استثمرت مجلّة الإصلاح الحسيني فرصة الحوار مع سماحة آية الله الشيخ مسلم الداوري^{^[1]} (حفظه الله)؛ وذلك إيماناً منها بضرورة عرض النتاج الفكري للمحققين والباحثين المتخصّصين، مع مراعاة أُصول البحث العلمي والحوار الهادئ الرصين؛ للوصول إلى الحقيقة بكلّ حرفية وعقلانية، فكان لنا مع سماحته هذا الحوار:

: ابتداءً نشكركم سماحة الشيخ على إتاحة هذه الفرصة، ونأمل أن تكون مفتاحاً لفرص أُخرى ومشاركات قادمة إن شاء الله.

نبدأ معكم سماحة الشيخ بالسؤال الأوّل: ماذا يُراد من مصطلح الشعائر في النصوص الدينية؟

(الشيخ الداوري): بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أنا أيضاً بدوري أقدّم لكم جزيل الشكر على هذا الاهتمام المتواصل بالعلماء، ونسأل الله تبارك وتعالى لكم التوفيق والسداد.

في البدء لا بأس ببيان مختصر لمعنى الشعائر في اللغة، ثمّ ملاحظة موارد استعمالها في الكتاب والسنّة.

فعند الرجوع إلى أهل اللغة نرى أنّ الشعائر: جمع شَعِيرَة، وهي من شَعَرَ يَشعَرُ شِعراً وشعوراً. ويقال: استشعر الشّيء: أحسّ به، واسْتشْعرَ الثوبَ: لبِسَه شعاراً.

والشِّعار: ما استشعرت به من اللباس تحت الثياب، سمّي به؛ لأنّه يلي الجسد، دون ما سواه من اللباس.

والشِّعار: ما يُنادي به القوم في الحرب؛ ليعرف بعضهم بعضاً، وأشعر فلان قلبي همّاً، أي: ألبسه بالهمّ حتى جعله شعاراً للقلب.

فالشعائر: كلّ علامة توجب الحسّ والمعرفة بشيء ما^{^[2]}. وهذا هو الموافق لما يُفهم ويُستعمل عرفاً.

وشعائر الله: هي كلّ علامة توجب الحسّ والمعرفة بالله تبارك وتعالى، من خلال عظمته، وطاعته، والتوجّه إليه.

والشعائر على أقسام: فتارةً تكون الشعائر من شعائر الدين والإسلام، وأُخرى تكون من شعائر الإيمان، وثالثة تكون من شعائر الناس، سواء أكانت حقاً أم باطلاً، كشعائر المسيحيين، أو البوذيين، أو غيرهم، أو الشعائر في الحروب التي تدلّ على تمييز الصديق عن العدو، فلا فرق في ذلك أن يكون منشؤها شخصاً واحداً أو أشخاصاً متعددين، كما في شعائر الدول، فإنّ لكلّ دولة شعاراً وعَلماً خاصاً بها، يُميِّز هذه الدولة عن سائر الدول، فلكلّ ملّة من الملل أو مذهب من المذاهب شعائر أو شعار، إمّا حقاً، وإمّا باطلاً. هذا من جهة اللغة والعرف.

وأمّا من جهة الكتاب، فقد ورد هذا اللفظ وما شابهه في خمس آيات:

1ـ قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)^{^[3]}.

2ـ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)^{^[4]}.

3ـ قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)^{^[5]}.

4ـ قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ)^{^[6]}.

5ـ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)^{^[7]}.

فاستعمل لفظ الشعائر في الصفا والمروة، وكذلك في المشعر الحرام، وفي البدن، وفي الأخيرة قد نهى الله} عن إحلالها والتعرّض لها.

