بعد الاستقصاء والمتابعة الميدانية للكتب الاستدلالية في مجال النهضة الحسينية عموماً والشعائر الحسينية على وجه الخصوص، وجدنا[1] أن كتاب أسرار الشهادات للفاضل الدربندي^{^[2]} من الكتب الرائدة والمؤسِّسة في هذا المجال، بل نستطيع القول: إنّه أوّل كتاب ألّفه صاحبه طبقاً لآخر الصيحات المعرفية المرتبطة بمناهج الاجتهاد، ولعلّه هو أوّل مَن أسّس للاستدلال الفقهي والأُصولي في زمانه، فيما يرتبط بشؤون الملحمة الحسينية^{^[3]}.

وهذا ما أكّده الدربندي نفسه، حينما أشار في بعض تذييلات بحوثه إلى أسباب تأليفه هذا الكتاب، حيث يقول: «هذا الكتاب ليس كسائر المقاتل والكتب المؤلّفة في هذا الشأن، فإنّ ما فيها ليس إلّا من باب التأليف والجمع، بخلاف ما في هذا الكتاب، فإنه قد تضمّن ـ في كلّ مقدّمة من مقدّماته، وفي كلّ مجلس من مجالسه ـ ما يحتاج إلى استعمال الفكر الدقيق، والتأمّل الرقيق في ضمن تذييلات عديدة، فليس ما كنت أستعمله من الفكر وارتكبت فيه من المشقّة أقلّ مما استعملته من الفكر وارتكبت فيه من المشقّة في سائر كتبي وتصانيفي، من العقليّة والنقليّة، فالانتفاع منه على النهج التامّ والنمط الكامل ليس إلّا في طوع العالِم الجامع المحقّق، ذي الملكة القويّة والسليقة المستقيمة، وإن لم يكن بالغاً رتبة الاجتهاد والفقاهة، فلا ينتفع منه على هذا النمط من دون هذه الدرجة، وإن كان ممن له حذاقة في العلوم الأدبية وكتب التواريخ والسير، فضلاً عن انتفاع مَن كان فاقداً لكلّ ذلك، ونِعمَ ما قال بعض العلماء الصلحاء والفضلاء العظماء في شأن هذا الكتاب، وهو أنه يليق أن يُكتب بماء الذهب، ثمّ يُكتنز ويُختزن»^{^[4]}.

ثمّ إنّ الدربندي قد تعرّض للشعائر المستحدثة في ثنايا بحوثه، وتبعاً لاستدلاله على الشعائر الحسينية المنصوصة بالخصوص، علماً أنّ ما سنعرضه من مُستحدثات الشعائر الحسينية لا يراها الدربندي في كتابه من الشعائر المستحدثة، وإنما يراها من الشعائر المنصوصة والمتأصّلة والمتّصلة بزمان المعصومين عليهم السلام، ونحن قد اخترنا لها هذا التعبير؛ للتمييز بينها ـ كونها مما وقع الخلاف في شعائريتها وأدلّتها ـ وبين الممارسات التي اتفقت الكلمة على كونها من الشعائر الحسينية المنصوصة، كالزيارة والبكاء.

منهجه العام في الاستدلال

يؤكّد الدربندي في مواضع كثيرة من كتابه على أنّه يعتمد في بيان المطالب والموضوعات الحسينية على ما ينقله من الروايات والأخبار والآثار والمنامات، المعتمدة في نظره، كما يستدلّ على ذلك أيضاً «بالعمومات والأُصول والقواعد العقلية والنقلية والالتزامات الأخبارية ونحو ذلك»^{^[5]}، كما ستتضح أمثلة وتطبيقات ذلك لاحقاً.

أما بالنسبة إلى ما ينقله من الروايات والأخبار والآثار والمنامات، فإنّه يُقسّمها على أساس مصادرها إلى قسمين:

1ـ المأخوذ من الكتب المعتبرة في نظره.

2ـ المأخوذ من غيرها، مما لا يستلزم الوضع والكذب والافتراء.

وهذا ما ذكره ونصّ عليه في المقدّمات الأخيرة لكتابه، حيث يقول: «إنّ كلّ ما ذكرته ونقلته في هذا الكتاب، من الأخبار والروايات والآثار والمنامات، فهو لا يخلو من وجهين: إمّا أنه مما أخذته من الكتب المعتبرة، وذلك مثل كُتب المحمّدين الثلاثة، أي: الكليني والصدوق والطوسي، ومثل كُتب مَن في درجتهم ممن قبلهم أو بعدهم، ومثل كُتب أكثر متأخّري المحدّثين، الذين أخذوا من الكتب المعتبرة والأُصول المعتمدة، وذلك مثل: كُتب العلّامة المجلسي، والشيخ الأعظم الحرّ العاملي، وصاحب العوالم، وهكذا مَن يكون في درجتهم من حيث الحذاقة في فنون الأخبار، وإمّا أنه مما أخذته لا من مثل الكتب المشار إليها»^{^[6]}.

ثم يؤكّد على منهجه العام في كيفيّة التعامل مع مصادر هذين القسمين بالقول: «أما القسم الأوّل: فكما قد أذكر أسامي الكتب المأخوذ منها أو أسامي أصحابها، فكذا قد أترك الانتساب ولا أُشير إلى شيء من ذلك؛ فذلك منّي للاتّكال على وضوح الحال. وأما القسم الثاني: فنحن نشير فيه إلى الكتاب الذي أخذت منه بالواسطة أو بلا واسطة، أو إلى الشخص الذي رويت عنه»^{^[7]}. وهو يرى أن هذا القدر كافٍ في مقام صحّة النقل وجوازه، وكافٍ في دفع شبهة الكذب والوضع والتزوير، ولا يُشترط في المقام الاقتصار في النقل على خصوص الروايات الصحيحة والمعتبرة من حيث السند، أي: التي تكون صحّتها واعتبارها على طبق الموازين المذكورة في علم الدراية والرجال، والتي تصلح أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الفقهي^{^[8]}.

ثم إنه بعد ذلك يؤكّد ويُشدّد على قُبح وحرمة تعمّد الكذب، خصوصاً ما إذا كان في أُمور الدين والشريعة، كوضع الأحاديث واختراعها، ثم نسبتها إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، وهكذا نقْل ورواية أمثال هذه الأحاديث الموضوعة، وأن ذلك من الجرائم والذنوب الموبقة، بضرورة المذهب والأدلّة الأربعة.

ويقول في هذا المقام أيضاً: «لا يجوز نقل الأُمور التي لا أصل لها في الآثار والأخبار وكتب العلماء وأهل التواريخ والآداب والسير ـ من الخاصّة أو العامّة ـ في مجالس عزاء سيّد الشهداء، ومآدب مصائب آل محمّد، طمعاً في كثرة بكاء الناس وشدّة نوحهم وضجّتهم وصيحتهم، فكيف لا؟! فإن ذلك في الحقيقة من قبيل إحباط الحسنات بالسيّئات، فإنّ إبكاء أحد الناس على سيّد الشهداء وعترته وأصحابه المظلومين من أفضل العبادات وأقرب الطاعات وأعظم القربات، فكيف يُجوّز العاقل أو يرضى بأن يُخرّب بنيان ذلك بتعمّد الكذب والافتراء، ووضع الأحاديث من عند نفسه، أو بتعمّد نقل ما هو يعلم كذبه ووضعه؟!»^{^[9]}.

ويؤكّد أيضاً في السياق ذاته على أنّ «المحتاط في دينه لا يترك الاحتياط ولا يفتح باب الجرأة والجسارة»^{^[10]}.

ثمّ تصدّى بعد ذلك لإخراج ما لا يراه كذباً في النقل، وعدّ من ذلك الاستناد إلى العمومات، والقواعد العقلية والنقلية، وبعض اللوازم المستفادة من الأخبار، وأمثال ذلك، كما أنه يعتقد بأنه ليس من الكذب أيضاً «نقل الأحاديث الضعيفة، من الروايات المرسلة والأخبار الموقوفة المقطوعة بحسب الأسانيد، أو المستندة إلى غير المعصوم». وأن هذا النقل «مما لا ضير ولا عيب فيه، من باب ذكر المصائب والرثاء»، بشرط «أن لا تكون مقطوعة الكذب والوضع، بل أن تكون مما يُحتمل صدقها وصدورها، وإن كان على نمط الاحتمال المرجوح». ويضيف قائلاً: «ثم إذا كانت مما تُعارض القطعيات العقلية أو النقلية وأصلاً من أُصول مذهب الإمامية، فلا يجوز نقله للعوام، إلّا إذا كان الناقل قد سمع تأويله من العلماء الحُذّاق، فهذا كما ترى يجري في شأن الأخبار الصحيحة والموثّقات والحسان أيضاً». ثمّ رتّب على ذلك «جواز نقل ما يوجد في الأوراق العتيقة والتصانيف القديمة التي لا يُعلم أسماء مصنّفيها، والأوْلى بل اللازم في كلّ ذلك بيان الحال، بذكر حال تلك الكتب وتلك الأوراق، فمثل ذلك يُسمّى عند العلماء ـ في باب تحمّل الروايات ـ الوجادة، فهي أعمّ مما أشرنا إليه»^{^[11]}. ثم أورد جملة من الروايات المؤيّدة لجملة ما أفاده في المقام.

