير الهمداني، والقائد العسكري الحرّ بن يزيد الرياحي، وأضرابهم، فهذا الطيف المتنوّع الذي شارك مع الإمام الحسين(عليه السلام) في نهضته المباركة يكون بمثابة حثّ واضح وصريح على ضرورة نصرة المولى أبي عبد الله(عليه السلام)، فالنساء والأطفال هم ذرّية رسول الله(صلى الله عليه واله) التي ينبغي أن تُصان ويُدافع عنها من قِبل جميع المسلمين. أمّا انضمام مَن ذكرناهم وغيرهم فهو دليل ـ خصوصاً لـمَن جهل شخصية الإمام الحسين(عليه السلام) وعصمته ومكانته من رسول الله(صلى الله عليه واله) ـ على حقّانية هذه النهضة، والمظلومية العظيمة التي لحقت بها، إذاً؛ فهو(عليه السلام) من خلال هذا التنوّع الإعلامي أوصل نداءه لـمَن ينبغي أن يسمعه بما يستطيع أن يُسمعه.

الإصلاح الحسيني: ما هي مواقف المجتمع الإسلامي الذي عاصر النهضة الحسينية تجاه مسألة النصرة؟ وهل كان المجتمع بمستوى من الوعي الذي يمكِّنه من إدراك مسؤوليته جيّداً، أو أنّ التعتيم الإعلامي والجهل والخوف ونظير ذلك كان هو المسيطر على عقولهم ومواقفهم؟

(الشيخ الكوراني): لم تكن مواقف المجتمع الاسلامي بمستوى إيجابي تجاه النهضة الإصلاحية التي قادها أبو عبد الله(عليه السلام)؛ والسبب في ذلك أنّ مستوى الوعي لدى الغالبية كان متدنّياً جدّاً جرّاء سياسة التعتيم التي قادها الأُمويون، واستشراء حالة الجهل وحبّ الدنيا، وسيطرتهما على نفوس الناس آنذاك، يقول عنهم الإمام الحسن(عليه السلام) ـ وهو يصف حال أخيه الحسين(عليه السلام) ووحدته وغربته يوم عاشوراء ـ: «لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدّعون أنّهم من أُمّة جدّنا محمد(صلى الله عليه واله)، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك، وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك»[42]، فهؤلاء جماعة ضالّة تعبد الهوى والمادّة، يسعون لإرضاء أُمرائهم بأيّ طريقة، حتّى ولو كانت على حساب دينهم ومبادئهم، ومن هؤلاء نجد مثلاً ما يتلفّظ به أحد الملعونين القتلة المشاركين في واقعة الطفّ، حيث يُنشد الشعر أمام أميره، مفتخراً بأنّه هو الذي قتل الإمام الحسين(عليه السلام)، فيقول: [43]

املأ ركابي فضةً أو ذهبا		إنّي قتلت الملك المحجّبا
قتلتُ خير الناس أُمّاً وأبا		ضربته بالسيف حتّى انقلبا(2)

إنّ هذا المنطق في الحقيقة هو منطق الأخسرين الذين لا دين لهم، ولا وجدان لديهم، بسبب كثرة معاصيهم صارت قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة، وأطباعهم أطباع قردة وخنازير.

الإصلاح الحسيني: ما هي أسباب التخلّف عن نصرة الإمام الحسين(عليه السلام) لدى شتّى شرائح المجتمع الإسلامي، وفي مختلف الأمصار الإسلامية؟

(الشيخ الكوراني): إنّ من أسباب تخلّف المجتمع عن نصرته(عليه السلام) هو أنّ قلوب هؤلاء لم تفقه مكانة الإمام الحسين(عليه السلام) في الشريعة الإسلامية، فهم أهل جاهلية ينطبق عليهم قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)[44].

وأمّا إسلامهم الظاهري فلم يعدُ إلّا حالة سطحية، وعادة اعتادوا عليها. إنّ التشهد بالشهادتين وأداء الصلاة لا تُصيِّر الشخص مسلماً حقيقياً ما لم تكن هذه الأُمور عقيدة قلبية يؤمن بها، وتكون له منهجاً حياتياً يسير في ضوئه ويهتدي بهداه، قال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[45]. إذاً؛ فالمجتمع الذي تخاذل عن نصرة ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه واله) وأحد القربى الذين أمر الله بمحبّتهم وتوقيرهم، كما قال تعالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)[46]، لهو في أشدّ درجات الانحطاط.

