تمهيد

يطرح القرآن الكريم موضوعات دينية مختلفة متعلّقة بالمسلمين؛ لبيان المنهج القويم والصراط المستقيم، الذي ينبغي لهم أن يسلكوا سبيله ويقتدوا بهديه، تاركاً في نفس الوقت مساحة واسعة للفكر الإسلامي؛ للخوض في تفصيلات هذه الموضوعات من جهة، وبيان موضوعاتها الخارجية من جهة أُخرى، فهو مع الاختصار الشديد قد أحكم القواعد الأساسية لتحديد المطالب والأُسس التي يعتمد عليها في بيان شمول المصاديق لما يطرحه من الموضوعات العامة.

وما بين أيدينا بحث أقرب ما يكون إلى البحوث القرآنية في تحديد صدق الشعائر الدينية ـ باعتبارها أحد موضوعات الدين التي ورد ذكرها في آيات عديدة من القرآن الكريم ـ على المراسم الحسينية، التي تُعتبر ممارسات قد يقال: إنّ مذهباً من المذاهب الإسلامية استقل في إحيائها ولو على نحو شرعنة هذه المراسم لاشتراكه مع غيره في ممارستها أحياناً؛ لأنّ هذا الغير قد ينظر إليها من جهة أُخرى ليست دينية أو شرعية.

لكن الشيء الأساس والمهم بطبيعة الحال، هو تحديد صحة صدق الشعائر على هذه المراسم، فتكون ممارسة هذه المراسم ذات أثرٍ شرعي وديني، يترتب عليه الثواب والأجر الأُخروي قبل أن يكون عاطفياً أو إنسانياً. وفي هذا البحث سنتناول بيان مفهوم الشعائر الدينية قرآنياً وقبول صدقها على المراسم الحسينية.

القسم الأول: ماهية الشعائر الدينية

المحور الأول: الشعائر بين الوضع والاستعمال

ورد لفظ الشعائر في القرآن الكريم في موارد متعددة، منها: قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)^{^[1]}.

وهذا اللفظ له دلالة لُغوية وضعية بمعنى أنّ اللفظ له معنى لُغوي حين الوضع، والذي تُبيّنه معاجم اللغة أو لسان أهلها؛ إذ وضعوا للحقيقة اللُّغوية علامات، منها: التبادر، وصحة الحمل، وغير ذلك. ولا يخفى أنّ المفسرين ينظرون في المعنى اللُّغوي لتكوين معنى بدوي للفظ الوارد في النص القرآني، ثمّ يصار إلى البحث عن القرائن الصارفة عن معناه اللُّغوي إلى المعنى الشرعي أو ما يُسمّى بالحقيقة الشرعية، وهو المعنى الذي أراده الشارع باستعمال ذلك اللفظ. فاللفظ تارةً يُفهم بمعناه اللُّغوي وهو الأصل، أو بمعناه الشرعي، فيكون للفظ وضع واستعمال، والشارع المقدّس قد يستعمل هذا اللفظ في معنى هو نفس المعنى اللُّغوي، فيكون الشارع قد جرى مع عرف المحاورة العام ولم ينصب قرينة لإرادة معنى آخر، أو أنّه استعمل اللفظ في معنى مخصوص أراده الشارع ونصب عليه القرينة، والشارع المقدّس له مع ذلك السلطة في الوضع التعييني أو التعيّني.

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ إثبات أنّ اللفظ باقٍ على معناه اللُّغوي يقتضي جواز التمسك بالإطلاق وتحقق موضوعه باعتبار ماهيته اللُّغوية، وإن ثبت عكسه بأنّ اللفظ قد نُقل بلسان الشارع، فإنّ الشارع هو المقيّد لهذا الإطلاق والمخصّص للشمول والاستيعاب.

أمّا لغةً (الدلالة الوضعية)، فأجمع اللُّغويون على أنّ الشعائر هي العلامة، وأنّ شعائر الله هي أعلام متعبداته ومواطن طاعته، قال الزبيدي: «وقال الزجاجُ في شعائرِ الله: يعني بها جَميعَ مُتعبداتهِ التي أشعرها الله، أي: جعلها أعلاماً لنا، وهي: كلّ ما كان من موقفٍ أو مسعى أو ذبحٍ، وإنّما قيل: شَعائر لكلّ علمٍ ممّا تُعبدَ به؛ لأنّ قولهمْ: شعرتُ به: علمته، فلهذا سُمّيت الأعلامُ التي هي مُتعبداتُ الله تعالى: شعائر»^{^[2]}.

وقال الفراهيدي أيضاً: «وشعائر الله: مناسك الحج، أي: علاماته»^{^[3]}.

وهنا لنا مناقشة في أقوال اللُّغويين: إنّ بين المشاعر والشعائر فرقاً، فهما وإن دلّا على المعالم، وهي المتعبدات كما في قول الزجاج الذي نقله الزبيدي وغيره، إلّا أنّ الفارق أنّ المشاعر جمع مشعر والشعائر جمع شعيرة، والمشعر من أوزان اسم المكان الدال على مكان حدوث الفعل، أمّا الشعيرة فهي صفة مشبهة بالفعل، وقول الزجاج الذي نقله الزبيدي وغير واحد ـ التي أشعرها الله ـ تكون مشعورة وليست شعيرة، والمشعور اسم مفعول، بَيدَ أنّ شعيرة إن كانت مؤنث شعير فهي صفة مشبهة، وهي تعمل عمل الفعل كما هو معلوم، أي: أنّ الشعيرة هي الواجدة للإعلام والدلالة، لا أنّها مَعلّمة من قِبل الحق تعالى، فقوله تعالى: (شَعَائِرَ اللَّـهِ)، أي: علامات طاعته وعبادته، لا أنّ الله جعلها أعلاماً لنا كما في قول الزجاج. وبعبارة أُخرى: إنّها هي مَن تقوم بدور الإشعار والإعلام.

والمشاعر مكانية، أمّا الشعائر فهي الفاعلة لفعل الشعور والإعلام، وهي أعم من المكانية؛ ولذا ورد في وصف المزدلفة أو مسجدها بالمشعر؛ لأنّها من أوزان اسم المكان، وهي من مناسك الحج، قال تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ)^{^[4]}.

إلّا أنّ يقال: إنّ النسبة في قوله تعالى: (شَعَائِرَ اللَّـهِ) تُفيد معنى الإشعار من قِبله تعالى، بمعنى أنّ الله تعالى هو مَن أشعرها وجعلها أعلاماً لطاعته، فيصحّ توجيه أهل اللغة، لكن ذلك بفعل الإضافة.

أمّا الجوهري في الصحاح، فيقول: «والشعائِرُ: أعمالُ الحجِّ. وكلُّ ما جُعل عَلَماً لطاعة الله تعالى. قال الأصمعي: الواحدة شَعيرةٌ. قال: وقال بعضهم: شِعارَةٌ. والمَشاعِرُ: مواضع المناسك. والمَشْعَرُ الحرام: أحد المَشاعِرِ»^{^[5]}.

فهذا القول بيّن في التفريق بين الشعائر والمشاعر، ومثله ما ذكره ابن فارس: «ومَشَاعِرُ الحجّ: مواضِع المَناسك، سمِّيت بذلك؛ لأنَّها مَعالم الحجّ. والشعِيرة: واحدة الشَّعائر، وهي أعلامُ الحجّ وأعمالُه»^{^[6]}.

بَيدَ أنّنا لا ننكر دخول المشاعر تحت عنوان الشعائر؛ لكونها تؤدي نفس الغرض وهو الإعلام، لكنّه تارةً يكون الإعلام عن طريق المكان، وتارةً بطرق أُخرى كالفعل والقول؛ ولذا قال أهل اللغة: «والشَعيرَةُ: البَدَنَةُ تُهْدى»^{^[7]}، فليس كلّ شعيرةٍ مشعراً، بمعنى أنّ النسبة بين المشاعر والشعائر عموم وخصوص مطلق.

والشعيرة والمشاعر من الفعل شعر (بالفتح)، أو شعر (بالضم)، وكلاهما يُفيد العلم، ومصدرها شعور وهو الإحساس، ومنه المشاعر وهي الأحاسيس «والمَشاعِرُ: الحواسُّ»^{^[8]}. ومثله ما قاله الزمخشري: «وهو ذكيّ المشاعر وهي الحواس، واستشعرت البقرة: صوتت إلى ولدها تطلب الشعور بحاله. قال الجعدي:

فاستشعرت وأبى أن يستجيب لها فأيقنت أنّه قد مات أو أُكلا»^{^[9]}.

نعم، كون الشعيرة منسوبة إلى الله تعالى: (شَعَائِرَ اللَّـهِ) يُفيد مع ما تقدّم أنّها: كلّ علامة ودلالة عليه سبحانه، فالشعيرة على ما تقدّم لها نحوان من المعاني:

الأول: إنّها علامات أُقيمت وجُعلت من قِبل الحق تعالى للدلالة على طاعته وامتثال أوامره.

الثاني: إنّها أقوال وأفعال وأماكن ذات طبيعة خاصّة، من شأنها أن توجد حالة من الشعور والإحساس بالقرب من الله تعالى.

وهذان المعنيان ملحوظان في نفس الشعائر، فهي مشعورة من قِبل الله تعالى لعباده، وهي في ذات الوقت تؤدي فعل الشعور بالله تعالى والتذكير به بالنسبة إلى مؤديها والداخل في كنفها.

والأول يُفهم منه أنّ القائم بفعل التشعير هو الله تعالى، أي: إنّه تعالى هو مَن أشعرها، وهذا ما يُفهم من قول بعض اللُّغويين. والثاني أنّ نفس هذه الشعيرة هي الفاعلة للشعور في نفس العبد المؤمن، فتكون شعائر الله هي الأفعال والأقوال والأماكن التي تُوجِد في نفس العبد المؤمن حالة الشعور والإحساس، أو التذكير بالله تعالى، وهو ما يُفهم من أنّ الشعيرة صفة مشبّهة بالفعل.