وبما أنّ الآيات المباركة قد وردت في سياق آيات الحجّ، فقد فسّر بعضٌ كلمة (الشعائر) بمناسك الحجّ أو البدنة خاصّة أو غيرها، مع أنّ معنى كلمة (الشعائر) أوسع من هذه المعاني جميعاً؛ إذ ثبت في علم الأُصول أنّ المورد لا يُخصِّص الوارد، فالآية الكريمة: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وإن وردت في سياق بيان الحجّ، إلّا أنّها بمنزلة كبرى كلّية تشمل جميع ما يُذكِّر الإنسان بالله تعالى، من دون اختصاصها بالموارد التي ذُكرت في سياق الآيات المشار إليها سابقاً.

وقد ذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في معرض تفسيره للآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّـهِ . . .)، ثمانية أقوال في معنى الشعائر، وقد رجّح القول بالعموم، والمعنى: لا تُحلّوا حُرُمات الله، ولا تضيّعوا فرائضه^{^[8]}، فهو نهي عن إباحة كلّ ما يكون من معالم عبادته.

وقد قوّى هذا المعنى جماعة من المفسّرين أمثال الطبرسي في مجمع البيان أيضاً^{^[9]}، ومثلهما ما ذهب إليه الفخر الرازي من أنّ شعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معيّن، فشعائر الله: دين الله^{^[10]}، وهو ما استظهره من التعريف اللّغوي بمعنى كون الشعائر علامة على الشيء، وقد استدلّ الشهيد الأول بآية تعظيم الشعائر وآية تعظيم حُرُمات الله على تعظيم المؤمن بما جرت به عادة الزمان، وإن لم يكن منقولاً عن السلف؛ لدلالتهما على العموم^{^[11]}.

والحاصل: أنّ كلّ شيء يكون معلماً لدين الله يُتقرَّب به إلى الله تعالى، فهو شعيرة من شعائره تعالى؛ وذلك على كون المراد بالشعائر الجنس، فكلّ معلم لعبادته فإنّه مشعر لله}، يُذكّر الإنسان به سبحانه وتعالى وعظمته في حال التوجّه إليه بتلك العبادة، وإنّ كلّ ذلك يُعدّ من الشعائر.

: ما وجه إضافة هذه الشعائر إلى الله تبارك وتعالى؟

(الشيخ الداوري): أمّا إضافتها إلى الله تعالى، فإنّه يُلاحظ فيها جهتان: جهة كونها مَعْلَماً على الله}، وجهة كونها من الله}، فإذا كان المَعْلَم شعيرة وعلامة على الله وكانت معلميّته من قِبَل الله}، فهذا يكون من شعائر الله.

: ما هي الضوابط العامّة التي يمكن من خلالها تحديد الشعيرة؟

(الشيخ الداوري): لا إشكال في أنّ كلّ فعل أو عمل لا يمكن أن يُعدّ من الشعائر، بل لا بدّ للشعيرة من خواص وشروط تتوفّر فيها، منها:

1ـ أن تكون من الأُمور الراجحة التي نُدِب إلى فعلها أو تركها شرعاً، سواء أكان من المستحبات كإشعار البدنة، أم الواجبات كالسعي بين الصفا والمروة، فإذا كان الشيء محرَّماً فعله، أو كان مباحاً بالمعنى الأخص أو مكروهاً، فلا يصلح أن يكون من شعائر الله تعالى، ولا يمكن أن يُنسَب إلى الله}.

2ـ أن تكون من الأُمور المميّزة، فليس كلّ حكم من المندوبات أو الواجبات التي لا يتميّز بها الدين عن سائر المذاهب والأديان يصحّ أن يقال له: إنّه مَعْلَمٌ للإسلام.

فالظاهر أنّ الموضوع لا بدّ أن يكون متضمناً لهذين الشرطين حتى يصدق عليه كونه معلماً وشعيرة من شعائر الله تعالى.