ولعلّه يفترض أنّ في هذا القدر من الوجادة أيضاً درجة ومرتبة من مراتب الاعتبار في المقام، حيث يقول في مواضع لاحقة من كتابه: «ولم أُشر في كلّ عنوان إلّا إلى جملة كثيرة من رواياته، من الأخبار والروايات التي ظفرت بها في الكتب المعتبرة عندي، أما ترى أنّي لم أذكر في هذا العنوان [عنوان الحزن والبكاء] الخبر المشهور في الألسنة، من أنّ جمعاً من الملائكة في أيديهم آنية من الزجاجات، فيدورون في مجالس ذكر مصائب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويلتقطون دموع الباكين... لأنّي لم أظفر بذلك في كتاب من الكتب المعتبرة»^{^[12]}.

وأمّا ما يرتبط بالمنامات، فإنه يرى أن قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة مطلقاً، حتى لو كان عن طريق رؤيته في المنام، وفي هذا المجال يقول: «فإن قلت: هل يمكن إثبات الحكم الشرعي بالقضايا الواقعة في المنامات؟! قلت: نعم، فإنّ قول المعصوم وفعله وتقريره حجّة، سواءً كان ذلك في اليقظة أم في المنام، فمن أراد التحقيق والكلام المشبع في ذلك، فليرجع إلى مصنّفاتنا في العلوم العقلية والنقلية^{^[13]}»^{^[14]}.

بعد ذلك عطف على كلامه هذا ما يرتبط بالأشعار ولسان الحال، قائلاً: «ثم نقول: إنّ الحال في الكلام النظمي كالحال في الكلام النثري، أي: من جهة الصدق والكذب، فيتمشّى فيه ما كان يتمشّى فيه، نعم إنّ دائرة الأشعار والكلام النظمي أوسع الدوائر من جهة أُخرى، وهي أن أكثر ما يُذكر فيها، من باب المراثي وذكر المصائب، إنّما هو من قبيل الإنشاءات والخطابات. وأما قضيّة لسان الحال، وتصدّر الكلام بلفظة (كأنّ) أو ما يؤدّي مؤدّاه من الفارسية والتركية والهندية ونحوها، فالظاهر أنها حيلة حسنة في باب إخراج الكلام عن الكذب»^{^[15]}.

وأمّا نقل محتوى الأشعار بصورة خبر ورواية، فقد قال فيه: «إذا كان صاحب القصيدة والأشعار من العلماء والمحدّثين الكاملين، أو من الأثبات الثقات، جاز ذلك الانتساب على هذا النمط، بمعنى أنّ هذا يكون حينئذٍ من قبيل الروايات المرسلة والأخبار المرفوعة الضعيفة، فيجوز أن يروي ذلك كلّه، وذلك بأن يقول: وقد رُوي كذا وكذا، أو أنه ورد في بعض الروايات كذا وكذا، أو أنه بلغ إلينا كذا وكذا ، أو نحو ذلك.. فقد بان من تضاعيف ما قرّرنا أن تتبّع الأشعار والقصائد، ولا سيما إذا كانت من أشعار العلماء وأهل الحديث، أو من أهل السير والتواريخ والأدب، مما يُوسّع الدائرة»^{^[16]}. أي: يُوسّع دائرة النقل وجوازه ومشروعيّته^{^[17]}.

أدلّته على الشعائر المستحدثة

بعد مرورنا الموجز على المنهج العام لدى الدربندي في استدلاله على الموضوعات الحسينية، ننتقل إلى بيان وإيضاح أدلّته التي أقامها على جملة من الشعائر الحسينية المستحدثة، التي لم يُنصّ في الروايات عليها بالخصوص، أو لا أقل من وقوع الاختلاف بين العلماء في كونها من الشعائر المنصوصة بالخصوص، وقبل ذلك نُحصي فيما يلي أهمّ ما جاء في كلماته من تلك الشعائر والممارسات، وهي:

1ـ شجّ الرؤوس (التطبير).

2ـ خمش الوجوه، ولطم الصدور، والضرب على الرؤوس بالأكفّ^{^[18]}.

3ـ حثو التراب والرماد على الرؤوس، وتطيين الوجه والجسد بالوحل، وشقّ الثياب، ولبس السواد^{^[19]}.

4ـ مراسم الشبيه (التمثيل).

5ـ ضرب الطبول والعزف بالآلات الموسيقية.

تأسيس الأصل في المسألة

اعتاد الفقهاء في استدلالاتهم الفقهية على تأسيس وذكر الأصل الأوّلي والعملي في المسألة، قبل أو بعد الولوج في أدلّتها اللفظية، والهدف من ذلك هو الرجوع إلى الأصل الأوّلي والاستناد إليه في مقام العمل في حال فقدان الأدلّة والأُصول اللفظية، أو التشكيك في دلالتها وانطباقها على محلّ النزاع، وقد نهج المصنّف هذه الطريقة الفقهية في مواضع متعدّدة من كتابه، لكونه من الفقهاء المرموقين في زمانه، ومن جملة تلك المواضع محلّ بحثنا، وهي الشعائر المستحدثة وغير المنصوصة بالخصوص^{^[20]}.

وقد اختار المصنّف في المقام أنّ الأصل في مثل هذه الأُمور بشكل عامّ في حالة الشك هو الجواز، وإن كان قد رفع يده عن هذا الأصل في بعض الموارد الخاصّة، كما سيتبيّن لاحقاً، واستند في بنائه على أصالة الجواز إلى كون المقام في نظره مُندرج في موارد الشبهات الحكمية التحريميّة البدوية، غير المسبوقة أو المقرونة بالعلم الإجمالي بالتحريم، ومن المقرّر في علم الأُصول جريان أصالة البراءة والجواز في مثل هذه الموارد، على خلاف المذهب الأخباري^{^[21]}، هكذا قرّر المصنّف الأصل العملي في المسألة، قائلاً: «مع كونه على طبق الأصل الأوّلي؛ لكون المقام من صُقع الشبهة التحريميّة الحكمية، مع عدم سبق العلم الإجمالي في البين»^{^[22]}، وستأتي إشارة أُخرى إلى ذلك من المصنّف لاحقاً.

هذا ما يراه المصنّف في المقام، بعيداً عمّا قد يرد عليه فيما يدّعيه، من إدراج المورد تحت أصالة البراءة والجواز في الشبهات الحكمية، في حالة الشك وفقدان الأُصول اللفظية.

الأدلّة العامة

هناك جملة من الوجوه والشواهد العامّة التي استند إليها الدربندي في استدلاله على الشعائر المستحدثة بصورة عامّة، نُشير فيما يلي إلى أهمّ وأبرز تلك الأدلّة:

الدليل الأوّل: ضرورة المذهب والسيرة القطعية للمعصومين والمتشرّعة

يرى المصنّف أن العالم الحاذق والمتابع الفطن لروايات وتُراث أهل البيت عليهم السلام، وما وصلنا عن أصحابهم وأتباعهم من العلماء وغيرهم، يجزم بأنّ ضرورة المذهب والسيرة القطعية الممضاة قائمة على مشروعية بل استحباب تلك الممارسات والمراسم الحسينية.

وهذا ما نصّ عليه في مواضع كثيرة من كتابه، ومن تلك المواضع ما أورده في ذيل قضية ضرب السيّدة زينب سلام الله عليها رأسها بمقدّم المحمل، فإنه بعد تعداد جملة من تلك المراسم الحسينية، من شقّ الثياب والجيوب، ولطم الصدور، وخمش الوجوه، وحثو التراب والرماد على الرؤوس، وضربها بالأكف، وتلطيخ الوجه والجسد بالوحل والألوان المسوّدة، وما أشبه ذلك، قال: «بل يمكن أن يُقال: إنّ جواز ذلك بل استحبابه مما عليه السيرة والضرورة من المذهب^{^[23]}»^{^[24]}.