نعم، إنّ القول: بأنّ الشعيرة هي العلامة تعريفٌ بالمرادف؛ لأنّ التفريق بين الشعور والعلم دونه خرط القتاد؛ مما حمل بعضهم على القول: «الشعور هو ابتداء العلم بالشيء من جهة المشاعر، وهي الحواس... وقيل: إنّ الشعور هو إدراك ما دقّ للطف الحس، مأخوذ من الشعر لدقته، ومنه الشاعر»^{^[10]}.

والشاعر وهو من مشتقات الفعل شعر إنّما يُعبّر عن خفايا المخالجات التي تدور في خلده، فيُظهرها للإعلام بها، هذا الإعلام غرضه إشعار الآخرين بهذه المخالجات، وحملهم للإحساس بها والشعور بفحواها الكامن في نفس الشاعر، بمعنى أنّ وراء شعره معانٍ هي مراد الشاعر الذي عبّر عنه بهذه العبارات، فيكون المؤثر علامة حسيّة يمكن أن تُدرك بالحواس، إلّا أنّ أثرها وجداني أو عاطفي، وهو حالة الإحساس والشعور.

فيظهر أنّ الشعائر علامات حسيّة خارجية تشترك في كونها مُعلّمة من قِبل الله تعالى لعباده، وهي بدورها لها أثر وجداني في نفس العبد، وهذا ما يمكن أن نجده واضحاً في قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)^{^[11]}، فتعظيم الشعائر دال على تقوى القلوب، بمعنى أنّ مُعظِّم الشعائر إنّما يُظهر لنا صدق انتمائه وولائه وتمسّكه وتقواه، وهذا بمجموعه مُستقرّه قلب العبد المؤمن المتعلّق بالله تعالى المعبّر عنه بتعظيم شعائره.

أمّا قول اللُّغويين: «أشعرَ البدنةَ: إذا جَعلَ فيها عَلامةً، وهو أن يشُقّ جِلدها أو يطعنها»^{^[12]}، فإنّ العلامة من شأنها أن تحمل الآخرين على الإدراك أو الشعور أنّ هذه البدنة هدي البيت الحرام، فتارةً تكون العلامة هي البدنة؛ لكونها موسومة بشيء، وتارةً لكونها مُعلَّمة تكون منشأ شعور الناظر إليها، وعلمه بأنّها هدي البيت. ولا تعارض بين المعنيين إن قلنا: إنّنا تارةً ننظر إلى الأصل، وتارة إلى الأثر، وإنّ الشعور هو إدراك وعلم متعلّق بما وراء الشيء كعلامات المرور، فهي علامة ودلالة، لكن الغاية منها والهدف هو الإدراك والعلم بقانون المرور الذي تقتضيه.

ونجد في عبارات اللُّغويين كالفراهيدي: «والشّعيرة من شعائر الحجّ، وهو أعمال الحجّ من السعي والطواف والذبائح، كلّ ذلك شعائر الحجّ»^{^[13]}،أنّ الشعائر هي أعمال الحجّ مضافاً إلى المعنى اللُّغوي وهو العلامة، إلّا أنّ هذا إن صحّ، فإنّه إمّا أن يكون من باب ذكر المصداق، وهو ما نجده جلياً في آيات القرآن الكريم التي ستأتينا، وإمّا أنّهم أفادوا ذلك من تفسيرات بعض المتقدّمين كابن عباس، ومجاهد، وهو ما نجده في عبارات اللُّغويين مراراً عند ورود لفظ قرآني معيّن، إلّا أنّ هذا دور واضح لا يمكن أن نستند إليه، بل هو من اختصاص المفسرين، ومناقشة ذلك يُترك إلى محله، إلّا أن يقال: إنّنا نفهم من عبارته أنّ نسبة الشعيرة أو الشعائر إلى الحج يجعلها مخصوصة بأعماله ومناسكه، وهو وجه وجيه.

المحور الثاني: مفهوم الشعائر الدينية

المفهوم هو: الوجود الذهني لشيء له ما بإزائه في الخارج، أي: المعنى المرتكز بالذهن لشيء، أو مجموعة أشياء خارجية. وتارةً هذا المفهوم ينطبق على متشخّص خارجي واحد فيكون جزئياً، وتارةً على كثيرين فيكون كلياً. والمفهوم الكلي ليس بالضرورة أن تكون كلّ أفراده موجودة ومتحققة، بل يكفي افتراضها؛ لأنّ الفرد (المصداق) إذا اتصف بحقيقة المفهوم الكلي ـ وهي التي نُعبر عنها بالماهية ـ صحّ إطلاق الكلي عليه نظير الإنسانية، فكلّ فرد (إنسان) يولد (جديد) يصحّ أن يُطلق عليه لفظ إنسان؛ لأنّه يحمل حقيقة الإنسانية.

والشعائرية من المفاهيم باعتبار أن لها وجوداً ذهنياً له أفراد بالخارج كالصفا والمروة والبدن، بحسب النص الصريح للقرآن الكريم، وهذا الوجود الذهني موصوف بالكلية لقابليته الانطباق على كثيرين، إلّا أنّ الكثيرين لا يعني ضرورة تشخصهم ووجودهم فعلاً في الخارج، بل يكفي افتراضهم، كما هو الحال في المولود الجديد، فهو قبل ولادته مصداق مفترض لمفهوم الإنسانية الكلي.

فالشعائرية من جهة المفهوم هي معقول ماهوي؛ لأنّها صورة للأشياء في الذهن، ومن جهة أُخرى فإنّ تعدد مصاديق هذا المفهوم بحسب النصوص الشرعية دالّ على كلّيته، وهذه الكلية تنطبق على الأفراد أو المصاديق الموجودين والمفترضين على حدٍّ سواء، فعند تحقق حقيقة الشعائرية في المصداق يصحّ إطلاق هذا اللفظ عليه، شأنها شأن مفهوم الإنسانية ومصاديقها.

وحقيقة الشعائرية هي معناها اللُّغوي الذي ذكرناه، وقد ثبت عدم نقل اللفظ إلى معنى شرعي، غاية الأمر أنّ الإضافة التي ذُكرت في النصوص الشرعية تُفيد التعريف وليس التخصيص، والبيان وليس الحصر، فكلّ مصداق يصحّ أن يكون شعيرة إلهية، أي: أن يكون علامة ودلالة على الله، ووسيلة لإحياء دينه، أو أن يُوجِد تلك الحالة الوجدانية من الإحساس والتذكير بالله} يصحّ أن يُطلق عليه هذا اللفظ، فيكون شعيرة من شعائر الله.

وبعبارة أُخرى أُصولية: فإنّه بعد ثبوت العموم، فالحكم إنّما ينصب على الماهية، أمّا الآثار فتتحقق بالخارج؛ لذلك فإنّ الماهية متى ما تحققت تنجَّز الحكم ووجدت الآثار. ضرورة أنّ القرآن الكريم في كلّ موارده إنّما يلحظ الموضوع، ثمّ تأتي السنّة لبيان المصداق، أو أنّ العرف هو الفيصل في تحديد المصاديق والموضوع الخارجي، كما في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ . . . )^{^[14]}، فالقوة التي انصبّ عليها مضمون قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم) وهو الحكم، إنّما هي صرف الطبيعة، ولم يُحدد الشارع المقدّس أو يُقيّد هذا الطبيعي، بل إنّ العرف هو الحاكم في تحديد الموضوعات الخارجية أو المصاديق، فالقوة في زمن الصدر الأول للإسلام تختلف عن العصر الحاضر، فوسائل الحروب ـ مثلاً ـ تختلف أيضاً، وهذا كلّه لا يمنع من شمول الآية لمصاديق القوّة في زمن النبي سلام الله عليها، أو في زمننا هذا أو المستقبل، وهذا ما تسالم عليه المسلمون بمختلف طوائفهم ومذاهبهم.

ومثله يجري في الشعائر، فمتى ما تحققت الماهية أو الحقيقة الكلية للشعائر المستفادة من معناها اللُّغوي، في أيّ شيء يمكن أن يكون مصداقاً للمفهوم وفرداً من أفراد العام، يجري عليه ما يجري على المصاديق الأُخرى من إرادة الشارع، كالتعظيم الوارد في قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).

ومن جهة أُخرى، فإنّ دخول الأفراد تحت حكم العام قد يكون نسبياً، بمعنى أنّ العام تارةً من صنف النوع، فيستوعب أفراده الموجودين في الخارج، وتارةً هناك عدّة أنواع تقع تحت الجنس، فالحيوان ـ مثلاً ـ جنس وهو عام تقع تحته أفراده، وهي من صنف النوع كالطير والإنسان، فالطير نوع يشمل كلّ ما يصحّ أن يُطلق عليه لفظ طير كالنسر والغراب، والإنسان نوع يقع تحت عنوانه زيد وعمرو وهكذا. فالطير والإنسان يشتركان في الحقيقة الحيوانية ويفترقان بالفصل، وهو أنّ الإنسان حيوان ناطق حسب تعبير المناطقة، فزيد حيوان باعتبار الجنس وناطق باعتبار النوع.