: هل الظاهر من قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)^{^[12]}، أنّ إنشاء الشعائر متوقّف على حكم الله}، أم أنّ للمعصوم عليه السلام والمتشرّعة والعُرف دوراً في إنشائها وإيجادها كذلك؟

(الشيخ الداوري): وقع الكلام في أنّه هل لا بدّ من شرط رابع يُميِّز الشعيرة عن غيرها، وهو أن يكون إنشاء الشعائر من الله}، وأنّ الله} هو الذي يُعيِّن ويجعل شيئاً شعاراً؟ وبعبارة أُخرى: هل المعلمية والشعارية اعتبارٌ وإنشاءٌ شرعيٌّ، أم يمكن تحققها أيضاً بأمرٍ تكويني أو متشرّعي أو عرفي؟

فمَن يقول بالأوّل يحصر الشعار بما يُعيّنه الشارع، ومَن يقول بالثاني لا يحصر ذلك بجعل الشارع، وإنّ المَعلَم والشعيرة يمكن تحقّقها بأمر تكويني، أو اعتباري عرفي متشرّعي.

واستُدل على القول الأوّل بوجوه، أقواها وجهان، هما:

الوجه الأوّل: أنّ ظهور كلمة (شعائر الله) يمكن أن يُستفاد منها أمران:

الأمر الأوّل: أن الشيء يكون مَشعَراً ومَعْلَماً بالله}.

الأمر الثاني: أنه مَعلَم وشعيرة من قِبَل الله تعالى، فإذا كان بجعلٍ من الله (جلّ شأنه)، فهو من شعائر الله، وأمّا إذا لم يكن من قِبله تعالى، فلا يُطلق عليه أنّه من شعائر الله، بل شعيرة من الناس، وليس كلّ اعتبار مِن قِبل أيّ أحدٍ يكون اعتباراً وشعاراً من الله}، بل لا بدّ أن يكون اعتبار شعائريته وإنشائه من الله تعالى؛ حتى يصحّ إطلاق (شعائر الله) عليه.

الوجه الثاني: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولما حُدّ بحدّ، فلو أُعطي الزمام للعرف والمتشرّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما شاؤوا أو اقترحوا، يلزم أن تطرأ على الدين تشريعات جديدة، وأحكام مستحدثة، ورسوم وطقوس متعددة، حسبما يراه العرف والمتشرّعة؛ وذلك يستلزم تأسيس دينٍ جديد وفق ما تمليه عليهم رغباتهم وخلفياتهم الذهنية والاجتماعية.

أمّا القول الثاني: فقد استُدلّ علىه بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ المستفاد من الآية الشريفة (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)^{^[13]} ـ وإن كان بالنظرة الأُولى كما ذُكر ـ هو أنّ شعائر الله هي المعالم التي تكون من قِبل الله}، ولكن مع الإمعان والدقة في المقام يظهر أنّ الشعائر: هي التي تكون علامة وشعيرة لله تعالى، فلا ينحصر جعلها بالله}، بل يكفي فيها واجديّة الأوصاف المتقدّمة، ومنها: كونها مندوباً إليها، وهذا المعنى يمكن أن نحصل عليه بقرينتين:

الأُولى: هي نفس المحمول، فإنّ تقوى القلوب التي تكون منشأً ودالاً على تعظيم واحترام الشعائر، لا تختصّ بالشعائر والمعالم التي تكون مجعولة من الله}، بل إذا كانت المبرزية مجعولة من قِبل الرسول سلام الله عليها، أو الإمام عليه السلام، أو المتشرّعة، فإنّها تقتضي ذلك أيضاً بلا ريب، فإنّ التعظيم والتبجيل لأحكام الله} ـ خصوصاً إذا كان علامة ومَعلَماً للإسلام والدين ـ لا ريب أنّه يدلّ على التقوى، وأنّ فاعله يكون مهتماً بالدين، ومخلصاً ومراعياً لحق الله تعالى؛ ومن ذلك يُعلَم أنّ المراد بالشعائر هو جنس الشعيرة، وكلّ ما يكون مَعْلَماً ومميِّزاً للدين الحنيف، فتعظيمه تعظيم للشعائر، وموردٌ ومصداقٌ للآية الشريفة، سواء أكان قد جُعِل من الله (عزّ وجّل) مباشرةً، أم بواسطة نبيّه سلام الله عليها، أو الإمام عليه السلام، أو نائبه من الفقهاء، أو المتشرّعة من المؤمنين.