ومن الشواهد الأُخرى لهذا المعنى ما قاله أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ وهو يصف أحوال المسلمين في تلك الفترة ـ: «ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه [(صلى الله عليه واله)] ذريعة إلى الرياسة، وسلّماً إلى العزّ والإمرة لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدّت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً، ثمّ فتح الله عليها الفتوح، فأثرت بعد الفاقة، وتموّلت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لولا أنّه حقّ لما كان كذا! ثمّ نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها، فتأكّد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنّا نحن ممَّن خمل ذكره، وخبت ناره...»[47].

الإصلاح الحسيني: اعتذر بعضٌ ـ كمالك بن النضر الأرحبي ـ عن عدم النصرة بأنّ عليه ديناً وأنّ له عيالاً، فأذن له الإمام(عليه السلام) بالانصراف، فهل تعدّ مثل هذه الأعذار مبرِّراً لترك نصرة الإمام الحسين(عليه السلام)، أو كان ينبغي التخلّي عنها مهما كانت النتائج؟

(الشيخ الكوراني): إنّ اعتذار بعضهم كمالك بن النضر الأرحبي عن عدم النصرة
بأنّ عليه ديناً وله عيالاً[48]، يمكن أن يدخل ضمن الأعذار المبرِّرة، فإذا ما ألحقنا به إذن الإمام الحسين(عليه السلام) له بالانصراف[49]، فإنّ هذا التصرّف يخرج عن نطاق عدم النصرة والتخاذل، لكن بشرط ابتعاد هذا الشخص وعدم سماعه لواعية الإمام الحسين(عليه السلام) واستنصاره يوم حصول المواجهة، وهذا ما يمكن أن نستفيده ممّا ورد في المحادثة بين الإمام الحسين(عليه السلام) وهرثمة بن أبي مسلم، الذي تذرّع عن عدم نصرته للإمام(عليه السلام) بنفس ما تقدّم، حيث قال(عليه السلام): «فامض حيث لا ترى لنا مقتلاً، ولا تسمع لنا صوتاً، فوالذي نفس الحسين بيده، لا يسمع اليوم واعيتنا أحدٌ فلا يعيننا إلّا كبّه الله لوجهه في جهنم»[50].

لكن هذا الانصراف سوف يحرم هؤلاء من المنزلة العالية والشرف العظيم الذي يحظى به مَن يبقى مع إمامه(عليه السلام) وينصره، ويختم ذلك بالشهادة بين يديه، فمثلهم مثل الصائم الذي أتمّ صيامه إلى الليل، فهل يا تُرى تكون مكانته مساوية لـمَن يسافر في نهار شهر رمضان لمجرّد الهروب من الصوم؟ من المعلوم أنّ ثواب الصائم أكثر ومنزلته أعظم. ومن هذا المنطلق حظي أصحاب الإمام الحسين(عليه السلام) ومناصروه بالمدح والثناء من قبله(عليه السلام)، حيث قال في حقّهم: «اللهمّ إنّك تعلم أنّي لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي، فجزاكم الله خيراً، فقد آزرتم وعاونتم»[51].

الإصلاح الحسيني: كيف تفسِّرون موقف الإمام(عليه السلام) من النصرة المشروطة التي تقدّم بها الضحاك بن عبد الله المشرقي، حيث اشترط على الإمام أن يقاتل ما رأى مقاتلاً، فإذا لم يرَ مقاتلاً فهو في حلٍّ من الانصراف، فلما لم يبق مع الإمام غير أهل بيته ورجلين ذكّر الإمام(عليه السلام) بالشرط فأذن له بالانصراف؟