والشعائرية كذلك إن أخذنا بنظر الاعتبار صريح القرآن الكريم في بيان فردين من أفراد الشعائر، وهما: الصفا والمروة، والبدن، فالفارق بين الصفا والمروة من جهة والبدن من جهة أُخرى واضح، فهما مختلفان من حيث السنخية، ومن حيث الحكم المتعلّق بهما، فالأولان جبلان معلومان، والثاني حيوان من نوع خاصّ معلوم، وهي الإبل السمينة (البدينة) كما سيأتينا، أمّا من حيث الحكم المتعلّق بهما ففي الأوّلين (الصفا والمروة ) وجوب الطواف، وفي الثاني (البدن) هو الهدي، وهذا بمنزلة النوع والفصل، أمّا من حيث الشعائرية فهما مشتركان؛ لأنّهما يحملان نفس الحقيقة والماهية للشعائر بدليل القرآن الكريم لكونهما (من شَعَائِرَ اللَّـهِ) وهو الجنس، فكلّ ما من شأنه أن يدخل تحت عنوان الشعائر، فإنّما هو من أفراد الجنس وإن اختلف عن باقي الأنواع من حيث الفصل؛ لأنّ الفصل هو المميّز للنوع وليس للجنس، فإذا صدق عليه عنوان الشعائرية كان فرداً من أفراد العام ومصداقاً من مصاديق المفهوم.

وهذه الأُصول العلمية الفلسفية أو المنطقية، تُعتبر قواعد عامّة يُصار إليها في مقام إثبات العموم أو التخصيص والإجمال أو التبيين؛ لأنّ الأصل كما قيل: هو العموم أو الإطلاق إلّا أن يرد دليل خاصّ على إرادة التخصيص أو التقييد، بمعنى أنّ أيّ موضوعٍ شرعي ورد بنحو العموم، فهو مستوعب وشامل لجميع أفراده، ما لم يُخصّص أو يُقيّد بدليل أو قرينة واضحة، وهذه الأُصول متّفق عليها بين الأُصوليين أو المفسرين على حدٍّ سواء. والعام هو نفس الماهية اللُّغوية أو المعنى اللُّغوي للفظ الوارد في لسان الشارع، بعد ثبوت أنّ الشارع جرى مع العرف في استعماله لهذا اللفظ في معناه. أمّا من ناحية اللُّغويين فقد تبيّن، وأمّا أقوال المفسرين وغيرهم فسيأتي بيانها.

وبعبارة أُخرى: إنّ إطلاق الشعائر على أيّ ممارسةٍ يُحتمل دخولها تحت هذا العنوان باعتبارٍ ما، فهو من باب إطلاق الجنس، وقد يُطلق على هذه الممارسة عنوان آخر هو من صنف الأنواع، فلا مشاحة في الاصطلاح بعد ما بيّناه من أنّ الكليات تنقسم إلى جنس ونوع وغير ذلك كما هو مقرّر في علم المنطق.

المحور الثالث: الشعائرية وموضوع الدين

للعلماء في مقولة الدين تعريفات كثيرة، إلّا أنّنا نكتفي في المقام ببيان ذلك عن طريق التقسيم والتعريف بالقسمة من التعاريف المنطقية السليمة، فتقسيم الدين إلى أُصول وفروع كافٍ في بيان معنى الدين، فالأُصول هي: التوحيد، والنبوّة، والمعاد (وهو باتفاق علماء المسلمين)، واختلفوا في العدل والإمامة. أمّا فروعه، فهي: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ، إلى غير ذلك من الفروع المعلومة بعد غضّ الطرف عن الاختلافات فيها كونها واقعة في التفصيلات. وللعلماء في تعريف الشعائر وصلتها بالدين أقوال:

منها: ما نقله القرطبي: «وقال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كله»^{^[15]}.

أمّا الأول المنسوب لعطاء، فيُفهم منه أنها فروع الدين خاصّة، وهذا المعنى يتعارض مع قوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ)، وقوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ)^{^[16]}، فالمجعول ليس هو الطواف الواجب في الحجّ أو الهدي
ـ وهما من فروع الدين ومناسك الحجّ ـ وإنّما صرف الصفا والمروة أو البدن كما ترى من صريح الآيات، أمّا حمل الآية على غير معناها الظاهر فهو من التأويل.

نعم، قد يقال: بأنّ البدن حال كونها هدياً تكون من الشعائر كما قال الإصفهاني: «(وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ) هو جمع البدنة التي تُهدى»^{^[17]}، إلّا أنّ هذا إن صحّ هنا فإنّه لا يصحّ في الصفا والمروة وحتى المشعر الحرام، فالشعائرية ثابتة لهما من غير منسكيهما (الطواف والصلاة)، وإلّا كان مخالفاً لصريح القرآن، في حين أنّ تصوّر ذلك في البدن ممكن، فسلب الشعائرية عن البدن التي لم يتعلّق بها الهدي ضرورة عقلية، وهو قيدٌ أضافه الراغب في قوله الذي تقدّم: (التي تُهدى) للاحتراز عن غيرها.

وأمّا قول الحسن البصري من أنّ (الشعائر دين الله كلّه)، فيرد عليه ما ورد على القول الأول؛ لأنّ الصفا والمروة ليستا من أُصول الدين أو فروعه، غاية الأمر أنّ هناك أوامر متعلّقة بهما، نعم يمكن القول: إنّ قوله: دين الله كلّه، أراد به تحقق معنى الشعائرية في أُصول الدين وفروعه، بمعنى أنّ كلّ أصلٍ أو فرعٍ إنّما هو بحدّ ذاته علامة ودلالة على الله والتذكير به، عندها يصحّ هذا القول بعد حمل الشعائر على معناها اللُّغوي، وهو العلامة والدلالة على الله وعلى دينه، وقولنا: إنّ للدين علامة، ليس معناه أنّ العلامة شيء والدين شيء آخر، فالصلاة علامة على الدين وهي منه، والحجّ علامة على الدين وهو منه، وقس على ذلك.

فإن قيل: إنّ المجعول في القرآن هو الصفا والمروة وليس الطواف.

قلنا: إنّ مفهوم الدين يمكن أن يشمل الصفا والمروة أيضاً، والبدن التي تعلّق بها الهدي، فتدخل تحت عنوان الدين كدخول الكعبة والمسجد النبوي وغير ذلك من الأماكن في مفهوم الدين، وهو واضح، والقول: إنّ الدين يقتصر على الأُصول والفروع لا يعني عدم دخول متعلّقاتها، كالكعبة بالنسبة للحج، والزيارة بالنسبة لقبر النبي سلام الله عليها وغير ذلك، وهو مرتكز في ذهن المتشرّعة ولا خلاف فيه.

في حين أنّ بعض المفسرين خصّصها بمواطن الطاعة، كالشيخ الطوسي بقوله: «الشعائر المعالم للأعمال، فشعائر الله: معالم الله التي جعلها مواطن للعبادة... فشعائر الله: أعلام متعبّداته»^{^[18]}. فهو قد أجاد الجمع بين معنى الشعيرتين (الصفا والمروة والبدن) الوارد ذكرهما في القرآن الكريم؛ إذ نفهم من قوله (مواطن العبادة) أنّ الصفا والمروة موطن الطواف، والبدن موطن الهدي، فهما معلمان للأعمال العبادية التي هي الطواف والهدي، بمعنى أنّ الشيخ قدس سره يرى أنّ الشعائر هي غير الدين (الأُصول والفروع)، بل هي متعلّقة به على نحو الإعلام والإظهار المرتبط بشيءٍ ما مكاني، أو غيره كالبدن في الهدي على ما يظهر من عبارته. وقلنا في المعنى اللُّغوي للشعائر: إنّ المواطن هي المشاعر، وهي أخصّ من الشعائر، فالشعائر هي: كلّ أمرٍ فيه علامة ودلالة على طاعة الله تعالى وإحياء دينه، سواء كان مكاناً، أم فعلاً، أم قولاً، غاية الأمر أنّه يُحقق موضوع الشعائر وماهيتها اللُّغوية.

ومنها: قول الرازي الذي أطلق في العبارة بناءً على معناها اللُّغوي بقوله: «وأمّا (شَعَائِرِ اللَّـهِ) فهي أعلام طاعته، وكلّ شيء جُعِل علماً من أعلام طاعة الله، فهو من شعائر الله، قال الله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ)، أي: علامة للقربة»^{^[19]}. فالطاعة المتعلّقة بالشعيرة تختلف باختلاف الشعيرة، ولكنّها ـ حسب تعبيره ـ تشترك في كونها علامة للقربة والطاعة لله تعالى، وهو بذلك يترك التمييز بين الدين والشعائر، بل يظهر من قوله: إنّ كلّ ما من شأنه أن يكون من علامات القرب لله تعالى وعلامة على طاعته، فهو يُعدّ من الشعائر، وهو قد يكون من الدين؛ باعتبار الجنبة الإعلامية أو خارجاً عنه بعد حصر الدين بالأُصول والفروع.

فإن قيل: إنّ البدن ليس فيها علامة على القربة، بل الهدي المتعلّق بها، وكذلك الصفا والمروة، فالمتعلّق بها، وهو الطواف، هو علامة القربة والطاعة وليس نفس الصفا والمروة والبدن.

قلنا: إنّ هذه الشعائر لو لوحظت مستقلة عن الأحكام المتعلّقة بها لصحّ هذا القول، إلّا أنّنا يمكن أن نقول: إنّ الصفا والمروة باعتبار الطواف والبدن باعتبار الهدي، هي التي تكون شعائر الله، وبهذا التقريب يصحّ ما ذهب إليه الرازي في تفسيره على أنّ كلّ شيء جُعِل علماً من أعلام الطاعة والقربة لله تعالى يكون شعيرة من شعائر الله تعالى.

وربما قيل: بأنّ الشعائر تؤدّي غرضها في الفروع دون الأُصول، وأقوال العلماء إنّما تُريد هذا الجانب دون غيره، ولا مدخلية للأُصول في البين؛ لأنّها محض مفاهيم لا يترتب عليها موقف عملي باستثناء ما كان من مدخولات الفروع.