كذلك قال في موضع آخر، وفي السياق ذاته، وبعد استعراض تلك المراسم الحسينية: «فوقوع هذه الأُمور من الباكين والجازعين في مصيبته، قبل وقوع شهادته وبعد وقوعها، من أهل العصمة من الملائكة والأنبياء والأوصياء والأئمة عليهم السلام، وممن يتلو أهل العصمة، ومن سائر المحبين والموالين في حضور أهل العصمة، مما لا شك فيه^{^[25]}»^{^[26]}.

وفي هذا السياق أيضاً يقول ـ بعد تأكيده جواز ومشروعية تلك الأُمور ـ: «ولا سيّما إذا لوحظ ما في الأمصار في جميع الأعصار ما يفعله جمع من شبّان الشيعة بل وكهولهم وشيوخهم أيضاً، من لطمهم صدورهم وجباههم ورؤوسهم بالحجر والحديد ونحو ذلك، حتى تُدمى هذه الأعضاء وتُجرح، في محضر من أكابر الدين وأعاظم المذهب من العلماء والصلحاء، وهم لا يمنعونهم عن ذلك، بل يشتدّ حينئذٍ بكاؤهم ويعلو نحيبهم، فكأنّ طبائع جمع قد جُبلت على فعل أمثال ذلك في أيام العشر الأُول من المحرّم، أما سمعت حديث مسلم الجصّاص، حيث قال: فلطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهب ^{^[27]}؟

وبالجملة، فإن ذلك ليس إلّا لأمر أصلي صادر من رضاء المعصومين بذلك^{^[28]}»^{^[29]}.

الدليل الثاني: مطلوبية الجزع على الإمام الحسين عليه السلام

يُعدّ الجزع^{^[30]} ومطلوبيّته الشرعية في عزاء الإمام الحسين عليه السلام من أهمّ الأدلّة العامّة، التي استند إليها الدربندي في التدليل على مشروعية واستحباب تلك الشعائر المستحدثة، وفي مواضع كثيرة من كتابه.

وفي مقام حديثه عن مطلوبية الجزع بالخصوص والتأكيد عليه، أورد في بداية الأمر مجموعة كبيرة من النصوص حول فضل البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام، وما تضمّنته من مواقف وتصرّفات من بيت العصمة والطهارة، وكذلك جملة من النصوص الدالّة على خصوص مطلوبية الجزع على الإمام الحسين عليه السلام، من قبيل:

قول الإمام الصادق عليه السلام: «كلّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين»^{^[31]}.

وفي نصّ آخر عنه عليه السلام: «إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع، ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي، فإنّه فيه مأجور»^{^[32]}.

وأيضاً في حديثه المفصّل مع مسمع بن عبد الملك البصري: «قال لي: أفما تذكر ما صُنع به؟ قلت: نعم، قال: فتجزع؟ قلت: إي والله... قال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا»^{^[33]}.

وأيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام: «ثم ليندُب الحسين عليه السلام ويبكيه، ويأمر مَن في داره بالبكاء عليه، ويُقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه، ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً بمصاب الحسين»^{^[34]}.

كذلك عن الصادق عليه السلام: «إن الحسين يقول لزواره: لو يعلم زائري ما أعدّ الله له، لكان فرحه أكثر من جزعه»^{^[35]}.

وجاء في دعاء الصادق عليه السلام لزوار الحسين عليه السلام: «وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا»^{^[36]}. وفي التعليق على هذا الخبر بالخصوص قال المصنّف: «وكيف كان، فإن ما ورد في باب زيارة سيّد الشهداء وباب البكاء والحزن والاغتمام والصرخة والصيحة، لو كان منحصراً في خبر معاوية بن وهب لكفانا؛ لما فيه ما يُغني عن غيره»^{^[37]}.

وعن الإمام الرضا عليه السلام في قصّة ذبح إبراهيم لابنه، ومحادثة الله تعالى له، قال: «يا إبراهيم، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أُمّة محمّد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك، وتوجّع قلبه، وأقبل يبكي، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله»^{^[38]}.

وقول الإمام زين العابدين عليه السلام لعمّته زينب سلام الله عليها، حينما رأته يجود بنفسه، وسألته عن ذلك: «وكيف لا أجزع وأهلع؟! وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي ووُلد عمّي وأهلي مضرّجين بدمائهم مرمّلين...» ^{^[39]}.

وبعد أن استعرض المؤلّف هذه النصوص الروائية التي يراها متواترة، انتقل لتقريب الاستدلال بها على مجموعة من الشعائر المستحدثة المشار إليها، بعبارات واضحة تُغنينا عن البيان والإيضاح، حيث قال: «فلا يخفى أن الجزع لغة وعرفاً هو نقيض الصبر، فإذا كان الجزع على سيّد الشهداء عليه السلام عند ذكر مصائبه ومصائب عترته وعياله وأصحابه المستشهَدين بين يديه عليه السلام من المندوبات المؤكّدة والكاشفة عن تحقّق الملكة النورانية الملكوتيّة، كان دقّ الصدر وضرب الرؤوس وشقّ الجيوب وتمزيق الثياب وحثو التراب والرماد على الرؤوس والتلبّس بلباس أهل المصائب، عند موت الأعزّة الأجلّة من عظماء الدين والدنيا، والتشبّه بهم في كونهم شعثاً غبراً، من المطلوبات المؤكّدة والمندوبات المفضّلة؛ لأنه كما يدخل تحت الجزع رفع الصوت في النوح والبكاء على سيّد الشهداء، وإعلان الصيحة والضجّة والنحيب وتنفّس الصعداء، فكذا تدخل تحته هذه الأُمور المشار إليها آنفاً، فهذا كافٍ في إثبات شرعية هذه الأُمور وكشفها عن ملكة الإيمان والإيقان... وبالجملة فإنّ كلّ ذلك داخل تحت الجزع المقطوع المطلوبيّة، والمعلوم المندوبيّة، فلا يُعارض ذلك في بعض الموارد ما يدلّ على حرمة الإسراف في تمزيق الثياب، وما يدلّ على حرمة الإضرار بالبدن، كما في دقّ الصدور على النمط الذي يُتوجّع ويُتألم منه، وهكذا الكلام في مثل ذلك؛ لأن أدلّة مطلوبية الجزع ترد على أدلّة الأُمور المشار إليها ورود الخاص على العام»^{^[40]}.

ويبقى هذا الدليل بنظره مفتوحاً لاستقطاب واستحداث مجموعة كبيرة من الطقوس والمراسم الحسينية، التي يشملها مفهوم الجزع، بالتفسير الذي أورده للجزع في هذا النصّ.

ولذا؛ قال في موضع لاحق: «وقد مرّت الإشارة إلى أن أقسام الجزع وأفراده كثيرة، فكلّ ما مرّت إليه الإشارة من رفع الصوت والضجّة، وإعلان الصيحة، وشقّ الجيوب وتمزيق الثياب، ونشر الشعور، ولطم الوجوه، وخدش الخدود والصدور، وضرب الأفخاذ والرؤوس والجباه بالأكفّ، وحثو التراب والرمال والرماد على الرؤوس، والتلبّس بالملابس والثياب السود... إلى غير ذلك من جملة من الأُمور الأُخر، داخل تحت الجزع»^{^[41]} ^{^[42]}.

الدليل الثالث: رواية ضرب السيّدة زينب سلام الله عليها رأسها بمقدّم المحمل

وهي التي رواها المجلسي في البحار، عن بعض الكتب المعتبرة، مرسلةً، عن مسلم الجصّاص، وهي رواية طويلة، ومن جملة ما جاء فيها: «فالتفتت زينب، فرأت رأس أخيها، فنطحت جبينها بمقدّم المحمل، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها»^{^[43]}.