(الشيخ الكوراني): في إجابتنا عن السؤال السابق اتّضح الموقف من اشتراطات كهذه، ومن إذن الإمام(عليه السلام) لبعض الأشخاص بالانصراف. وما نوّد التطرّق إليه في المقام هو أنّ أمثال هؤلاء يمكن أن نصفهم بسيّئي الحظ والتوفيق، فهم لتقاعسهم وتعلّقهم بهذه الدنيا الفانية قد رضوا بالكون في الدرجة السفلى، وخسروا هذا الشرف والمقام العظيم في الجنّة، قال(عليه السلام) ـ بعد أن أبى الانصراف مَن بقي معه ليلة العاشر من المحرّم ـ: «إِنْ كنتم كذلك، فارفعُوا رُؤوسَكم واُنظروا إلى منازلِكم في الجنّة، فكُشِف لهم الغطاء، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها، والحور العين ينادين: العجل العجل، فإنّا مشتاقات إليكم! فقاموا بأجمعهم وسلّوا سيوفهم»[52].

الإصلاح الحسيني: ممّا يثير الجدل في موضوع نصرة الإمام الحسين(عليه السلام) غياب شخصيات معروفة وتخلّفها عن نصرة الإمام(عليه السلام)، كعبد الله بن عباس، ومحمّد بن الحنفية، وعبد الله بن جعفر، كيف تفسِّرون غياب مثل هذه الشخصيات مع أنّهم أعلم بمنزلة الإمام الحسين(عليه السلام) ومسؤولية المجتمع تجاه نصرته من سائر أفراد المجتمع؟

(الشيخ الكوراني): يمكننا في المقام أن نورد رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) تقطع الطريق أمام هذه التساؤلات، حيث يجيب فيها(عليه السلام) عمّن يسأله عن غياب هؤلاء أو بعضهم عن المشاركة في معركة الطفّ، بأنّ أسماء أصحاب جدّه الحسين(عليه السلام) مكتوبة من الأزل، وهنا نقول: إنّ انحصار المشاركين في يوم عاشوراء بهؤلاء، لا يعني أنّه لا توجد أدوار فاعلة لآخرين في أماكن أُخرى غير كربلاء، خذ على سبيل المثال ميثماً التمّار، فهو من الذين وصلت درجة ولائهم ومحبّتهم إلى مصاف شهداء الطفّ، لكن دوره ومسؤوليته لم يكونا في كربلاء، وإنّما كانا في الكوفة، تقول الرواية: «حجّ في السنة التي قُتل فيها، فدخل على أُمّ سلمة، فقالت: مَن أنت؟ قال: أنا ميثم، قالت: والله، لربّما سمعت رسول الله(صلى الله عليه واله) يوصي بك علياً في جوف الليل. فسألها عن الحسين، قالت: هو في حائط له. قال: أخبريه أنّي قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله. فدعت له بطيب فطيّبت لحيته، وقالت له: أما إنّها ستخضب بدم.فقدم الكوفة، فأخذه عبيد الله بن زياد...»[53].

ونجد أنّ الكشي بعد روايته الحادثة أعلاه ذكر أنّ ميثماً التمّار(رحمه الله) قال: «فخرجنا فإذا ابن عباس (رحمة الله عليهما) جالس، فقلت: يابن عباس، سلني ما شئت من تفسير القرآن، فإنّي قرأت تنزيله على أمير المؤمنين(عليه السلام)، وعلّمني تأويله. فقال: يا جارية، الدواة وقرطاساً. فأقبل يكتب، فقلت: يابن عباس، كيف بك إذا رأيتني مصلوباً تاسع تسعة، أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهرة؟ فقال لي: وتكهّن أيضاً؟! خرق الكتاب، فقلت: مه، احتفظ بما سمعت منّي، فإنّ يك ما أقول لك حقاً أمسكته، وإن يك باطلاً خرّقته. قال: هو ذاك»[54].

طبعاً، على الرغم من أنّ هؤلاء الشخصيات الذين لم يشاركوا كانت لهم أدوارهم الخاصّة التي تصبّ في خدمة القضية الحسينية كما أسلفنا، إلّا أنّه من الواضح أنّه يوجد اختلاف فيما بينهم في المستوى المعرفي، والتسليم الكامل بما يقوله المعصوم(عليه السلام)، وهذا ما نستفيده بشكل واضح من الرواية الثانية على وجه الخصوص.