الثانية: ما يستفاد من القرائن الخارجية من أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة من إطلاق الشارع الشعائر على بعض المصاديق، كالبدنة، أو الصفا، أو المروة وغيرها، مما يوجب القطع بأنّ الكعبة أو مناسك عرفة والمشعر أيضاً من الشعائر، فإنّ أهمّيتها وكونها معلماً ومُميّزاً أمر واضح، بل أجلى من المذكورات، وكذلك ما ورد في الأحاديث، فإنّ إطلاق الشعيرة والشعائر على المصاديق الواردة فيها يؤدّي إلى حصول الاطمئنان إلى أنّ المذكور في الآية هو جنس الشعيرة، ولا يتوقّف اعتبارها وإنشاؤها على الله تعالى، والروايات في هذا المجال كثيرة جداً، منها:

1ـ ما ذكره السيّد علي بن عبد الحميد، نقلاً من (كتاب الغَيبة) للفضل بن شاذان، بإسناده إلى الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله عليه السلام ـ في حديث في أصحاب القائم عليه السلام ـ أنّه قال: «وهم من خشية الله مشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين عليه السلام، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر»^{^[14]}.

2ـ ما في جوامع الجامع: «ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله عليه السلام: (ولا غمّة في فرائض الله)؛ لأنّها شعائر الدّين وأعلام الإسلام»^{^[15]}.

3ـ ما رواه الصدوق مرسلاً عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبي سلام الله عليها، فقال له: إنّ التلبية شعار المُحرم، فارفع صوتك بالتلبية: لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك [لبيك]»^{^[16]}.

4ـ مـا رواه الصدوق أيضاً بإسناده عن الحسـن بن عـلي عليها السلام: «فجعـل الله} تلك الإجابة شعار الحجّ»^{^[17]}.

5ـ ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن معاوية بن عمار، عن الصادق عليه السلامفي المناسك من المستحبات: «وإيّاك أن تشتغل بالنظر إلى النّاس، وأقبل قبل نفسك... وليكن فيما تقول: اللّهم ربّ المشاعر كلّها، فكّ رقبتي من النار، وأوسع عليّ من رزقك الحلال، وادرأ عنّي شرّ فسقة الجنّ والإنس»^{^[18]}.

6ـ نقل المحدّث النوري عن بعض نُسخ كتاب فقه الرضا عليه السلام: «وأكثِر من التلبية... رافعاً صوتك، وقد رُوي عن رسول الله سلام الله عليها أنّه قال: أتاني جبرئيل، فقال: مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنّه من شعار الحجّ»^{^[19]}.

7ـ ما جاء في تفسير العسكري عليه السلام: «وقال رجل للرضا عليه السلام: سلْ لي ربّك التقية الحسنة، والمعرفة بحقوق الإخوان، والعمل بما أعرف من ذلك. فقال الرضا عليه السلام: قد أعطاك الله ذلك، لقد سألت أفضل شعار الصالحين ودثارهم»^{^[20]}.

والحاصل: أنّ إطلاق الشعائر أو الشعار على هذه الموارد الكثيرة يُورث الاطمئنان بالعموم، وعدم الانحصار.

الوجه الثاني: ظهر مما تقدّم لزوم اعتبار ضوابط في الشعيرة، وأنّه لا بدّ وأن تكون مما نُدب إليها شرعاً، فإذا كانت أمراً مجعولاً ومحبوباً من قِبل الشارع فكيف يُدّعى أنّها بعد صدق الشعيرة عليها تكون بدعة، ويلزم من ذلك تشريع دين جديد؟! فلو قلنا: إنّ التحية بالسلام شعيرة للإسلام، وقد اعتبرها الناس شعاراً، فهل يلزم من ذلك دين جديد؟! أو يكون التعظيم والاهتمام بها بدعة؟!