وعلى الرغم من كون هذه الرواية من أهمّ النصوص الخاصّة، التي يستند إليها المصنّف في الاستدلال على مشروعية التطبير واستحبابه، إلّا أنّه يعتبرها أيضاً ـ بدلالة الفحوى والأولوية ـ من أهمّ الأدلّة العامّة على جملة واسعة من المراسم الحسينية المستحدثة، حيث يقول: «فاعلم أن قضية نطح زينب بنت أمير المؤمنين رأسها بمقدّم المحمل، بحيث إنه جُرح وجرى الدّم منه، يكشف عن فحوى أن ما لا يجوز فعله في مصيبة غير آل محمّد من الجزع الشديد، وشقّ الثياب والجيوب، ولطم الصدور وخمش الوجوه، وحثو التراب والرماد على الرؤوس وضربها بالأكف، وتلطّخ الوجه والجسد بالوحل والألوان المسوّدة وما يشبه ذلك، يجوز فعله في مصائب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيّما في مصائب سيّد الشهداء روحي له الفداء»، إلى أن يقول في صدد تأكيده على العموم: «نعم، إن الإفتاء بما يزيد على ما ذُكر ـ أي: بمثل ما صنعته زينب بنت أمير المؤمنين ـ في غاية الصعوبة والإشكال، ويمكن أن يقال: إن هذا الإشكال إنما هو بالنسبة إلى النظر الجليّ^{^[44]}، وأما النظر الدقيق، فلا إشكال في البين أصلاً، فإن ما في هذا الخبر يرد على جملة من العمومات والإطلاقات وبعض القواعد، ورود الخاصّ على العامّ»^{^[45]}. أي: يكون مُخصّصاً ومُقيّداً للعمومات والإطلاقات.

ثم إنّ المصنّف ـ وتتميماً للاستدلال ـ يؤكّد أن ذلك الفعل الصادر عن السيّدة زينب سلام الله عليها كان في محضر حجّة الله الإمام زين العابدين عليه السلام، ولم يعترض على عمّته بشيء، وهو ما يكشف عن قبوله ورضاه بما فعلت، بالإضافة إلى ما يراه هو من كون فعل السيّدة زينب سلام الله عليها حجّة في ذاته، بلا حاجة إلى إثبات واستكشاف رضا الإمام عليه السلام وتقريره، قال بهذا الصدد: «جواز الاستدلال بما فعلته زينب بنت أمير المؤمنين؛ لأن ما فعلته كان في محضر من حجّة الله على جميع خلقه سيّد الساجدين، فكما أنّ فعل المعصوم وقوله حجّتان، فكذا تقريره، على أنه قد تقدّم ما يدلّ على كون زينب محدّثة وتالية لمرتبة العصمة»^{^[46]}.

ثم ينتقل بعدها إلى بيان رأيه في البحث السندي في الرواية، قائلاً: «فإن قلتَ: إن قضية نطح زينب رأسها بمقدّم المحمل لم يرد إلّا في خبر مرسل عن مسلم الجصّاص، وهو أيضاً مجهول الحال... قلتُ: إنّ وصف المحقّق المجلسي الكتاب الذي أخذ هذا الخبر عنه بكونه من الكتب المعتبرة، يُصيّر هذا الخبر بمنزلة ما هو مُحرز لشرائط العمل به، فعلى البناء على اتساع الدائرة في باب الأخبار يجوز تخصيص العمومات به»^{^[47]}، وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا البناء فيما يرتبط بباب الأخبار والروايات، تحت عنوان: منهجه العام في الاستدلال، فلاحظ.

ونظراً إلى أنّ هذا الفعل الصادر من السيّدة زينب سلام الله عليها في هذا الخبر قد يُتوهّم أنه من الأفعال المحرّمة، التي دلّت على حرمتها جملة من العمومات اللفظية والقواعد الفقهية، التي تُحرّم على المكلّف إيذاءه لنفسه وبدنه، فيكون صدوره عنها سلام الله عليها منافياً لأُصول المذهب وثوابته، كما يتنافى أيضاً مع اعتقادنا الخاص بمقامها السامي سلام الله عليها؛ حاول المصنّف في المقام أن يستعرض هذه الدعوى مع الإجابة عنها، حيث قال: «فكيف يجوز أن يُخصّص به العمومات وبعض القواعد البالغة حدّ أُصول المذهب بالمعنى الأخص؟ على أن الظاهر أنّ الحكم بحرمة مثل ذلك ـ ولو كان ذلك في تعزية سيّد الشهداء وعند ذكر مصائبه ـ من المسائل الاتفاقية الإجماعية».

ثم أجاب عن هذه الدعوى بأنها: «من الدعاوى الجزافية؛ إذ كون القاعدة من أُصول المذهب بالمعنى الأخصّ أوّل الكلام، والمسألة بخصوصها لم تُعنون في كتاب من كتب الأصحاب، فكيف تكون من الاتفاقيات، أو مما ادّعي في شأنها الاتفاق والإجماع؟! فقد بان من ذلك كلّه أنّ الحكم بالجواز مما لا يخلو من قوّة»^{^[48]}. وكلامه هذا صريح في حداثة أمثال هذه البحوث الحسينية، وأنها لم تُعنون في كُتب الأصحاب إلى زمانه رحمه الله.

الأدلّة الخاصّة

تناول المصنّف في ثنايا بحوثه أهمّ الشعائر الحسينية المستحدثة، ونصّ عليها بصورة منفردة، وتعرّض لأدلّتها وحكمها الشرعي، ونذكر فيما يلي أهمّ وأبرز ما جاء في كلماته:

1ـ التطبير

جزم المصنّف بمشروعية التطبير، وكلّ جرح للرأس والجسد بآلة من حديد أو غيرها في عزاء سيّد الشهداء عليه السلام، بل جزم أيضاً باستحبابه، وكونه من أفضل العبادات وأشرفها.

ولعلّ هذه الشعيرة تُعدّ من أشدّ الشعائر الحسينية ممارسة وجدلاً وخلافاً بين العلماء، من زمن المصنّف إلى زماننا هذا، فإذا جازت وحُكم بمشروعيّتها واستحبابها، جاز في نظر المصنّف ما دونها من الأفعال والممارسات، كخمش الوجوه ولطمها، ولطم الصدور والرؤوس، وأمثال ذلك مما سيأتي التعرّض له تباعاً، وذلك بالفحوى والأولويّة التي أشرنا إليها، ونصّ عليها المصنّف سابقاً؛ ولذا قدّمنا هذه الشعيرة الخاصّة على سائر الشعائر الأُخرى المستحدثة.

ثمّ إنه بالإضافة إلى ما تقدّم من التدليل على ذلك، والتنصيص عليه من قِبل المصنّف في الأدلّة العامّة، استدلّ أيضاً بفعل السيّدة زينب سلام الله عليها، حينما صدمت رأسها الشريف بمقدّم المحمل، وقد كرّر ذلك في مواضع كثيرة من كتابه، ومن جملة تلك المواضع ما جاء في قوله عند بيان بعض ما يُستحبّ فعله عند ذكر مصائب سيّد الشهداء عليه السلام: «وأمّا الكلام في مثل جرح الرؤوس أو الصدور بآلة من الحديد أو نحو ذلك، فمما يُعلم تحقيق الحال فيه في بعض المجالس، وهو المجلس المتضمّن لقضية نطح الصديقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين عليها السلام رأسها ـ في حضور الإمام ـ على خشب الهودج»^{^[49]}، وهو يُشير بذلك إلى التذييل الثالث من المجلس الثاني والعشرين من كتابه، وقد سبقت تفاصيله في الدليل الثالث من الأدلّة العامّة، فلاحظ.

ويقول في موضع آخر أيضاً، في معرض حديثه عن استحباب شقّ الجيوب وخمش الوجوه كما سيأتي: «وكيف لا؟ فإنّ جملة كثيرة من الأخبار... قد دلّت على جواز ذلك في مصيبة سيّد الشهداء روحي فداه، بل على كون ذلك وما فوقه، مثل لطم الصدور بالأحجار، وشقّ الرأس، ونحو ذلك، مما فُعل في حضور المعصوم، فيكون من جملة العبادات، بل من جملة أشرفها وأفضلها، فافهم»^{^[50]}، وهو يُشير في مسألة شقّ الرأس إلى فعل السيّدة زينب سلام الله عليها المتقدّم في حضور الإمام المعصوم عليه السلام.

ثمّ إن المصنّف يستثني من هذا النحو من الممارسات، الأفعال التي قد تؤدّي إلى الموت أو تلف عضو من الأعضاء، وجزم بحرمتها في هذا الحال، حيث يقول: «ولكن لا يخفى عليك أن ذلك كلّه إنما فيما لم يُخشَ التلف على النفس والأعضاء، وإلّا فيحرم قطعاً، والله أعلم بأحكامه»^{^[51]}.

2ـ الصياح وخمش الوجوه ولطم الصدور والضرب على الرؤوس بالأكفّ

3ـحثو التراب والرماد على الرؤوس وتطيين الوجه والجسد وشقّ الثياب ولبس السواد

جمعنا بين هذه الشعائر والممارسات المتنوّعة تحت هذين العنوانين؛ لتقاربها في الممارسة والأداء، وتقاربها أيضاً في الأدلّة والنصوص والروايات التي ساقها المصنّف لإثبات شعائريّتها، ومضافاً إلى الأدلّة العامّة الماضية، أورد المصنّف روايات كثيرة في هذا الباب، يعتقد بتواترها وبلوغ مضمونها حدّ الضرورة الدينية والمذهبية.