الإصلاح الحسيني: وأخيراً هل كانت فرصة نصرة الإمام الحسين(عليه السلام) متاحة لـمَن عاصره فقط، أو هي متاحة في جميع الأمكنة والعصور؟ فإذا كانت متاحة لجميع العصور فكيف يمكننا أن ننصر الإمام(عليه السلام) في عصرنا الراهن؟

(الشيخ الكوراني): إنّ فرصة نصرة الامام الحسين(عليه السلام) في جميع العصور متاحة نسبياً، وهذه النصرة ذات مظاهر متعدّدة، فبعض ينصره من خلال فتح مؤسّسات تبليغية من أجل نشر الثقافة الدينية بين الناس، أو مؤسّسات تهتم بحفظ التراث الديني وتنقيحه بشكل عامّ، أو التراث المتعلّق بالنهضة الحسينية على وجه الخصوص، وبعض آخر ينصره من خلال البذل وإقامة المجالس لإحياء الشعائر الحسينية.

ومن المظاهر البارزة للنصرة في هذا المجال هو ما يُبذل في خدمة زوّار أبي
عبد الله(عليه السلام)، وخصوصاً الزيارة الأربعينية التي نالت حضوراً منقطع النظير، أوصل صوت الحقّ الذي صدح به الحسين(عليه السلام) في واقعة الطفّ إلى بقاع شتى من هذه المعمورة.

وبعض ثالث ينصره من خلال التضحية بنفسه دفاعاً عن الدين الذي دافع عنه المولى أبو عبد الله(عليه السلام)، ومن مصاديق هذا البذل التضحيات الكبيرة التي يُقدّمها الشباب المقاوم للمحتلّين والغاصبين والتكفيريين؛ دفاعاً عن الأرض والعرض، وترسيخاً للمبادئ السامية التي نادى بها الرسول(صلى الله عليه واله) وأهل بيته البررة(عليهم السلام)، وضحّوا من أجلها بالغالي والنفيس.

وفي الختام نرجو أن يكون عملنا هذا مقبولاً عند الله(عز وجل)، ومسجّلاً في سجل المناصرين للإمام الحسين(عليه السلام) روحي له الفداء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإصلاح الحسيني: نشكركم (سماحة الشيخ) جزيل الشكر على إتاحتكم هذه الفرصة، على أمل أن تكون لنا معكم لقاءات أُخرى نقدّم فيها خدمة علمية للنهضة الحسينية وقيمها ومبادئها، ونكون فيها مع القارئ الكريم في أهمّ الموضوعات التي تشغل مساحة من الاهتمام في مجال النهضة الحسينية.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

الاختصاص، محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، صحّحه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم المقدّسة.

اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، محمد بن الحسن الطوسي (ت460هـ)، تصحيح وتعليق: المعلم الثالث ميرداماد الإسترآبادي، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم المقدّسة، 1404هـ.

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م.

الأمالي، محمد بن علي بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (ت381هـ)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية في مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي (ت1111هـ)، مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية المصحّحة، 1403هـ/1983م.

بصائر الدرجات، محمد بن الحسن الصفار (ت290)، مؤسّسة الأعلمي، طهران، 1362ش/ 1404هـ.

تاريخ الأُمم والملوك، محمد بن جرير الطبري (ت310هـ)، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلّاء، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان.

ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، محمد بن علي بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (ت381هـ)، منشورات الرضي، قم المقدّسة، الطبعة الثانية، 1368ش.

الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي (ت573هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة الإمام المهدي(عليه السلام)، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1409هـ.

العوالم (الإمام الحسين(عليه السلام))، عبد الله البحراني (ت1130هـ)، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي(عليه السلام) بالحوزة العلمية، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى المحقّقة، 1407هـ/ 1365ش.

كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه (ت368هـ)، تحقيق: الشيخ جواد الفيومي، لجنة التحقيق، مؤسّسة نشر الفقاهة، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

اللهوف في قتلى الطفوف، السيّد علي بن موسى بن طاووس (ت664هـ)، أنوار الهدى، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

مدينة المعاجز، السيّد هاشم البحراني (ت1107هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة المعارف الإسلامية، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1414هـ.

مفاتيح الجنان، عبّاس القمّي (ت1359هـ)، تعريب: السيّد محمد رضا النوري النجفي، منشورات مكتبة العزيزي، قم المقدّسة، الطبعة الثالثة، 1385ش/ 2006م.