نعم، لا بدّ أن تكون شرعيتها ثابتةً قبل أن تصير شعاراً، كما أنّ السجود على التربة أمرٌ مطلوب شرعاً ومندوب إليه، فإذا صار السجود على التربة شعاراً، كما عند الإمامية، فليس هذا بدعة، ولا إدخالاً لما ليس من الدين في الدين ما دام يُؤتى بها بعنوان الاستحباب، وكذلك الاجتماع لقراءة القرآن، أو الدعاء، فكلّها من الدين، وليست خارجة عنه حتى يقال: إنّها بدعة ودين جديد.

وعلى كلّ حال، فهذا الوجه مما يدلّ على أنّ القائل به لم يعرف معنى البدعة وحدودها، فيحكم على تعظيم ما هو مندوب ومشروع بأنّه بدعة.

: ما هي أهم وأبرز مصاديق شعائر الله تعالى؟ وهل النبي سلام الله عليها والأئمّة عليهم السلام من شعائر الله؟

(الشيخ الداوري): لا شكّ في أنّ النبي سلام الله عليها والأئمّة من أهل بيته عليهم السلام يُعدّون من أبرز مصاديق شعائر الله؛ لأنّهم من أعلام الدين ومعالمه، كما ورد في الزيارة الجامعة: «أعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده»^{^[21]}، وفي زيارة الإمام الكاظم عليه السلام: «يا علم الدين والتُّقى»^{^[22]}، وفي زيارة الإمام الجواد عليه السلام: «الذي نصبته علماً لعبادك»^{^[23]}، وفي دعاء الندبة: «يا بن المعالم المأثورة»^{^[24]}، و«أين أعلام الدين»^{^[25]}، وأمثال هذه العبارات المشتملة على أنّهم معالم دين الله وأحكامه، فتعظيمهم يكون تعظيماً لشعائر الله}.

وهذا ما دلّت عليه الروايات الكثيرة في بيان فضلهم ومنزلتهم عند الله}، والدعوة إلى إحياء أمرهم^{^[26]}، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال للفضيل: «تجلسون وتتحدّثون؟ فقال: نعم. فقال: إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله مَن أحيى أمرنا...»^{^[27]}.

ولا شكّ في أنّ إقامة المجالس الحسينية، والمسيرات العزائية، وبذل الأموال في ذلك، من أجل إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام، يُعدّ من أبرز مصاديق التعظيم لشعائر الله}؛ لأنّ ذلك إحياء لدين الله، وشريعة النبي الأكرم سلام الله عليها، فإنّ تلك الشعائر هي أحد أبرز الأسباب لحفظ الشريعة ونشرها، وحفظ العقائد الحقّة؛ إذ لولا أهل البيت عليهم السلام لبقي الإسلام بلا محتوى، بل لنُسي أيضاً.

باعتبار أنّ التعظيم والتبجيل أمرٌ عرفي يختلف بحسب الموارد والعادات، فتعظيم الأُستاذ يختلف عن تعظيم الوالد، وكذلك تعظيم الصديق يختلف عن تعظيم الأخ في نوع الأدب والاحترام، وكذلك تعظيم أحكام الله}، فتعظيم الواجبات هو العمل بها في أوقاتها، كما أنّ تعظيم المحرّمات هو الاجتناب عن الوقوع فيها، وعدم هتك حرمتها والمساس فيها، وتعظيم كتاب الله وآياته قراءتها والعمل بها، وتعظيم الأئمّة عليهم السلام قبول قولهم، والتمسّك بهم، وإطاعتهم، والقيام بخدمتهم، وزيارتهم، سواء أكانوا أحياءً أم أمواتاً، وكذلك القيام بتعمير قبورهم، والاهتمام برواياتهم، وإقامة المجالس لإحياء ذكرهم، وبيان أحاديثهم؛ لقوله عليه السلام: «فرحم الله مَن أحيى أمرنا»، فإنّ بيان مظلوميتهم، والبكاء عليهم، يكون تعظيماً لساحتهم.