ومن أهمّ ما ورد في كتابه من تلك النصوص والروايات ما يلي:

ما رواه عن السيّدة زينب سلام الله عليها في كربلاء قبل وقوع المعركة: «فقالت زينب: وا ثكلاه! ينعى الحسين إليّ نفسه! قال: وبكى النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب»^{^[52]}. وهذا النصّ الذي يرويه أيضاً في السياق ذاته: «فنظر إليها الحسين عليه السلام، فقال لها: يا أُخيّة، لا يُذهبنّ حلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدموع، وقال: لو تُرك القطا لنام. فقالت: يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟! فذاك أقرح لقلبي، وأشدّ على نفسي، ثمّ لطمت وجهها، وهوت إلى جيبها فشقّته، وخرّت مغشياً عليها»^{^[53]}. وفي نصّ آخر مماثل: «فشقّت ثوبها، ونشرت شعرها، ولطمت وجهها»^{^[54]}.

وهكذا نصّ آخر يتحدّث عن حال النساء بعد مصرع الإمام الحسين عليه السلام: «فلمّا سمعن باقي الحريم خرجن، فنظرن إلى الفرس عارياً، والسرج خالياً، فجعلن يلطمن الخدود، ويشققن الجيوب، وينادين وا محمداه! وا عليّاه! وا فاطمتاه!...»^{^[55]}.

ونصّ آخر يتحدّث عن مرورهنّ على القتلى: «ثم أُخرج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات، يمشين سبايا في أسر الذلّة، وقلن: بحقّ رسول الله إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين عليه السلام. فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحن، وضربن وجوههن»^{^[56]}.

وأيضاً من نصوص ما بعد المصرع: «وروي عن بعضهم: أنه كان للحسين بنت صغيرة، وكانت من بين تلك النساء جالسة حول أبيها، قابضة كتفه، وكفّه في حضنها، فتارة تشمّ كتفه، وتارة تضع أصابعه على فؤادها، وتارة على عينها، وتأخذ من دمه الشريف، وتُخضّب شعرها ووجهها»^{^[57]}.

وفي الكوفة بعد خطابات بنات الرسالة، ضجّ «الناس بالبكاء والنوح، ونشر النساء شعورهنّ، ووضعن التراب على رؤوسهن، وخمشن وجوههن، وضربن خدودهن، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال، ونتفوا لحاهم، فلم يُرَ باكية أكثر من ذلك اليوم»^{^[58]}.

وفي مجلس يزيد، لما رأت السيّدة زينب سلام الله عليها الرأس الشريف «أهوت إلى جيبها فشقّته»^{^[59]}.

وفي خربة الشام حينما استيقظت صغيرة الحسين عليه السلام تريد والدها: «فعظم ذلك على أهل البيت، فضجّوا بالبكاء، وجدّدوا الأحزان، ولطموا الخدود، وحثوا على رؤوسهم التراب، ونشروا الشعور، وقام الصياح»^{^[60]}.

وحينما عاد الركب الحسيني إلى المدينة ونادى الناعي: «يا أهل المدينة، هذا علي بن الحسين عليها السلام وإخوته وعمّاته قد نزلوا بساحتكم، وأنا رسوله إليكم. قال: فلم يبقَ في المدينة مخدرة إلّا وبرزت من خدرها، ولبسوا السواد، وصاروا يدعون بالويل والثبور، فلم أرَ إلّا باكياً وباكية، ونادبة وناعية»^{^[61]}.

وفي نصّ مماثل وفي السياق ذاته: «فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجوبة إلّا وبرزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمّشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور وعظائم الأُمور، فلم أرَ باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم»^{^[62]}.

وقد تضمّنت هذه النصوص وغيرها الممارسات التالية:

1ـ لطم الخدود.

2ـ خمش الوجوه.

3ـ نتف اللحى.

4ـ تلطيخ الوجه والشعر بالدماء.

5ـ حثو التراب على الرؤوس.

6ـ النوح والصياح.

7ـ نشر الشعور.

8ـ شقّ الجيوب.

9ـ لبس السواد.

10ـ الدعوة بالويل والثبور.

11ـ خروج المخدرات من خدورهن.

والذي يُفهم من مجموع إفادات المصنّف في هذا المجال أنه يرى:

أوّلاً: أنّ هذه النصوص الدالة على هذا النحو من الممارسات وأمثاله متواترة، ومما لا شكّ فيها، بل بالغة حدّ الضرورة، ولا معنى للولوج في حكاية الاعتبار السندي وعدمه^{^[63]}.

ثانياً: أنّ هذه الأفعال والممارسات قد وقعت في محضر الإمام المعصوم عليه السلام من دون اعتراض منه على ذلك؛ مما يكشف عن إمضائه ورضاه^{^[64]}.

ثالثاً: أنّ هذه النصوص وغيرها تكشف عن أنّ ما يقع في أُفق هذه الممارسات، مما يكشف عن عظم المصيبة ويُذكّر بها، كلّه جائز ومطلوب^{^[65]}.

ومن إفادات المصنّف في هذا المجال، التي يُشير فيها إلى أمثال ما أوردناه عنه من النصوص والروايات، ما تقدّم في قوله: «فوقوع كلّ هذه الأُمور من الباكين والجازعين في مصيبته... مما لا شكّ فيه، ومما تطلع على الأخبار المتضمّنة له في مواضع عديدة في جملة كثيرة من مجالس هذا الكتاب»^{^[66]}، ومن جملة تلك المواضع ما أوردناه عنه من النصوص والروايات.

وفي موضع آخر، وبعد استعراضه لجملة من تلك الممارسات، في إشارة منه إلى ما أوردناه من النصوص والروايات، قال أيضاً: «بل إن استنباط كلّ ما أشرنا إليه من الأخبار الكثيرة وفقرات الزيارات الوفيرة ـ استنباطاً تطابقاً والتزاماً ـ مما لا يشكّ فيه العالم، العريض التتبّع، والشديد التيقّظ، بل يمكن أن يُقال: إن جواز كلّ ذلك ـ بل استحبابه ـ مما عليه السيرة والضرورة من المذهب»^{^[67]}.

ثم إنّ للمصنّف دليلاً إضافيّاً مختصّاً بمشروعية لبس السواد واستحبابه في مصيبة سيّد الشهداء عليه السلام، وهو عبارة عن تلك القصّة التي ينقلها المصنّف عن بعض مؤلّفات أصحابنا، من أنّه حُكي عن السيّد علي الحسيني، أنه كان مجاوراً لمشهد الإمام الرضا عليه السلام، وفي يوم العاشر من المحرّم، وعند قراءة المقتل، ورد ذكر هذه الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام، أنه قال: «مَن ذرفت عيناه على مصاب الحسين عليه السلام، ولو كان مثل جناح البعوضة، غفر الله تعالى ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر»^{^[68]}، وقد استثقل أحدهم مضمون هذا الحديث وكذّبه، فنام الرجل، فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت، والناس قد حُشروا للحساب، وفي هذا الحال، ومع شدّة الحرّ، رأى حوض الكوثر، «وإذا عند الحوض رجلان وامرأة، أنوارهم تُشرق على الخلائق، وهم مع ذلك لبسهم السواد، باكون محزونون. فقلت: مَن هؤلاء؟ فقيل لي: هذا محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الإمام علي المرتضى، وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء. فقلت: ما لي أراهم لابسين السواد وباكين ومحزونين؟ فقيل لي: أليس هذا يوم عاشوراء، يوم مقتل الحسين عليه السلام؟!»^{^[69]}.

وفي مقام الاستدلال بهذه الرؤيا على مشروعية لبس السواد واستحبابه، يقول المصنّف ـ اعتماداً منه على ما أسّسه، من حجّية قول المعصوم وفعله وتقريره، ولو برؤيته في المنام^{^[70]} ـ: «ثمّ لا يخفى عليك أنّ من جملة ما يدلّ على استحباب التلبّس بالملابس السود في عشرة عاشوراء، هو الرواية المتقدّمة، المتضمّنة لرؤية ذلك الرجل في منامه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وفاطمة الزهراء سلام الله عليها قد تلبّسوا بالملابس السود»^{^[71]}.