قلنا: إنّ هناك جهتين للردّ على هذه الشبهة:

الأُولى: إنّ هذه المقولة منشؤها تعريف الدين على أنّه الإيمان والعمل الصالح أو أنّه الأُصول والفروع، فهو وإن صحّ على هذا المعنى إلّا أنّه بطبيعة الحال فيه نحو من الإجمال؛ لأنّ الإيمان يقتضي وجود الموضوع، أي: موضوع الإيمان وهو الله تعالى والأنبياء والملائكة والكتب السماوية، فالدين ليس الإيمان وحسب، بل هو الإيمان المتعلّق بالله تعالى وأنبيائه عليهم السلام، فالنبي سلام الله عليها من الدين باعتبار نبوّته وما تعلّق بها من الإيمان من جهة الأُصول أو الامتثال لأوامره من جهة الفروع.

الثانية: إنّ النبوّة وإن كانت أصلاً من أُصول الدين والإيمان بها كذلك، إلّا أنّ ذلك لا يعني خروج نفس النبي سلام الله عليها عن دائرة الدين، بعد ملاحظة أنّ للأُصول ناحية نظرية أو مفهومية، وناحية موضوعية خارجية، وهما لا ينفكان إلّا اعتباراً، فالإيمان بالنبوّة تعني الإيمان بها مفهوماً وموضوعاً، والإيمان بالإمامة كذلك من الناحيتين (الذهنية والخارجية).

أمّا الشعائر، فبعد أن علمنا أنّها علامات الدين، ونعني بالدين أُصوله وفروعه على النحو الذي بيّناه، فكلّ ما يرتبط بأُصول الدين وفروعه ويكون علامة عليه فهو من شعائر الدين، وهي شعائر الله تعالى، وهذا لا يتنافى والمعنى اللُّغوي للشعيرة؛ لأنّ النبي سلام الله عليها أو الإمام عليه السلام هما مَعلمان من معالم طاعة الله تعالى، قال عزّ من قائل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا)^{^[20]}.

بل يمكن القول: إنّ الأنبياء عليهم السلام أنفسهم هم من شعائر الله تعالى، باعتبار حالة الوجدان والشعور بالله تعالى، وكونهم مَعلماً من معالم التذكير بالله تعالى، ولعلّ هذا المعنى يجري بالمثل على الأئمّة عليهم السلام والأولياء الصالحين؛ لأنّهم أعلام دين الله تعالى من خلال تضحياتهم في سبيل إعلاء كلمة الله وإحياء دينه، فالأنبياء والأئمّة عليهم السلام والأولياء بما يحملون من رمزية دينية وعلامة حقيقية على الدين من خلال تضحياتهم ودورهم في نشر تعاليم السماء، فإنّ إحياء ذكراهم والصدع بآثارهم إنّما يؤدي نفس الغرض، ويحقق ذات الموضوع الذي أشرنا إليه في تعريف الشعائر وبيان ماهيتها، يقول الشيخ مكارم الشيرازي: «صحيح أنّ قراءة تاريخ حياة عظماء التاريخ يدفع الإنسان إلى الاقتداء بهم، لكن هناك طريقاً أكثر تأثيراً، وهو مشاهدة المعالم الأثرية التي كافح عليها هؤلاء الرجال، وسجّلوا فيها بطولاتهم. هذه المعالم هي في الواقع ليست مثل كتب التاريخ الميتّة، بل هي تاريخ حيّ ناطق، يستطيع أن يُحلّق بالإنسان عبر القرون والأعصار؛ ليجعله يعيش مع الحوادث الماضية بكل مشاعره. الأثر التربوي لهذه المشاهدات أعمق بكثير من تأثير الكتب والمحاضرات وأمثالها... فهنا الشعور لا الإدراك، والتصديق لا التصور، والعينية لا الذهنية»^{^[21]}.

القسم الثاني: الشعائرية في القرآن الكريم

المحور الأول: الشعائر وأدلتها القرآنية

ورد ذكر الشعائر في القرآن الكريم في عدّة موارد، وهي:

1ـ ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)^{^[22]}.

2ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)^{^[23]}.

3ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖإِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)^{^[24]}.

4ـ (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ )^{^[25]}.

5ـ (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖفَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)^{^[26]}.

ذكر القرآن الكريم الشعائر في هذه الموارد مبيّناً في الأُولى والأخيرة أحد مصاديقها، وفي الثانية وردت بصيغة اسم المكان، وفي الثالثة والرابعة بنحو العموم، وللمفسرين في بيان مدلول هذه الآيات أقوال متعددة، نذكر منها ما ذكره الطبري: «فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ ) يعني: أنّ الطوافَ بهما، فترك ذكر (الطواف بهما)، اكتفاء بذكرهما عنه»^{^[27]}.

ومثله ما نقله الآلوسي: «والشعائر ـ جمع شعيرة، أو شعارة ـ وهي العلامة، والمراد بهما أعلام المتعبّدات أو العبادات الحجية. وقيل: المعنى أنّ الطواف بين هذين الجبلين من علامات دين الله تعالى، أو أنّهما من المواضع التي يُقام فيها دينه، أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما»^{^[28]}.

أمّا قول الطبري، فيرد عليه ما ذكرناه سابقاً من أنّه قول مخالف لصريح القرآن، فالآية المتقدمة نصٌّ في أنّ الصفا والمروة هي من شعائر الله، وليس الطواف بهما، وإنّما الطواف متعلّق بهاتين الشعيرتين، وتأويل الآية ـ أي: حملها على غير ظاهرها ـ يتمّ فيما لو تعارض مع ضرورة أُخرى، وهو ما لا ملزم له. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى أنّ الصفا والمروة ـ وليس الطواف بهما ـ هو الشعيرة على أنّه مِشْعَرًٌ، أي: اسم مكان؛ أُسوة بالآية التي ذكرت المشعر الحرام، وقد تقدّمت النسبة بين الشعائر والمشاعر، وجاءت تسميتهما من شعائر الله للمناسبة، وهي ما ورد من حرج المسلمين للطواف بهما مع وجود صنمي قريش (يساف ونائلة)، حيث ورد هذا السبب بنصوص العامّة والخاصّة، فكانت المناسبة هي الداعي لذكرهما بالأعمّ (الشعائر) وأنّ المشاعر إنّما هي محالّ مناسك الحج، وهي داخلة تحت عنوان الشعائرية لكونها جنس لها.

إضافة إلى ذلك القول: بأنّ الصفا والمروة تتشابه مع المزدلفة وتتماثل بالسنخية؛ لكونهما من المكان، أمّا البدن فتختلف، فحكم المزدلفة يجري على الصفا والمروة، لكن حكم البدن ليس كذلك؛ لتغاير الموضوع. فإذا حملنا قول الإصفهاني ـ إنّ البدن هي الشعيرة حال تعلّق الهدي بها ـ على الصحّة هناك، فللخصوصية في البدن دون الصفا والمروة، وآية المشعر الحرام تمنع من شمول الصفا والمروة لنفس تفسير آية البدن.

فيكون الأصل في ذلك كلّه هو علامة الطاعة ودلالتها، وهي حقيقة الشعائر ومعناها. بمعنى آخر: أنّ الشعيرة هي متعلّق الطاعة والامتثال، لا الامتثال نفسه، وهما الصفا والمروة في الطواف، والهدي في البدن، وأنت خبير بأنّ البدن يُطلق عليها هدياً تسمية بالصفة، وهو صحيح إلّا أنّ ذلك لم يُسمَع من كلام العرب أو المسلمين في الصفا والمروة، فهل سمعنا يوماً جواز تسمية الصفا والمروة طوافاً؟! بل يُطلق ويراد به صرف العبادة، بعكس الهدي فقد يُطلق ويراد به الاثنين، وهما: الطاعة المعلومة في مناسك الحج، ونفس البدن كذلك.

وأمّا الآلوسي، فنقل القول الذي شابه قول الطبري على نحو التضعيف بين الأقوال الأُخرى، على أنّ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ . . . ) ظاهر بالمغايرة بين الهدي والشعائر؛ إذ العطف يقتضي المغايرة كما هو معلوم، فإن قيل: إنّ هذا العطف من باب عطف الخاص على العام وهو شبيه لما ذكره الزركشي:«وقوله تعالى: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ . . . )^{^[29]}، فإنّ عداوة الله راجعة إلى عداوة حزبه، فيكون جبريل كالمذكور أربع مرات، فإنّه اندرج تحت عموم ملائكته، وتحت عموم رسله، ثمّ عموم حزبه، ثمّ خصوصه بالتنصيص عليه»^{^[30]}.

قلنا: إنّ الإجابة عن ذلك بنحوين:

الأول: إنّ عطف الخاص على العام يصحّ لو لم يُذكَر معه أفراد آخرون مغايرون له في العام، في حين أنّ الشهر الحرام كان معطوفاً وهو غير داخل في الشعائر، وأمّا القول بشعائريته فيحتاج إلى دليل، فتكون قرينة السياق مانعة لهذا الاحتمال.

الثاني: لو تنزلنا عن الرد الأول، فإنّه يمكن أن نحتمل ورود لفظ الهدي، والمراد به البدن، من باب تسمية الشيء بصفته، وقد تقدّم، فالبدن حال كونه موصوفاً أنّه هديٌ يكون شعيرة، وإلّا فمع عدم هذا الوصف لا تكون كذلك.

والقول: إنّ الصفا والمروة هي الشعائر، وإنّ البدن التي تعلّقت بها عبادة الهدي هي الشعائر، يُفهم منه تمييز الصفا والمروة عن البدن، بمعنى أنّ من الشعائر ما هو ثابت ومنها ما هو متغيّر (مشروط)، فالبدن التي يتعلّق بها الهدي تكون شعيرة، في حين أنّ الصفا والمروة من الشعائر وإن لم يتعلّق بهما الطواف كما هو الحال في المشعر الحرام، وهو نظير الواجب التعييني والتخييري، فالأول هو المتعيّن على المكلّف نفسه، وهو الثابت الذي لا بدل له في مقام الامتثال. وأمّا التخييري فهو ما يختاره المكلّف من البدائل ويتحقق به الوجوب، فيكون كلّ فرد من أفراده متنجزاً بشرط عدم الإتيان بفرد آخر، ويسقط هذا الوجوب بانتفاء شرطه عند الإتيان بفرد ما، وهذا ما يجري في البدن، فمتى ما تحقق الهدي على بهيمة ما تحققت الشعائرية على تلك البهيمة فعلاً دون غيرها، أمّا في الصفا والمروة فإنّ الطواف وعدمه لا يغيّر في شعائريتها.