وقد ورد الحثّ والترغيب الأكيد في الأحاديث في كلّ ما يرتبط بهم عليهم السلام، ويُعدّ كلّ ذلك تعظيماً لهم عليهم السلام.

: يا حبّذا لو تذكرون لنا موارد يمكن اعتبارها من أبرز مصاديق الشعائر الحسينية؟

(الشيخ الداوري): نعم، سؤالكم هذا ينقلنا إلى الحديث عن صغريات البحث في الشعائر، وبإمكاننا أن نشير إلى أبرز مصاديق الشعائر الحسينية، وهي:

1ـ زيارة مشهد الإمام الحسين عليه السلام

ويتأكّد الرجحان حال المشي، فقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على مطلوبية الزيارة وتأكيدها حال المشي، ومنها: ما رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَن أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكلّ خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة»^{^[28]}.

2ـ البكاء على مصائبه عليه السلام

فالبكاء سنّة نبوية؛ إذ نُقل لنا أنّ النبي سلام الله عليها قد بكى على ولده إبراهيم، وعلى عمّه حمزة، وعلى فاطمة بنت أسد، وعلى أُمه آمنة بنت وهب، وعلى ابن عمّه جعفر، وعلى زيد بن حارثة، وقد رُوي في موقف من مواقفه أنّه أُخبر من قِبل الوحي عن ظلامة ولده الحسين عليه السلام ومقتله، فأكثَرَ بالبكاء عليه، حتى أنّه أبكى مَن حوله، وارتفعت أصواتهم بالضجيج^{^[29]}، ثمّ قام وهو يقول: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي»^{^[30]}.

وعن الصادق عليه السلام: «إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي عليها السلام، فإنّه فيه مأجور»^{^[31]}.

3ـ إقامة المجالس

فقد ورد في القرآن الكريم: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)^{^[32]}، فإنّ من أبرز مصاديق المودّة إقامة المآتم لمصابهم، ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، خصوصاً أبي عبد الله الحسين عليه السلام؛ لما جرى عليه في يوم عاشوراء من القتل والسلب والتنكيل بأهل بيته وأصحابه، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله لبكر بن محمد الأزدي ـ وقد ذكرنا سابقاً ما يقرب منه ـ: «تجلسون وتتحدّثون؟ قال: قلتُ: جُعلت فداك، نعم. قال: إنّ تلك المجالس أُحبّها، فأحيوا أمرنا، إنه مَن ذكرنا وذُكِرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذبابة، غفر الله ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر»^{^[33]}، بالإضافة إلى السيرة الجارية من قِبل الأئمّة عليهم السلام وأصحابهم في إحياء أمر الحسين عليه السلام.

4ـ لبس السواد في أيّام مصائبه

يمكننا إدخال لبس السواد في المستحبّات؛ لكونه مصداقاً لإظهار الحزن على مصابه عليه السلام؛ وقد ورد في عدّة مصادر رجحان ذلك، ومنها: ما رواه البرقي صحيحاً بسنده عن عمر بن علي بن الحسين عليه السلام، قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي عليها السلام لبسن نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين عليها السلام يعمل لهنّ الطعام للمأتم»^{^[34]}.

فهذه الرواية تدلّ على أنّ نساء بني هاشم لبسن السواد بمرأى الإمام زين العابدين عليه السلام، ولم يردع الإمام عن ذلك، وهذا يكشف عن رضاه بهذا الفعل، بالإضافة إلى فعل السيّدة زينب سلام الله عليها صاحبة الكمالات والفضائل والمؤيَّدة من قِبل المعصوم عليه السلام.