4 ـ مراسم الشبيه (التمثيل)

خصّص المصنّف لهذه الممارسة والشعيرة الحسينية مقدّمة خاصّة من مقدّمات كتابه، وقد حرّر عنوان هذه الشعيرة ومضمونها بقوله: «المقدّمة الخامسة: في الإشارة إلى تحقيق الحال فيما يُصنع في بلاد العجم، من بلاد فارس والتُّرك وغيرها، من التشبيهات والمثل في شهر المحرّم، أي: من المثال والتشبيه لسيّد الشهداء (روحي له الفداء)، وأشباه عترته وأصحابه ونسائه الطاهرات والبنات الفاطميّات، وهكذا تشبيهات تلك الجسوم الطيبة الطاهرة المنبوذة في جملة من الأيّام والليالي في أرض كربلاء، وهكذا التشبيهات للرؤوس المقدّسة المرفوعة على رماح الزنادقة والكفّار، وهكذا المثل والأشباه لرؤساء أهل الضلال وأهل الزندقة والإلحاد، مثل يزيد وابن زياد وابن سعد وجنودهم، لعنهم الله تعالى أجمعين»^{^[72]}. هكذا حرّر المصنّف مسألة الشبيه والمسارح الحسينية آنذاك.

ثم انتقل بعد ذلك إلى بيان الحكم الشرعي في المسألة، واختار في حكمها الجواز، بل الاستحباب، وبدأ بالتأكيد على كونها من المسائل الابتلائية المستحدثة، وأنها لم تُبحث بحثاً فقهياً إلى زمانه، حيث يقول: «فاعلم أنّ هذه المسألة ـ مع كونها مما تشتدّ الحاجة إليها ـ لم يُبيّن الحال فيها في كلام أحد إلى الآن، وقد يُنقل عن بعض ما قاربنا عصره أنه كان يمنع عن ذلك، إلّا أن الوجه المنقول عنه في هذا المقام مما في غاية المدخولية»^{^[73]}.

بعد ذلك يحكي المصنّف استدلالاً على الجواز في المقام، يدور في الأروقة العلمية، ثمّ يناقشه، وقد نصّ على ذلك بالقول: «ثمّ إنّ الدائر في ألسنة الطلّاب ونحوهم أن المدرك للجواز هو عموم (مَن أبكى). وفيه: أنّ هذا إنّما يصحّ لو كانت كلمة (مَن أبكى) في الأخبار المشتملة عليها واردة على نهج الإرسال والإطلاق، وليس الأمر كذلك، بل إنّها إنّما وردت في مقام إنشاد الأشعار وقراءة المراثي، فكيف يمكن الاستدلال بها في المقام؟!. اللهمّ إلّا أن يُتمسّك حينئذٍ بتنقيح المناط القطعي، والدلالة الالتزامية العرفية، وفيه ما لا يخفى على الفطن»^{^[74]}.

ثم انتقل بعدها إلى بيان أدلّته على المشروعية والاستحباب، وشرع بتأسيس الأصل في هذه المسألة، وعطفاً على الأصل العام الذي أسّسه في المقام كما تقدّم، اختار أن مقتضى الأصل العقلي والنقلي هو الجواز، لكون المقام من الشبهات الحكمية التحريمية، وعبارته المفصّلة والواضحة تغنينا عن الإيضاح والبيان، حيث يقول: «والتحقيق في المقام هو أن يقال: إنه لا بدّ من تأسيس الأصل، ثم الإشارة ثانياً إلى أن المقام هل هو مما يوجد فيه على الإثبات أو النفي دليل أم لا؟

فنقول: مقتضى الأصل الأوّل العقلي والنقلي هو الجواز؛ لأن شبهة هذا المقام من أفراد الشبهات التحريمية الحكمية، مع عدم سبق العلم الإجمالي في البين، فالأصل عند الأُصوليين بأجمعهم هو البراءة والإباحة، كما أن الأصل عند الأخباريين ـ ما عدا الصدوق رحمه الله ـ هو الحظر والحرمة، وقد قُرّر في محلّه أنّ الحقّ مع معشر الأُصوليين»^{^[75]}.

بعد ذلك يؤكّد المصنف على عموم هذا الأصل وشموله للممثّلين والناظرين والكوادر التي تعمل خلف الكواليس، حيث يقول: «فإن هذا الأصل يُلاحظ على نمط التعميم في المقام، بمعنى أنه كما يجري في شأن المشبّهين أنفسهم، في مقام الإتيان بالمثل والأشباه بالأبرار المقرّبين من الإمام وحزبه، فكذا يجري في شأن معشر الناظرين إليهم والحاضرين في المجالس المشتملة على الأمثال والأشباه، وكذا يجري في شأن مَن يسعى في هذا الأمر ويُهيّئ أسبابه»^{^[76]}.

ثم انتقل إلى عرض الشواهد والأدلّة الخاصّة على الجواز، المطابقة لأصالة البراءة عند الأُصوليين، والرافعة لأصالة الحظر عند الأخباريين، قائلاً: «كلّ مَن كان من أهل التحقيق والنظر والتتبّع لا بدّ من أن يقول بالجواز، وإن كان من معشر الأخباريين، ومن حزب القائلين بالحظر والحرمة من حيث الأصل، وبيان ذلك: أنّ المقام مما فيه دليل مطابق لأصل الأُصوليين، وارد على أصل الأخباريين ورود الأدلّة المنجّزة على الأُصول المتعلّقة»^{^[77]}، أي: المتعلّقة في حجّيتها على عدم الأدلّة الخاصّة اللفظية المنافية لها.

والدليل الخاص اللفظي في نظره، الوارد على أصالة الحظر، والرافع لموضوعه، هو ما يرويه المصنّف «عن ثقة الإسلام الكليني في كتاب الروضة من الكافي، ومضمونه ومعناه ـ على ما في خلدي الآن ـ: أنّ الكميت الشاعر دخل على الصادق عليه السلام، فقال: يا كميت، أنشد في جدّي الحسين عليه السلام. فلما أنشد الكميت أبياتاً في مصيبة الحسين عليه السلام بكى الإمام بكاءً شديداً، وبكت نسوة الإمام عليه السلام وأهله وحريمه وصِحن في حجراتهنّ، فبينما الإمام في البكاء والنحيب، إذ خرجت جارية من خلف الستر من الباب الذي كان في سمت حجرات الحرم، وفي يدها طفل صغير رضيع، فوضعته في حجر الإمام عليه السلام، فاشتدّ حينئذٍ في غاية الاشتداد بكاء الإمام عليه السلام ونحيبه، وعلا صوته الشريف، وأعلنت النسوة الطاهرات والحرم أصواتهن بالبكاء والنحيب من خلف الأستار من الحجرات»^{^[78]}^{^[79]}.

بعد ذلك انتقل إلى تقريب الاستدلال بالرواية، قائلاً: «وأنت خبير بأن مقصود النسوة الطاهرات والحرم من إنفاذ ذلك الطفل من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حضرة الإمام عليه السلام، ما كان إلّا تشبيهاً بعليّ الأصغر الرضيع الشهيد (روحي له الفداء)، وذلك لتشتدّ بذلك الرقّة في الباكين والباكيات، ويكثر البكاء والنحيب، فتقرير الإمام كقوله وفعله في الحجّية، فإذا ثبت ورود ذلك في أصل الشرع في الجملة، ثبت الجواز، بل الاستحباب في كلّ ما أشرنا إليه؛ لعدم القول بالفصل»^{^[80]}.

ثم يُضيف المصنّف شاهداً آخر لإثبات المشروعية، قائلاً: «إنه يمكن أن يسترشد الفطن إلى حقّية ما قلنا من أُمور أُخر أيضاً، وذلك مثل ما ورد في جملة من الأخبار: أنّ الله قد أرى جمعاً من الأنبياء والمرسلين ما يجري في كربلاء على عترة سيّد الأنبياء وآل خير الأوصياء، إراءة في عالم الظل والمثال، ومثل ما ورد أيضاً من أنّ الله تعالى خلق في السماء مَلَكاً بصورة أمير المؤمنين عليه السلام، كان الملائكة يزورونه إذا كانوا مشتاقين إلى صورة أمير المؤمنين عليه السلام، فلما ضربه ابن ملجم (لعنه الله) على رأسه، صارت تلك الضربة في صورته التي في السماء، والملائكة ينظرون إليه غداة وعشية، ويلعنون قاتله ابن ملجم. ولا يخفى عليك أن الاسترشاد من ذلك إلى ما قلنا يحتاج إلى نظر دقيق وفهم صائب، فتأمّل»^{^[81]}. وقد استدلّ المصنّف بأمثال هذه الشواهد والنصوص لإثبات مطلوبية التمثيل في مواضع كثيرة من كتابه^{^[82]}.