وورد أيضاً أنّ الشعائر هي مناسك الحج خاصّة، وهو ما نقله الثعلبي عن ابن عباس ومجاهد:«فأنزل الله} (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ). ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج»^{^[31]}.

فيمكن الرد عليه من عدّة جهات:

الأُولى: إنّ قول ابن عباس فضلاً عن مجاهد يُعدّ من الموقوف، بمعنى أنّه لم يروَ عن النبي سلام الله عليها، فهو اجتهاد في فهم النص وليس بحجة على ما تم تحقيقه في الموقوف، وهو الذي ورد عن الصحابة دون رفعه إلى النبي سلام الله عليها.

الثانية: ورد في مسند أحمد: «عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، مُرْ أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية؛ فإنّها من شعائر الحج»^{^[32]}.

فقوله سلام الله عليها من شعائر الحج لبيان النوع وليس الجنس، وقد تقدّم أنّ النوع يقع تحت عنوان الجنس، إلّا أنّه يفارق باقي الأنواع المنضوية تحت الجنس بالفصل، فإضافة الشعائر إلى الحج لبيان النوع، وكانت التلبية أحد مصاديق هذا النوع، وهو من مرويات العامّة المرفوعة إلى النبي سلام الله عليها، فهو أثبت في الحجية مما نُقل عن ابن عباس.

فإن قيل: إنّ قرينة السياق مخصّصة لمعنى الشعائر.

قلنا: إنّ الإجابة عن هذا التوهم ناشئ من كون التعظيم منحصراً فيما ورد عن ابن عباس: «ويُسنّ استسمان الأُضحية واستحسانها؛ لقول الله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). قال ابن عباس: تعظيمها: اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِعْظَامُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا»^{^[33]}، بَيدَ أنّ هذا الأمر لا يجري في الصفا والمروة، بمعنى أنّ التعظيم بهذا المعنى لا يمكن قبوله في الصفا والمروة وهما من شعائر الله بنص القرآن.

فإن قيل: إنّ السياق مخصّص للشعائر في موردها هذا، والآية التي تلي آية التعظيم هي قوله تعالى: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)^{^[34]}.

قلنا: إنّ الآية التي سبقت آية التعظيم هي قوله تعالى: (حُنَفَاءَ لِلَّـهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)^{^[35]}، وهي ظاهرة أنّ التعظيم هو نفي حالة الشرك ومظاهره التي كانت عليها قريش في الجاهلية، وجعل الدين خالصاً لله تعالى، وتطهير القلوب من الرياء والسمعة، وغير ذلك من مظاهر الشرك الجلي أو الخفي، واستشعار حالة العبودية لله تعالى؛ ويؤيد ذلك أيضاً ـ آخر آية التعظيم ـ قوله تعالى: (فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) .

أمّا آية المنافع محلّ البحث، فهي استئناف لقوله تعالى: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ)^{^[36]}، فيكون متعلّق آية المنافع هو الأنعام وليس الشعائر، وإن كانت الأنعام من الشعائر عند هديها وإيصالها إلى البيت، فالسياق لا يخصّص المورد، بل ولا يبيّن حكم الخاصّ (الأنعام)، وإنّما يبيّن حكم العام منه، فآية التعظيم ظاهرة بالإطلاق الشمولي، والسياق لا يخصّص هذا الإطلاق.

كذلك يرد على قول ابن عباس أنّ التعظيم إذا كان هو الاستسمان والاستعظام، فإنّ ذلك لا يجري على البدن؛ لأنّها لغةً: السمين من الإبل أو البقر على بعض الأقوال، فتعظيمها حكم بلا موضوع؛ لأنّها ـ أصلاً ـ عظيمة وسمينة، فأنّى لنا تعظيم العظيم؟! فيظهر أنّ اعتماد هذا المعنى للتعظيم وتطبيقه في آية (البدن) سيكون بدون نتيجة.

المحور الثاني: الشعائر بين التخصيص والتوقيف

من الإشكاليات الأُخرى التي ربّما ترد في هذا الباب: أنّ مبنى الشعائر على التوقيف، وليس لنا أن نُدخل تحت هذا العنوان أيّ ممارسةٍ، باستثناء ما ورد ذكره في القرآن الكريم، فهي مخصّصة بالدليل القرآني، وبناءً على المعنى اللُّغوي للشعائر من أنّها معالم وأشياء أعلمها الله تعالى وأشعرها لعباده؛ لتكون محلّ طاعته وامتثال تعاليمه المتعلّقة بها، فهي بذلك نظير ما ذهب إليه بعض العامّة على أنّ مبنى الأسماء الإلهية على التوقيف، بمعنى عدم صحة إطلاق غير ما ورد من الأسماء الإلهية في القرآن الكريم على الله تعالى، فتكون الشعائر عموماً مخصّصة بمناسك الحج والعمرة، ومنها: الصفا والمروة والبدن.

وكذلك بضميمة كون الهدي في البدن، والطواف في الصفا والمروة من العبادات، ومبنى العبادات على التوقيف، فلا محيص من عدم إدخال أيّ شكلٍ من أشكال الممارسات تحت عنوان الشعائر، وإنّما هو من الإحداث والبدعة، وهو على ما تعلم حكمه في الإسلام، فهي خاصّة بمناسك الحج والعمرة. أمّا الصفا والمروة والبدن ففيها نصّ صريح. وأمّا سائر المناسك في الحج، فظاهرة من السياق، وقد تقدّم.

ومنشأ هذه الشبهة هو معنى التعظيم الوارد في تفسيرات المتقدّمين المستفاد من السياق، وهو على ما علمت من هوانه نضيفُ إلى ذلك النقاط الآتية:

الأُولى: إنّ التعظيم لغةً هو التبجيل والتفخيم، قال الزبيدي: «عَظَّمَه تَعْظِيماً وأَعْظَمَهُ إِذا فَخَّمَهُ وكَبَّرَهُ وبَجَّلَه»^{^[37]}، والتبجيل أو التفخيم المتعلّق بشعائر الله تعالى ناشئ من قداستها كما في قوله تعالى: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)^{^[38]}، فخلْعُ النعلين معلولٌ لقداسة المحلّ، وهو ظاهر بالتبجيل والتفخيم، فيكون معنى التعظيم اختيار السمين والحسن منها، وهذا الاختيار الذي يلائم قدسية وعظمة الشعائر عند الله تعالى؛ لكونها علامة وإشارة على دينه وتعاليمه، التي لا بدّ أن تظهر بما يلائم عظمتها، وهو نفسه في الصفا والمروة، والمقدّس هو: الشيء الطاهر، والتقديس هو: التطهير لغةً، حيث قال ابن فارس: «وَمِنْ ذَلِكَ الْأَرْضُ المقَدَّسَةُ هِيَ: المطَهَّرَةُ. وَتُسَمَّى الجنَّةُ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، أَي: الطُّهْرِ»^{^[39]}. فالتعظيم هو: تطهير وتقديس شعائر الله تعالى من الشرك، وهذا التطهير الذي يجب أن يكون نابعاً من قلب العبد المؤمن؛ لأنّه محلّ نظر الله تعالى، وهذا المعنى ينسجم تماماً مع آية التعظيم، التي بيّنت أنّ التعظيم من تقوى القلوب، قال تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)،وهو نفس المعنى الذي ذكرناه سابقاً من أنّ السياق يصرف معنى التعظيم إلى تطهير الشعائر من مظاهر الشرك.

الثانية: إنّ هذا القول يعتمد على مقدّماته، فإنّ صحّت صحّت نتيجتها، وإن لم تصحّ فالنتيجة كذلك، فالكلام في المقدّمات، والقول: إنّ الصفا والمروة أو البدن من العبادات بناءً على أنّ العبرة بالطواف والهدي إنّما هو خلاف ظاهر الآيات، فإنّ الشعائر ظاهراً إنّما هي الصفا والمروة والبدن، وإنّ الطاعات أو الأحكام إنّما هي متعلّقة بها، فالتقريب السابق يكون في حالة النظر إليهما كوحدة واحدة لا على نحو الاستقلال، وإلّا فإنّ الأصل بحسب الظهور العرفي أنّ الصفا والمروة والبدن هما الشعيرتان، وهو ما عليه جمع من المفسرين، فضلاً عن مطابقته للمعنى اللُّغوي بالقول: إنّ الشعائر هي العلامات المقامة من قِبل الحقّ سبحانه، والتي تؤدّي دور الإعلام والإشعار إلى دين الله تعالى.

أمّا شمول الشعائر لسائر مناسك الحج والعمرة بقرينة السياق، فهو لا يمنع من شمول غيره بعد القول: إنّ الشعائر باقية على معناها اللُّغوي، وأنّ جميع ما ذُكر بنحو بيان بعض أفراد العام، ولم يُخصّص هذا العام بدليل خاصّ.

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ ذكر الصفا والمروة والبدن ومناسك الحج إنّما يكون لبيان بعض أفراد العام، وليس لتخصيصه كما توهّم ذلك، فـ«إنّ من أنواع البيان المذكورة فيه [القرآن] أن يذكر لفظ عام، ثمّ يُصرّح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، كقوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ) مع تصريحه بأنّ البدن داخلة في هذا العموم بقوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ)»^{^[40]}.