5ـ لطم الخدود والصدور

نقل الطبري عن أبي مخنف تأثّر السيّدة زينب سلام الله عليها عند سماع أخيها الحسين عليه السلام وهو ينشد:

يا دهرُ أفٍّ لكَ من خليلِ

كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

من صاحبٍ أو طالبٍ قتيلِ

والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي

فقد روى الطبري حوارها مع أخيها الحسين عليه السلام، وقد جاء فيه: «بأبي أنت وأُمي يا أبا عبد الله، استقتلت، نفسي فداك؟! فردّ غُصّته وترقرقت عيناه، وقال: لو ترك القطا ليلاً لنام. قالت: يا ويلتي أفتغصب نفسك اغتصاباً؟! فذلك أقرح لقلبي، وأشدّ على نفسي، ولطمت وجهها...»^{^[35]}، ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد^{^[36]}، وقد نُقل عن العامة أنّ عائشة ضربت وجهها عند وفاة النبي سلام الله عليها^{^[37]}.

وهناك أيضاً شعائر أُخرى ربما يطول المقام بنا عند ذكرها والاستدلال عليها، كإطعام الطعام، وسقي الماء، وإنشاد الشعر، والصرخة، وغيرها.

وكذلك يمكن الاستدلال بأن الأصل في الأشياء هو الإباحة والجواز، فكل شيء حلال حتى تعلم حرمته، فما لم يقم دليل على حرمته في الشريعة فهو محكوم بالحلية، وعليه، فكل هذه الشعائر مندرجة تحت هذا الأصل بلا إشكال.

[1] أُستاذ البحث الخارج في الحوزة العلمية، في مدينة قم المقدّسة.

[2] اُنظر: الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين: ج1، ص251. ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج4، ص413.

[3][3] الحج: آية32.

[4] البقرة: آية158.

[5] البقرة: آية 198.

[6] الحج: آية36.

[7] المائدة: آية2.

[8] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن: ج3، ص418.

[9] اُنظر: الطبرسي، الفضل بن حسن، تفسير مجمع البيان: ج1، ص443.

[10] اُنظر: الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير: ج4، ص106.

[11] اُنظر: العاملي، محمد بن مكي، القواعد والفوائد: ج2، ص159.

[12] الحج: آية32.

[13] الحج: آية32.

[14] النوري، حسين، مستدرك الوسائل: ج11، ص114.

[15] الطبرسي، الفضل بن الحسن، جوامع الجامع: ج3، ص853.

[16] الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج2، ص326 ـ 327.

[17] المصدر السابق: ص238.

[18] الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج5، ص182.

[19] النوري، حسين، مستدرك الوسائل: ج9، ص177.

[20] التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: ص323.

[21] الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص97.

[22] ابن طاووس، علي بن موسى، مصباح الزائر: ص378.

[23] المصدر السابق: ص396.

[24] ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال: ج1، ص510.

[25] المصدر السابق: ص508.

[26] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص201. الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا: ج2، ص306. الطبري، محمد بن جرير، دلائل الإمامة: ص299. الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص291. ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال: ص87.

[27] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص501.

[28] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص255.

[29] اُنظر: ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج1، ص137. الطبري، أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبى: ج2، ص163.

[30] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص177.

[31] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص201ـ 202.

[32] الشورى: آية23.

[33] الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص187.

[34] البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج2، ص420.

[35] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص319.

[36] اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص93ـ94.

[37] اُنظر: ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج6، ص274. أبو يعلى، أحمد بن علي، مسند أبي يعلى: ج8، ص63. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج2، ص441.

المراسم الحسينية بين عمومات الشعائر والتأصيل الفقهي المستقل