بعد ذلك يؤكّد المصنّف على أنّ هذا الجواز هو حكم التشبيه من حيث هو، بغض النظر عمّا يُرافقه أو ما قد يؤدّي إليه من المحرّمات والمفاسد، وإلّا فإنه يكون محرماً حينئذٍ، حيث يقول: «إن الحكم بجواز التشبيهات من حيث هي هي، لا يُنافي الحكم بحرمتها بالنظر إلى جملة من الجهات والعوارض، فلا يخفى عليك أنّها تحرم إذا أدّت إلى جملة من المفاسد، مثل إتلاف النفوس المحترمة ونحو ذلك»، وقد مثّل لإتلاف النفوس بقصّة وقعت في الهند لأشخاص قتلوا أنفسهم حينما رأوا موكباً لتمثيل الرؤوس والسبايا الطواهر.

وفي موضع آخر مثّل المصنّف لذلك الاستثناء بتشبّه الرجال بالنساء، الذي يجزم المصنّف بحرمته، فيكون التشبيه محرّماً من هذه الحيثية، وقد أوضح هذه النقطة بالقول: «إنّ ما مرّ من الحكم بجواز التشبيهات إنّما كان بالنسبة إلى ملاحظة نفس التشبيهات، من حيث هي هي، ومع قطع النظر عن بعض الجهات، وإلّا فقد يتّصف ـ بالنظر إلى بعض الجهات والعوارض ـ بالحرمة، وذلك مثل أنّ طائفة من المشبّهين أنفسهم بالنساء الطاهرات والبنات الفاطميات، يلبسون الملابس والثياب المختصّة بالنساء، وهذا كما ترى مما لا شكّ في حرمته؛ إذ لم يرد في الشرع ما يدلّ على الاستثناء في هذا الباب، على أن المترجّى المقصود يحصل بدون ارتكاب هذا المحرّم».

ثمّ يقول: «وأما تخيّل الاحتجاج في المقام بـ: عموم (مَن أبكى)، وهكذا بالسيرة بين الشيعة... مما لا وجه له؛ لأن:

الجواب عن الأوّل: قد مرّ، على أنّ التعارض بين العمومات الدالّة على حرمة تلبّس الرجال بما يختصّ بالنساء، وبين عموم (مَن أبكى) ـ أي: من الإطلاق المستفاد من لفظة (أبكى) ـ تعارض العامّين من وجه، فلا ريب في كون الترجيح من وجوه عديدة مع تلك العمومات^{^[83]}.

والجواب عن الثاني: بأنّ تلبّس الرجال بملابس النساء وما يختصّ بهنّ، ما كان عادة مستمرّة في مقام التشبيهات، حتى تُعدّ من قبيل السيرة، على أنّ منع العلماء الجهال عن ذلك وعدم حضور المحتاطين منهم في المجالس المشتملة على هذا النحو من التشبيهات، مما لا يمكن لأحد إنكاره، فخذ الكلام بمجامعه وتأمّل»^{^[84]}.

5ـ ضرب الطبول والعزف بالآلات الموسيقية

حرّر المصنّف عنوان هذه الممارسات والطقوس بقوله: «في الإشارة إلى تحقيق الحال في ضرب الأطبال، وتصويت الطنابير والمزامير والبوقات، وما يشبه ذلك في مجالس التشبيهات»^{^[85]}.

وقد حكم جازماً بحرمة هذه الممارسات في المراسم الحسينية، ودفع ما قد يُتوهّم كونه دليلاً على المشروعية والجواز، حيث قال: «فاعلم أنّ الحكم بالحرمة في هذه الأُمور هو مقتضى الأُصول والقواعد المأخوذة من الكتاب والسنّة والإجماع، فالمخصّص الوارد عليها مما لم يثبت في المقام^{^[86]}، وأما تخيّل أنّ تجويز تشبيهات جمع من الكفار، كيزيد وابن سعد وشمر وجنودهم ـ لعنهم الله تعالى ـ مما يستلزم تجويز هذه الأُمور، والتقريب غير خفيّ، على أنّ المقصود المترجّى من التشبيهات هو كثرة البكاء والنحيب، وشدّة الرقّة والصيحة والضجّة، فهذه الأُمور كما ترى لا تحصل بدون تحقّق تلك الأُمور في مجالس التشبيهات من الخيالات الاعتبارية التي لا اعتداد بها».

ويُضيف قائلاً: «ثم إنّ أقبح ما يصنعه جماعة، أنهم يأتون في مجالس تشبيهات الأعراس للقاسم بن الحسن عليه السلام بالطنبور، ويضربونه ويصوّتونه، فهذا وإن كان سبباً لشدّة الرقّة للعوام من الرجال والنساء، وكثرة البكاء والنحيب، وإعلان الصيحة والضجّة، إلّا أنّ الحكم بجواز ذلك لأجل ذلك، مما دونه خرط القتاد بأنامل»^{^[87]}.

وبعد أن يسرد المصنّف مجموعة من الحكايات والقصص في هذا المجال، مما قد يُستكشف منه وجود سيرة لدى المتشرعة على أمثال هذه الممارسات، يقول: «فإن قلت: إن جملة ما ذكرت وإن كانت تناسب المقام، إلّا أن الأليق الأحرى هو أن تذكر الأهمّ، وهو أن تكشف حقيقة الحال في قضية ضرب الطنابير والأطبال وتصويت المزامير والبوقات وما يشبه ذلك، فإنّ ما ذكرت كلام مختلط يذهب بعضه ببعض.

قلت: إني ما قصّرت في تحقيق الحال وتبيين المقال، إلّا أنني أقصر الكلام ها هنا، وأقول: إنّ هذه الأُمور المذكورة إذا صارت سبباً لنظم المجلس وكثرة أهله والحاضرين فيه، ولشدّة الرقّة وكثرة البكاء والنحيب وغلبة الضجّة والصيحة، فإنّي لا أقدم حينئذٍ إلى فتح باب الجسارة والتجرّي، بأن أقول: لا أحضر في هذا المجلس، أو أقول: بأنّ الحاضرين فيه يرتكبون المعصية من حيث حضورهم فيه واستماعهم لأصوات تلك الآلات، ومع ذلك لا أطرح الأصل الفقهي المذهبي الثابت بالأدلّة، فهذا عجيب، إلّا أنه عند الناظر إلى الأشياء بالعينين الصحيحتين، لا بعين واحدة سقيمة، ليس بعجيب»^{^[88]}.

وهذا يعني أنّ المصنّف قد فصّل في الحكم بين المستعمل لتلك الآلات الموسيقية، فحكم بالحرمة، وبين الحاضرين والسامعين، فلم يتجرّأ على الحكم بحرمة حضورهم في تلك المجالس، واستماعهم للموسيقى.

[1]رئيس تحرير مجلّة الإصلاح الحسيني

[2][2] ترجم له القمي في الكنى والألقاب بالقول: «الدربندي: ملا آقا بن عابد بن رمضان علي بن زاهد الشرواني الحائري، شيخ فقيه متكلّم محقّق مدقّق، جامع المعقول والمنقول، عارف بالفقه والأُصول، كان من تلامذة شريف العلماء، وكان له في حبّ أهل البيت عليهم السلام، سيما سيّد الشهداء عليه السلام، مقام رفيع، وتغيّر أحواله من اللطم والبكاء وغير ذلك من شدّة مصيبته على الحسين المظلوم عليه السلام في أيام عاشوراء مشهور. يُحكى أنّه كان يُعظّم كُتب العلم، سيما كتب الحديث... له الخزائن، وأسرار الشهادة، والسعادة الناصرية، وغـير ذلك... تُوفّي سنة (1286هـ) في طهران، ونُقل إلى كربلاء المشرّفة، ودُفن في الصحن الصغير... والدربندي هنا: نسبة إلى دربند، البلد المسمّى بباب الأبواب بقرب الشروان، لا الدربند التي كانت من أعمال الري»: ج2، ص228ـ 229.

[3] ليس هدف المقال هو استقصاء كلّ ما ذكره الدربندي في هذا المجال، ولا تأييده أو انتقاده تفصيلاً، وإنّما هدفنا هو التعرّف على الأُصول والأُسس والبدايات والبيئة التي نشأت وترعرعت فيها ظاهرة البحوث التحليلية والاجتهادية المرتبطة بمستحدثات المراسم الحسينية، ليتعرّف الباحث بعد ذلك على حجم التراكمات الاستنباطية والاستدلالية التي رافقت مسيرة تلك المراسم إلى يومنا الحاضر، وهي تراكمات كبيرة وكثيرة وخطيرة، كانت وما زالت محلّ جدل وخلاف، يُلقي بظلاله على مجتمعاتنا الحسينية. ومع ذلك لم تخلُ هوامش المقال أيضاً من تسجيل بعض الملاحظات، والإشارة إجمالاً إلى بعض الانتقادات على منهجية المصنّف وأدلّته واستنتاجاته.