الثالثة: مرّ بنا أنّ الأحكام إنّما تنصبّ على ماهية الشيء وحقيقته؛ وبالتالي فإنّ كلّ فرد يحمل هذه الماهية أو جزءاً منها صحّ دخوله تحت حكم العام، فالملاحظ هنا هو نفس الموضوع، ومن جهة أُخرى يلحظ الحكم، فإنّ جريان نفس الحكم إلى موضوع آخر فيه دلالة على أنّ هذا الموضوع (الخارجي) له نفس الماهية والحقيقة، وكما قيل: حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)^{^[41]}،فالآية تأمر في اتخاذ مقام إبراهيم عليه السلام مُصلّى، بمعنى أنّها تأمر في أن يكون مقامه عليه السلام مَعلماً من معالم عبادة الله تعالى ومتعبَّداً من متعبّداته وطاعته، فتساوي الحكم بينه وبين غيره، وانطباق المعنى اللُّغوي دال على شعائريته وإن لم تُصرّح الآية بذلك، ومثله قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)^{^[42]}.

فالأمر الإلهي بأن تُجعل بيوت موسى وأخيه عليها السلام قبلةً فيه دلالة على أنّها مَعلم من معالم الطاعة وأعلام متعبّداته تعالى، فاشتراك المصداقين أو المصاديق بنفس الحكم المعلول لماهية الشيء دالٌّ على اشتراكها في نفس الماهية أو جزء منها، والحكم إنّما يلحظ تلك الماهية أو ذلك الجزء في مرحلة الجعل.

وهذه الآيات تبيّن أنّ القول بتوقيفية الشعائر على المعنى الذي يُفهم في أسماء الله تعالى أو العبادات ليس صحيحاً؛ لأنّها ظاهرة بتشعير هذه المعالم من قِبل الحقّ تعالى، بمعنى أنّ الله سبحانه جعلها علامات ومواطن طاعته وعبادته، كما هو الحال في الصفا والمروة والبدن.

ونحن نفهم التوقيف في الشعائر على أنّها منسوبة إلى الله تعالى، فلا يمكن أن ننسب شيئاً إلى الله تعالى لم ينسبه إلى نفسه، بل هذا هو سبب التعظيم، وهو أنّ الشعائر منسوبة إلى الله تعالى (شَعَائِرَ اللَّـهِ)، فكلّ أمر ليس فيه نسبة إلى الله تعالى لا يمكن أن يدخل تحت عنوان الشعائرية التي ندب الشارع إلى تعظيمها؛ ولذا قلنا: إنّ الشعائر منها ما يتعلّق بالأُصول ومنها ما يتعلّق بالفروع، وكلاهما من دين الله تعالى، أي: إنّها منسوبة إلى الله تعالى، فالأنبياء عليهم السلام وبيوتهم منسوبة إلى الله تعالى؛ لأنّها مواطن ذكره وتسبيحه، وقد أذن في رفعها وتعظيمها وتقديسها، قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ )^{^[43]}، حيث ورد «عن أنس بن مالك، وبريدة قال: قرأ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ . . . ) إلخ، فقام إليه (عليه الصلاة والسلام) رجل، فقال: أيّ بيوتٍ هذه يا رسول الله؟ فقال (صلّى الله عليه وسلّم): بيوت الأنبياء عليهم السلام. فقام إليه أبو بكر (رضي الله تعالى عنه) فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة (رضي الله تعالى عنهما) قال: نعم، من أفاضلها»^{^[44]}.

وأقرب من ذلك ما نجده في قول أمير المؤمنين عليه السلام: «نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب، لا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها، فمَن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً»^{^[45]}، كناية على أنّهم عليهم السلام الأقرب إلى رسول الله سلام الله عليها دون سواهم، والشعار هم الخاصّة والبطانة، وهذا يُبيّن منزلة أهل البيت إلى رسول الله سلام الله عليها، والذي يكون بمعنى العلامة والدلالة من جهة، وهم عليهم السلام يمثلون وجود النبي سلام الله عليها، فالناظر إليهم يشعر بنظره إلى رسول الله سلام الله عليها، والقريب منهم إنّما هو قريب من رسول الله سلام الله عليها؛ وبالتالي يستشعر حالة القرب من الله تعالى؛ ولذا قال رسول الله سلام الله عليها: «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط»^{^[46]}.

القسم الثالث

المحور الأول: الإمام الحسين عليه السلام وأُصول الدين

بيّنا سابقاً بشيء من الإجمال أنّ الدين هو أُصول وفروع وإيمان وعمل، والأُصول محلّ خلاف بين المسلمين، فمنهم مَن قال بالتوحيد والنبوّة والمعاد، ومنهم مَن أضاف العدل إليها، ومنهم ـ وهو مذهب الإمامية ـ مَن أضاف الإمامة، ونحن لا نريد أن نسبر غور هذا الخلاف، غاية الأمر أن نبدأ بالقدر المتيقّن عند عامّة المسلمين، وما يعنينا في المقام هو النبوّة، فسواء قلنا: إنّ الإمامة أصل أصيل، أم أنّها متفرّعة عن أصل النبوّة، فإنّ الإيمان بأصل النبوّة يكفي في مقام إثبات ما نريد؛ إذ إنّ الإيمان بالنبوّة تعني الإيمان بالنبي سلام الله عليها، وبأنّه ما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى، وهو ما وصفه به تعالى في محكم كتابه، وهذا الوصف مطلق وليس خاصّاً بالرسالة أو القرآن، بل كلّ قول وفعل وتقرير للنبي سلام الله عليها حجة بناءً على الإيمان بإطلاق هذا القول، وهو ما يتفق عليه علماء المسلمين بمختلف مشاربهم وطوائفهم، ونحن إذ نتكلّم بالعمومات نستغني عن الدليل؛ لأنّه سيكون توضيحاً للواضح.

ثمّ إنّ النبوّة تفرّع عنها كتاب الله تعالى، بمعنى أنّ النبوّة هي الأصل، وهذا ما أكّده علماء الكلام من أنّ القرآن لا يمكن أن يكون دليلاً على نبوة الخاتم سلام الله عليها؛ لأنّه يلزم الدور؛ إذ تتوقف النبوّة على القرآن والقرآن يتوقف على صدق النبوّة، وقد استدلوا على أصلها بالأدلة العقلية، ومنها: قاعدة اللطف، ومن النبوّة تفرّع الإيمان بالقرآن على أنّه من الله تعالى على ما فيه من أدلة تُبيّن إعجازه، وأنّه لا يكون إلّا من حكيم مقتدر، ومن النبوّة تفرّعت العترة كما ورد:«عن عطية عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي، الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، أَلا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»^{^[47]}.

فالقول: إنّ الإمامة متفرّعة عن النبوّة، يمكن أن يُفهم منه أنّ الإمامة لا تثبت إلّا بالنبوّة، بمعنى أنّ النبي سلام الله عليها هو الذي يُنصّب الإمام ويُسمّيه، وهذا معنى الوقف الذي فهمناه سابقاً، وهو الأهم؛ لأنّ القول بالوقف في أُصول الدين أهم منه في فروعه، كيف وأنّ الأصل هو الأساس الذي يتفرّع منه باقي أُمور الدين، فإنّ صحّ صحّ ما بعده والعكس صحيح.

فيكون وجود القرآن والعترة إنّما هو وجود للنبي سلام الله عليها، وهو معنى قوله سلام الله عليها: «قد تركت فيكم ... الثقلين»، وهما متفرّعان عن أصل النبوّة ولا يفترقان، فما ورد عنهما فهو عن النبي سلام الله عليها، وما عن النبي سلام الله عليها عن الله تعالى؛ إذ لا ينطق عن الهوى كما هو معلوم، فسواء قلنا: إن الإمامة أصل من أُصول الدين، أو إنّها متفرّعة عن أصل النبوّة، فكلاهما متساويان في ترتّب الأثر الشرعي على ذلك؛ لأنّ مخالفتها أمّا مخالفة أصل الإمامة عند القول بأُصوليتها، أو أصل النبوّة عند القول بتفرّعها عنها، والإيمان بالنبوّة يعني التصديق بها مطلقاً؛ حيث قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)^{^[48]}.

وحيث ورد عن رسول الله سلام الله عليها في الحسن والحسين عليها السلام:«هما سيّدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما»،وكذلك قوله سلام الله عليها: «الحسن والحسين إماما حقٍّ، قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما»^{^[49]}.

والقدر المتيقّن من الإمامة هي القيادة الدينية، وهي لا تحصل إلّا بالجعل الإلهي المبلّغ عن الله تعالى، إمّا بالوحي فقد قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا . . .)^{^[50]}، أو عن طريق أنبيائه عليهم السلام كما تقدّم في إمامة الحسن والحسين عليها السلام بنصّ الرسول سلام الله عليها.

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى أنّ هناك ناحية عملية للأُصول، وقد مرّ بيان هذه الجهة، فالناحية العملية تعني تحقق الموضوع الخارجي للأُصول، فلا معنى أن يكون هناك إيمان بالنبوّة دون الإيمان بنبوّة الخاتم سلام الله عليها؛ لكونها تُمثّل الموضوع الخارجي للنبوّة والمصداق الصحيح لها، كذلك في الإمامة على الفرضين السابقين، فإنّها تستلزم الإيمان بالإمام الموجود في زمانه، وعجيب أمر هذه الأُمة التي تخلّت عن قول رسول الله سلام الله عليها: «مَن مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»^{^[51]}،فبدل أن تسعى إلى معرفة إمام زمانها المجعول من قِبل الحقّ تعالى، سعت هي إلى أن تختار بنفسها إمام زمانٍ لها براً أو فاجراً.