مقاتل الطالبيين، أبو الفرج علي بن الحسين الإصفهاني (ت356هـ)، مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم ـ إيران، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف، الطبعة الثانية، 1385هـ/ 1965م.

مقتل الحسين(عليه السلام)، السيّد عبد الرزاق المقرّم (ت1391هـ)، منشورات الشريف الرضي.

مقتل الحسين(عليه السلام)، لوط بن سعيد بن مخنف الأزدي (ت157هـ)، علّق عليه: حسين الغفاري، طبع في المطبعة العلمية.

موسوعة كلمات الإمام الحسين(عليه السلام)، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم(عليه السلام)، انتشارات أُسوة، الطبعة الأُولى، 1425هـ.

الميزان في تفسير القرآن، السيّد محمد حسين الطباطبائي (ت1402هـ)، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم المقدّسة.

[1] محمد: آية7.

[2] اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج18، ص229.

[3] آل عمران: آية155.

[4] الروم: آية 47.

[5] غافر: آية51.

[6] محمّد: آية7.

[7] غافر: آية51.

[8] البقرة: آية30.

[9] غافر: آية51.

[10] محمد: آية7.

[11] القميّ، عباس، مفاتيح الجنان: ص77.

[12] اُنظر: البحراني، هاشم، مدينة المعاجز: ج4، ص382.

[13] اُنظر: الكوراني، علي، جواهر التاريخ: ج3، ص482ـ 483.

[14] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص539.

[15] المصدر السابق: ص217.

[16] المصدر السابق ص737.

[17] الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص87.

[18] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، الباب التاسع:(إنّ الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة(صلوات الله عليهم أجمعين) يأتونه(عليه السلام) لزيارته ويدعون لزوّاره)، ص54ـ 68.

[19] المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، الاختصاص: ص82.

[20] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص157.

[21] وردت هذه المفردة في حديث رواه الصفّار في(بصائر الدرجات) عن الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام)، قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه واله) ذات يوم، وعنده جماعة من أصحابه: اللهمّ لقّني إخواني.مرّتين، فقال مَن حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنّكم أصحابي، وإخواني قوم في آخر الزمان آمنوا ولم يروني، لقد عرّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم، من قبل أن يُخرجهم من أصلاب
آبائهم وأرحـام أُمهاتهم، لأحدهم أشدّ بقية على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا، أُولئك مصابيح الدجى، ينجيهم الله من كلّ فتنة غبراء مظلمة».الصفار، محمد ابن الحسن، بصائر الدرجات: ص104.

[22] الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج1، ص254.

[23] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص58.

[24] البحراني، عبد الله، العوالم(الإمام الحسين(عليه السلام)): ص179.

[25] الحج: آية78.

[26] التوبة: آية12.

[27] النساء: آية76.

[28] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص326.

[29] آل عمران: آية167.

[30] التوبة: آية38ـ 39.

[31] التوبة: آية44ـ 45.

[32] محمد: آية7.

[33] اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص39ـ 40.

[34] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص157.

[35] الطبري، محمد بن جرير، تاريـخ الأُمم والملوك: ج4، ص266.

[36] المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد: ج2، ص75ـ 76.

[37] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص216.

[38] اُنظر: المصدر السابق.

[39] المقرّم، عبد الرزّاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص219.

[40] المصدر السابق.

[41] اُنظر: المصدر السابق: ص215.

[42] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص178.

[43] الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج2، ص580.

[44] المنافقون: آية3.

[45] الحجرات: آية14.

[46] الشورى: آية23.

[47] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج20، ص298ـ 299.

[48] اُنظر: الأزدي، لوط بن يحيى بن مخنف، مقتل الحسين: ص108.

[49] اُنظر: المصدر السابق: ص109.

[50] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص200.

[51] أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص74.

[52] لجنة الحديث في معهد باقر العلوم(عليه السلام)، موسوعة كلمات الإمام الحسين(عليه السلام): ص497.

[53] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج1، ص324.

[54] الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال(رجال الكشي): ج1، ص294.

حوارية: أساليب النصرة في القرآن الكريم - وتجلياتها في النهضة الحسينية