[4] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص504.

[5] المصدر السابق: ص500.ش

[6] المصدر السابق: ص496.

[7] المصدر السابق.

[8] للاطلاع على حقيقة هذا المنهج وتفاصيله بصورة أشمل وأعمق، ومعرفة المناهج المختلفة في هذا المجـال، اُنظـر: ما كتبه شـيخنا الأُستاذ محمّد السند، الشعائر الحسينية: ج1، ص213 ـ243.

[9] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص504.

[10] المصدر السابق: ص501.

[11] المصدر السابق: ص500ـ 501.

[12] المصدر السابق: ص104ـ 105.

[13] لم نعثر في عجالة من البحث على تحقيق للمصنّف في هذا المجال، وهو من غرائب الآراء!

[14] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص188.

[15] المصدر السابق: ص503.

[16] المصدر السابق.

[17] ما زالت كلّ هذه الدعاوى في المنهج محلّ نقاش وجدل بين العلماء.

[18] تشترك هذه الممارسات في كونها من الأفعال التي قد تؤدّي إلى إلحاق الضرر بالبدن وإيذائه.

[19] تشترك هذه الممارسات في كونها مؤثّرة في مظهر الإنسان العام.

[20] أي: عدم النصّ الصريح بالخصوص من قبل المعصومين عليهم السلام على كونها بعنوانها من المراسم الحسينية.

[21] اُنظر على سبيل المثال: الخراساني، محمّد كاظم، كفاية الأُصول: ص337، وما بعدها.

[22] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص249.

[23] لقد تفرّد المصنّف بهذا المدّعى، ولم يسبقه إلى ذلك أحد من الفقهاء على حدّ علمنا، ودعوى أنّ السيرة وضرورة المذهب قائمتان على جواز أو استحباب تلك الطقوس، دون إثباتها خرط القتاد.

[24] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص247.

[25] هناك مجال واسع للتشكيك في وقوع أغلب الممارسات الواردة في كلامه، سوى البكاء واللطم وشقّ الجيوب، فقد يُدّعى الجزم بوقوعها، كما سوف يتبيّن لاحقاً.

[26] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص141.

[27] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص114.

[28] الكلام كلّ الكلام في فرض كاشفية هذه السيرة المزعومة عن رأي المعصومين عليهم السلام.

[29] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص248ـ 249.

[30] الجزع: نقيض الصبر، وهو: حالة من الانقطاع والضعف عن تحمّل ما نزل من نازلة، تُصيب الشخص الجازع. اُنظر: الزبيدي، مرتضى، تاج العروس: ج11، ص64.

[31] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص162. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص89.

[32] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص202. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص89.

[33] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص204. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص90.

[34] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص326. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص91.

[35] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص55. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص98.

[36] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص229. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص102.

[37] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص104.

[38] الصدوق، محمد بن علي، الخصال: ص59. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص126ـ127.

[39] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص179. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص203.

[40] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص136ـ137.

[41] المصدر السابق: ص141.

[42] ولكن ما زال باب النقاش والجدل مفتوحاً في تحديد حقيقة الجزع وماهيّته وتطبيقاته لغة وشرعاً.

[43] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص115. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص223.

[44] أي: البدوي والسطحي.

[45] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص247.

[46] المصدر السابق: ص248.

[47] المصدر السابق.

[48] المصدر السابق.

[49] المصدر السابق: ج1، ص141.

[50] المصدر السابق: ج2، ص209.

[51] المصدر السابق: ج3، ص249.

[52] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص49. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج2، ص145.

[53] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص94. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج2، ص146.

[54] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص56.

[55] المصدر السابق: ص102.

[56] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف: ص49. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص201.

[57] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص205.

[58] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص91ـ92. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3 ص229.

[59] الحلّي، ابن نما، مثير الأحزان: ص79. الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص360.

[60] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج3، ص411.

[61] المصدر السابق: ص463.

[62] المصدر السابق: ص461. واُنظر أيضاً بالمضامين ذاتها لهذا النصّ وسابقه: ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص115.

[63] إن دعوى بلوغ كلّ تلك الممارسات بتفاصيلها وعناوينها حدّ التواتر أو الضرورة، استناداً إلى تلك النصوص والروايات، عهدتها على مدّعيها. نعم، للمصنّف أن يدّعي ثبوت التواتر الإجمالي، الذي لا يُثبت سوى بعض تلك الممارسات، كاللطم وشق الجيوب، وتفصيل الكلام موكول إلى محلّه.

[64] ولكن لنا أن نتساءل: هل كان يتسنّى للمعصوم عليه السلام ـ وهو في تلك الحال وبين شرّ أعدائه ـ الاعتراض على تلك الممارسات، لو كانت فيها مخالفة لحكم جزئي من الأحكام الشرعيّة؟!

[65] لا يخلو هذا الاستنتاج من روائح القياس الباطل في مذهب أهل البيت عليهم السلام.

[66] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص141.

[67] المصدر السابق: ج3، ص247.

[68] الرواية مروية في المصادر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، بهذا النصّ: «من ذُكرنا عنده، ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر». اُنظر: البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص63.

[69] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص182ـ183.

[70] لا يخفى ما في هذا الاستدلال من مؤاخذات، فالقصّة لا نعلم مصدرها ولا حاكيها ولا صاحب الرؤيا فيها، مضافاً إلى غرابة الاستدلال بفعل المعصوم في منام شخص مجهول، وصفه حاكي القصّة بالجاهل المركّب!!

[71] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص188.

[72] المصدر السابق: ص154.

[73] المصدر السابق: ص155.

[74] المصدر السابق.

[75] المصدر السابق.

[76] المصدر السابق: ص155ـ 156.

[77] المصدر السابق: ص156.

[78] المصدر السابق: ص156ـ 175.

[79] الظاهر أن هذه الرواية بهذا النصّ والمضمون، وبما فيها من محلّ الشاهد وموضع الاستدلال، لا وجود لها إلّا في خلد المصنّف رحمه الله وذاكرته، وهو المصدر الأوّل والأساس لها، ولا وجود لها، لا في روضة الكافي ولا في غيرها من المصادر السابقة عليه، فما جاء في روضة الكافي عن الكميت هذا الخبر: «عن الكميت ابن زيد الأسدي، قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام، فقال: والله، يا كميت لو كان عندنا مال لأعطيناك منه، ولكن لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحسّان بن ثابت: لن يزال معك روح القدس ما ذببت عنّا». الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص102. وهناك خبر آخر في الروضة أيضاً قريب المضمون مما ذكره المصنّف، ولكن عن المنشد سفيان بن مصعب العبدي، ومن دون أيّ ذكر لموضع الشاهد، وهو ما رواه الكليني بسنده: «عن سفيان بن مصعب العبدي، قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فقال: قولوا لأُمّ فروة تجيء، فتسمع ما صُنع بجدّها. قال: فجاءت، فقعدت خلف الستر، ثمّ قال: أنشدنا. قال: فقلت: (فروِّ جودي بدمعك المسكوب)، قال: فصاحت، وصحن النساء». الكافي: ج8، ص216. ولعلّ الذاكرة قد خانت المصنّف، فخلط بين هذه النصوص وبين نصّ آخر رآه أو سـمعه من مصادره الأُخرى التي لم تصلنا.

[80] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص157.

[81] المصدر السابق.

[82] اُنظر على سبيل المثال: ج3، ص50ـ51.

[83] ولعلّ من جملة هذه الوجوه: كثرة تلك العمومات واعتبارها وشهرتها.

[84] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص158.

[85] المصدر السابق: ص159.

[86] يُشير المصنّف بذلك إلى النصوص والروايات المتضافرة التي تُحرّم استعمال تلك الآلات الموسيقية. اُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج17، ص312ـ 318.

[87] الدربندي، آقا بن عابد، أسرار الشهادات: ج1، ص159.

[88] المصدر السابق: ص162ـ163.

الشعائر المستحدَثة وأدلّتها قراءة في كتاب(أسرار الشهادات) للفاضل الدربندي