وهذا ما أشرنا إليه من التأكيد على أُصول الدين من جهتها العملية أيضاً، وليس النظرية وحسب، ولعلّ ما تمرّ به الأُمّة الإسلامية من ضياع القيم الدينية والأخلاقية والفوضى العارمة إنّما حصلت لتخلّيها عن هذه الناحية، وهذا ما صدعت به الزهراء سلام الله عليها تحذر الأُمّة وولاتها من مغبّة التخلّي عن هذا الأصل بقولها سلام الله عليها:
«... وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامة»^{^[52]}.

فثبوت الإمامة للإمام الحسين عليه السلام، كونها من أُصول الدين أو متفرّعة عن النبوّة، يجعلها موضوعاً للشعائر الدينية، وأنّ كلّ ما تعلّق بها إنّما هو من الشعائر؛ لأنّها (إمامة الحسين عليه السلام) موقوفة من الله تعالى على لسان نبيه سلام الله عليها، وكلّ فعل من شأنه أن يُحيي ذكر الإمام الحسين عليه السلام حيّاً كان أو ميتاً، إنّما هو إحياء لدين الله وإحياء لأُصوله المتقدّمة في الأهمية على الفروع، بل كلّ ما يتعلّق به عليه السلام من بيت أو قبر أو فعل أو قول، فإنّ إحياءه بطريقةٍ ما إنّما هو فعل متعلّق بأصل من أُصول الدين، والإمام أو النبي عليها السلام إنّما جُعلت محالُّ بيوتهم ومواطن قبورهم إعلاماً لدين الله وإحياء ذكره.

نعم، قد يقال: إنّ الأعمال المتعلّقة بالحسين عليه السلام وإحياء ذكره مبناها على التوقيف، قلنا: إنّ ثبوت دينية كلّ عمل وفعل ومَعلم متعلّق بالإمام الحسين عليه السلام إنّما هو من شعائر الله تعالى؛ لأنّها تختصّ بأصل من أُصول الدين أو متفرّعة عنه، وتوقيف هذه الممارسات موضوع آخر يُترك لمحله.

المحور الثاني: المراسم الحسينية تفريعٌ للأصل وتحققٌ للموضوع

ذكر الأُصوليون أنّ الأحكام إنّما تنصبّ على المواضيع، والموضوع هو الماهية، وهي تتحقق بأيّ فردٍ من أفرادها، فإذا تحققت تنجّز الحكم ووجُدت آثاره في الخارج، وإن اختلفت هذه الأفراد في بعض لوازمها؛ لأنّ تحقق الموضوع أو الماهية إنّما يكون بتحقق الجامع المشترك بين الأفراد، وهذا الجامع المشترك يمثّل ماهية الموضوع، نظير الكلمة، فإنّه وإن قيل: إنّها ما كان من حرفين أو أكثر، فإنّ الواضع إنّما وضع الكلمة للجامع المشترك بين أفراد الكلمة المتكوّنة من حرفين فأكثر، على أنّ الحرفين يختلفان من فرد لآخر باختلاف حروف اللغة، فتكون الشعائر متحققة بتحقق ماهيتها في أفرادها وإن اختلفت في بعض أجزائها، فبالنسبة للقرآن الكريم فإنّ الجامع المشترك بين الصفا والمروة من جهة، وبين البدن من جهة أُخرى، هو ماهية الموضوع الذي أمر الله تعالى بتعظيمه في قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وقد مرّ أنّ الجامع المشترك أو الماهية بين أفراد جنس الشعائر إنّما هو معناها اللُّغوي المتحقق في الصفا والمروة وفي البدن بتصريح القرآن الكريم على حدٍّ سواء، وغرض المولى إنّما يكون بتحقق هذا المعنى وهو الإعلام والتذكير بالله تعالى وبدينه الحنيف، أمّا المراسم الحسينية فهي متعلّقة بأصل مهم من أُصول الدين وهو الإمامة، فالإمام الحسين عليه السلام باعتباره يمثّل أصلاً دينيّاً عمليّاً، فإنّ كلّ ما يرتبط به ويؤدي غرض المولى سبحانه وتعالى من الشعائر، فإنّه يكون بذلك قد حقّق موضوع الشعائرية أو ماهيتها في الخارج، فالشعائر بمختلف صورها وتعدد أفرادها إنّما تتعدد وتتفرّع تبعاً للمناسبة ومتعلّقها، فالشعائر المتعلّقة بالحج لها صور مختلفة كالطواف بين الصفا والمروة، وهدي البدن، والتلبية على ما ورد عن رسول الله سلام الله عليها، وهي بالتالي متعلّقة بفرع من فروع الدين وهو الحج، أمّا المراسم الحسينية، فهي شعائر متعلّقة بأصل من أُصول الدين، وهو الإمام الحسين عليه السلام، وإحياء ذكرى الفاجعة الأليمة التي حدثت له ولأهل بيته عليهم السلام وأصحابه.

وبعبارة أُخرى: إنّ الشعائر تتفرّع إلى أشكال وصور مختلفة بحسب متعلّقها، والمراسم الحسينية إنّما تُحقق ذات الموضوع والماهية الشعائرية، وهي تلتقي مع مناسك الحج في الجامع المشترك بينها، وهو الإعلام والدلالة على دين الله تعالى، وإحياء تعاليمه وأُصوله من جهة، ومن جهة أُخرى فهي تخلق تلك الحالة الوجدانية في نفوس المؤمنين من الشعور والتذكير بالله تعالى، والذي يكون مدعاة إلى التمسك بدينه وتعاليمه لنيل سعادة الدارين من جهة، وتحمل المسؤولية أمام الله ورسوله والمؤمنين في الدعوة إلى الدين والالتزام بتعاليمه ومبادئه من جهة أُخرى، وهذا من أهم ما انتجته فاجعة الطفّ الأليمة، التي كان لإحيائها الدور البارز في توجه الكثير ممَّن لهم جذور دينية في الرجوع إلى الدين والتمسك به وترك الخوض مع السلطات الحاكمة الظالمة، التي اتخذت من الدين شعاراً مزيّفاً لتحقيق مطامعها، يقول السيّد محمد سعيد الحكيم حول النتائج الدينية لملحمة كربلاء: «الشعور بتدهور المجتمع الإسلامي وابتعاده عن الدين، وتقصيره في أمره بنحو يستوجب تأنيب الضمير على ذلك، خصوصاً بعد أن ركّز أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشيعتهم على عِظم الجريمة، واهتموا بإحيائها والتذكير بها بإقامة المآتم وزيارة قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ورثائه وما يجري مجرى ذلك؛ حيث يكون رد الفعل المناسب لذلك من كثير ممَّن لهم جذور دينية، هو ترك السلطة ومَن يتنازع عليها جانباً، والرجوع للدين والتعرّف عليه والتمسّك به»^{^[53]}.

وربما يصل المرء إلى أن يكون بنفسه شعاراً لدين الله تعالى، بمعنى أن يكون علماً هادياً مهدياً لطريق الحقّ، كما ورد عن طريق العترة الطاهرة في تأويل قوله تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)^{^[54]}، روى الشيخ الكليني: «عن معلى بن محمد، عن الوشاء قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، قال: نحن العلامات، والنجم رسول الله سلام الله عليها»^{^[55]}. هذا كلّه من جهة تحقّق نفس الموضوع والماهية اللُّغوية في الشعائر.

ومن جهة أُخرى، فإنّ الاستدلال على الموضوع تارةً بما ورد صراحةً أو ضمناً في لسان الدليل، وتارةً يكون بمرادفه الذي يشترك معه ويجانسه في الماهية، فآية التعظيم دالة على قداسة الشعائر وعظمتها، والله تعالى أمرنا بتعظيمها، أي: إظهار هذه العظمة، كما في قولك: الله أكبر، فالله تعالى كبير وهذا القول إنّما لإظهار هذا المعنى ونشره، كذلك في التعظيم، فيكون المعنى إظهار هذه القدسية للشعائر؛ لكونها مرتبطة بالله تعالى، ودليل ارتباطها إضافتها إليه سبحانه، وكلّ مقدّس إنّما كان لارتباطه بالله تعالى ويجب تعظيمه كما في آية الوادي المقدّس الذي كان محلّ كلام الله تعالى مع موسى عليه السلام، والقدسية هي الطهارة كما تقدّم لُغوياً ـ بمعناها العام وليس الفقهي ـ فكلّ ما هو طاهر فهو مقدّس ويجب تعظيمه، فقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)^{^[56]}، دليل على قدسية أهل البيت عليهم السلام وبركتهم وارتباطهم بالله تعالى؛ فلذا وجب تعظيمهم، فيكون هذا التعظيم متفرّع عن الأصل وهو تعظيم الشعائر، بعد فرض أنّ سبب التعظيم إنّما هو قدسيتها ونسبتها إلى الله تعالى كما هو حال الوادي المقدّس، بمعنى أنّ الملحوظ في الشعائر هو كلّ ما كان مقدّساً ومرتبطاً بالله تعالى ومَعلماً من معالم دينه الحنيف، وبناءً على هذه المعاني ينصبّ حكم التعظيم ويتفرّع من هذا الأصل أهل البيت عليهم السلام؛ لثبوت طهارتهم بالنص القرآني، وكونهم علامة على دين الله الحنيف ومواطن عبادته كما ورد: «عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله سلام الله عليها: النظر إلى وجه علي عبادة»^{^[57]}، وهو يجري على الإمام الحسين عليه السلام للاشتراك مع أبيه في آية التطهير، فإذا كان أمير المؤمنين عليه السلام موطن طاعة الله تعالى بمجرد النظر، فما بالك بإحياء أمره وسيرته وأقواله وغير ذلك من المراسم المعروفة، والأمر نفسه كذلك بالنسبة إلى الإمام الحسين عليه السلام.

المحور الثالث: الشعائرية والمراسم، انطباق المفهوم على المصداق

إنّ الحكم على المراسم الحسينية أنّها من الشعائر أشبه بالقضية الحملية، بمعنى إثبات شيء لشيء أو نفيه عنه، على أنّ المراسم هي الموضوع والشعائر هي المحمول؛ لأنّ المحمول شرطه أن يكون عرضاً، أي: إنّه صفة عارضة على الشيء، وهو ما ثبت في علم الصرف أنّ الشعيرة صفة مشبهة بالفعل ولا بدّ للصفة من موصوف. وبين الموضوع والمحمول إمّا الاتحاد بالماهية وهو الحمل الأولي، أو الاتحاد بالمصداق وهو الشايع الصناعي، أمّا الأولي ـ وهو الاتحاد بالمفهوم ـ فالواقع الخارجي والشاهد الوجداني كفيل ببيان معنى المراسم الحسينية، وهي أنّها ممارسات الغاية منها إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام؛ وبالتالي إحياء أمر الدين؛ لأنّهم تركة رسول الله سلام الله عليها إلى هذه الأُمّة مع كتاب الله}، وكلّ أمر مرتبط بهم عليهم السلام إنّما هو من أجل إحياء الدين، فهذه الممارسات ليس الغاية منها تعظيم شخوصهم وذواتهم وحسب، بل بما تحمله هذه الهياكل الإلهية من روح وإيمان عميق بالله تعالى، ودورهم في تحمّل أعباء مسؤولية الدين الحنيف بعد وفاة رسول الله سلام الله عليها، هذا الدور الذي جاءنا بجعل إلهي مبلّغ عن طريق نبيّه المصطفى سلام الله عليها، بل يُضاف إليه إحياء دين الله تعالى ونشر مبادئه وقيمه.

أمّا من الناحية الخارجية، فإنّ هذه الممارسات وإن اختلفت وتباينت وتنوعت، إلّا أنّها تلتقي بذلك الجامع، نظير شعائر الحج وما بيّناه من الفرق الواضح بينها، إلّا أنّها تشترك في نفس الماهية والموضوع، فضلاً عن القول: إنّ هناك بيانات قرآنية ظاهرة بأن تكون بيوت الأنبياء عليهم السلام ومقاماتهم مواطن لتعبّد الناس، وهي بذلك تشترك من هذه الجهة، كذلك إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام وبيان فضائلهم، ودورهم الرسالي في الحفاظ على الدين وبيان تعاليمه الحقّة، فإنّ هذه المصاديق تشترك مع غيرها بنفس الموضوع، وإن اختلفت صورها وتعدّدت حيثياتها.

أمّا من جهة توحيد هذه العناوين الفرعية تحت عنوان الشعائر، وجواز إطلاقه على المراسم الحسينية، فنقول: إنّ الكليات مقسّمة إلى: ذاتي، وعرضي. والذاتي إلى: فصل، ونوع، وجنس. والجنس إلى: جنس قريب، وبعيد. بمعنى أنّ الشعائر إذا لوحظت جنساً بعيداً فإنّ المراسم الحسينية هي جنس قريب، وإن لوحظت الشعائر جنس قريب فإنّ المراسم نوع قد يكون لها فصل يميّزها عن باقي الأنواع المشتركة معها بالجنس كمناسك الحج، فالمراسم الحسينية إنّما هي شعائر من جهة النوع، بمعنى أنّها نوع تندرج تحت الجنس، وهو (الشعائر) الذي تشترك به مع مناسك الحج.

وبعبارة أُخرى: إنّ الجنس هو أن تكون أفراده متكثّرة في الحقيقة والعدد، والنوع هو أن تكون أفراده متّفقة في الحقيقة ومتكثّرة بالعدد، فعلى هذا نفهم أنّ القول بشعائرية المراسم الحسينية وإن قيل: إنّها تختلف في الحقيقة عن مناسك الحج مثلاً، إلّا أنّ هذا القول مدفوع بأنّ الشعائر إنّما هي من صنف الجنس الذي تقع تحته الأنواع، وهي تشترك (الأنواع) بنفس حقيقة الجنس، مضافاً إليها الفصل الذي يفصل النوع عن باقي الأنواع الأُخرى، والنوع كما أنّ له أفراداً كثيرة إلّا أنّ نفس أفراده إنّما هي أفراد الجنس.

فكلّ ممارسة دينية من شأنها أن تُحقق الغرض الإلهي وتُحيي دين الله بأُصوله وفروعه، وتكون ممارسة إعلامية داعية إلى الله تعالى وإلى دينه، ومَعلماً من معالم الطاعة والإيمان والعمل الصالح الذي يُعتبر جوهر الدين، وهي في ذات الوقت تُحيي قلوب المؤمنين بذكر الله تعالى، والتوكّل عليه والإحساس بالقرب المعنوي، يصحّ أن يُطلق عليها عنوان الشعائرية من جهة انطباق المفهوم على المصداق، وهو على ما تقدّم صحيح في انطباقه على المراسم الحسينية.

الخاتمة

ممّا تقدّم ننتهي إلى نتيجة مفادها: أنّ الشعائر وردت في لسان الشارع بنفس المعنى العرفي اللُّغوي، ولم يستعملها في حقيقة شرعية؛ وبناءً على هذا القول صحّ التمسّك بالإطلاق واستيعاب الشعائر كلّ فردٍ يتحقق فيه موضوع الشعائر وماهيتها. وأمّا ما ذهب إليه المفسرون، فهو مع أنّهم فسّروا معنى الشعائر بالمعنى اللُّغوي إلّا أنّهم خصّصوها في مناسك الحج، والحقّ أنّ هذا التخصيص لا يصمد أمام دراسة النصوص بمجموعها، وبيان أنّ ما ورد من ذكره في الآيات إنّما هو من باب ذكر بعض أفراد العام، واللطيف في المقام أنّ الفردين المذكورين في القرآن يمكن لكلّ باحثٍ أن يصل منهما إلى الجامع المشترك الذي لحظه الشارع وصبّ الحكم عليه في آية تعظيم الشعائر، ومن جهة أُخرى فإنّ هذا التعميم أدخل في مضمونه كلّ ما تعلّق بالدين بنحو تحقق موضوع الشعائرية من أُصول الدين وفروعه، والمسلم يعلم أهمية الأُصول على الفروع من ناحية نشر الدين وإحياء تعاليمه، والذي انطبق على المراسم الحسينية كونها متعلّقة بأصل من أُصول الدين وهو الإمامة، أو ما تفرّع عن أصل النبوّة لتضافر الأخبار على إمامته وشموله في آية التطهير، والذي يُعتبر (الطهارة والقدسية) سبباً في حكم التعظيم على الشعائر، كما في آية الوادي المقدّس الواضحة الدلالة على هذا المعنى، وحديث رسول الله سلام الله عليها حول النظر إلى وجه علي عليه السلام، فضلاً عن القواعد العلمية (الفلسفية والمنطقية ) التي كانت من الأُسس التي اعتمدناها، مضافاً إلى بيان مضامين الآيات القرآنية التي ذكرت صراحة بعض أفراد عموم الشعائر، والتي كانت مؤكّدة بمجموعها على صحّة حمل الشعائرية على المراسم الحسينية، وكون الأخيرة إحدى مصاديقها.

[1] الحج: آية32.

[2][2] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج12، ص191.

[3] الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين: ج1، ص251.

[4] البقرة: آية19.

[5] الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصحاح: ج2، ص698.

[6] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ج3، ص194.

[7] الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصحاح: ج2، ص698.

[8] المصدر السابق: ص699.

[9] الزمخشري، محمود بن عمر، أساس البلاغة: ج1، ص510.

[10] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان: ج1، ص397.

[11] الحج: آية32.

[12] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج12، ص190.

[13] الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين: ج1، ص251.

[14] الأنفال: آية60.

[15] القرطبي، محمد بن أحمد، تفسير القرطبي: ج6، ص37.

[16] الحج: آية36.

[17] الراغب الإصفهاني، الحسين بن محمد، مفردات غريب القرآن: ص40.

[18] الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن: ج2، ص41.

[19] الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير: ج4، ص135.

[20] النساء: آية61.

[21] الشيرازي، ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج1، ص452.

[22] البقرة: آية 158.

[23] البقرة: آية 198.

[24] المائدة: آية2.

[25] الحج: آية32.

[26] الحج: آية36.

[27] الطبري، محمد بن جرير، تفسير الطبري: ج3، ص230 ـ 231.

[28] الآلوسي، محمود بن عبد الله، روح المعاني: ج1، ص424.

[29] البقرة: آية98.

[30] الزركشي، محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن: ج2، ص466.

[31] الثعلبي، أحمد، الكشف والبيان: ج4، ص8.

[32] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج5، ص192.

[33] ابن قدامة، عبد الله، المغني: ج11، ص98.

[34] الحج: آية33.

[35] الحج: آية31.

[36] الحج: آية30.

[37] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج33، ص110.

[38] طه: آية12.

[39] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ج5، ص63.

[40] الشنقيطي، محمد الأمين، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: ج3، ص203.

[41] البقرة: آية125.

[42] يونس: آية87.

[43] النور: آية36.

[44] الآلوسي، محمود، روح المعاني: ج9، ص367.

[45] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج26، ص266.

[46] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص172.

[47] المصدر السابق: ج3، ص59.

[48] الحشر: آية7.

[49] القاضي، محمد بن منصور، دعائم الإسلام: ص37.

[50] البقرة: آية124.

[51] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص96.

[52] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج29، ص223.

[53] الحكيم، محمد سعيد، فاجعة الطف: ص390.

[54] النحل: آية16.

[55] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص207.

[56] الأحزاب: آية 33.

[57] الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير: ج10، ص77.

الشعائر الدينية والمراسم الحسينية دراسة لُغوية قرآنية في الانطباق المفهومي