المقدّمة

كان للإعلام دور بارز في حفظ النهضة الحسينية وبيان حقيقتها وما جرى فيها من مصائب ومحن، ويمكن عدّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) والسيّدة الحوراء زينب(عليها السلام) المؤسِّسَين الرئيسين لهذه الحركة الإعلامية، وقد تبعهم في تأدية هذا الدور بقية أئمّة أهل البيت(عليهم السلام).وشيئاً فشيئاً تنوّعت الآليّات الإعلامية للنهضة الحسينية، وكان من أبرزها المنبر الحسيني الذي مرّ بدوره بمراحل متعدّدة وصولاً إلى ما هو عليه اليوم، وخلال هذه المراحل واجه المنبر العديد من القضايا والتحدّيات سواء على المستوى المعرفي (النظري) أم على المستوى العملي، ونحن في هذه الدراسة نوّد إيقاف القارئ العزيز على أهمّ تلك التحدّيات التي واجهها المنبر الحسيني شأنه شأن بقية وسائل الدعوة للدين الإسلامي الحقّ، وقد كانت هذه التحدّيات عبارة عن نوع خاصّ من الحروب التي يشنّها الأعداء لتقويض دعائم هذا الدين الناصع الذي جاهد الرسول(صلى الله عليه واله) من أجل ترسيخ دعائمه في نفوس المسلمين، وبذل أهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام) الدماء الزاكية من أجل بقائه واستمراره، وتحمّلوا في سبيل ذلك أشق المصاعب والمحن.

الحرب الناعمة وخصائصها

إنّ الصراع والمواجهة ظاهرة واكبت بدايات النشأة الإنسانية على سطح الأرض، فأوّل مواجهة وقعت في التاريخ ـ والبشرية لم تتجاوز أصابع اليد آنذاك ـ وقعت بين أخوين من صلب واحد ورحم واحد، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[1]، ثمّ استمرّت هذه الحالة بين بني البشر مخلّفة صنوف النكبات والويلات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ الضرر الذي تُخلّفه هذه المواجهات والاختلافات لا يقتصر فقط على الأذى المادّي، بل يكون مسبِّباً ـ بلا أدنى شكّ ـ للضرر الديني، ومؤثِّراً بصورة سلبية على علاقة الإنسان مع الله(عز وجل)؛ ونتيجة للأضرار المتنوّعة التي تترتّب على الاختلافات والمواجهات بين بني البشر، نجد أنّ القرآن يقرن بين بعثة الأنبياء(عليهم السلام) وبين حصول حالة الاختلاف في المجتمعات، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ....)[2].

وفي موازاة الكثرة الواضحة للمواجهات فقد تنوّعت الأساليب المتّبعة في كلّ مواجهة، فمنها ما يعتمد على البُعد العسكري، وآخر يعتمد على البُعد السياسي، وثالث يعتمد على البُعد الاقتصادي، وغير ذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى المواجهات التي يكون فيها العدو واضحاً، يستخدم فيها آليّاته الخشنة والصلبة التي تنسجم مع نوع المواجهة التي يخوضها.

وفي المقابل يوجد هناك نوع آخر من المواجهة المعاصرة التي بدأنا نعيشها في العقدين الأخيرين، مواجهة توظّف المادّة الإعلامية ـ التي هي أداتها الرئيسة ـ في تأجيج وتغذية التناحر الطائفي والعرقي بين المذاهب والقوميّات، مضافاً إلى توجيه الجماهير صوب الأفكار السطحية، وإبعادهم عن كلّ ما من شأنه إيقاظ روح المواجهة لديهم. وهذا النمط من المواجهة يُسمّى بحسب الاصطلاح المعاصر بـ(الحرب الناعمة)[3] التي هي في مقابل الحرب الصلبة أو الخشنة ذات التدخّل المباشر، وقد أصبح هذا النوع من الحروب الشغل الشاغل للدول الكبرى لإخضاع خصومها؛ وذلك لأنّها تمتلك خصائص ومميّزات لا توجد في الحروب الصلبة، وهي:

1ـ عدم وجود العدو في هذا النوع من الحروب بشكل مباشر وعدم تشخّصه.

2ـ وجود العدو في المواجهة الناعمة في كلّ مكان (البيت، والمدرسة، والمكتبة، والشارع...)، بينما في المواجهة الصلبة فإنّ العدو موجود في مكان أو أمكنة محدّدة.

3ـ قاطع العمليات ـ في المقام ـ ليس هو الأرض، وإنّما هو عقول الشعوب وقلوبها.

4ـ قلّة الخسائر البشرية بشكل كبير جدّاً قياساً بما يقع من خسائر في الحروب الصلبة.

5ـ الأدوات المستخدمة في هذه الحروب هي من قبيل: القلم والأدب والأفلام ونشرات الأخبار، وما شابه ذلك، بينما الأدوات المعتمدة في الحروب الصلبة هي: الطائرات والدبّابات والموادّ الكيمياوية والعقوبات الاقتصادية وما شاكل ذلك.

6ـ في الحرب الناعمة تكون كلّ الطبقات مستهدفة، مسلّحة كانت أم غير مسلّحة، فالعدو ـ في المقام ـ لا يقاتل الرجال الشباب وحسب، وإنّما يلاحق الصغار والشيوخ والنساء، وهذا الأمر قد لا يكون هو الهدف المباشر في الحرب الصلبة، وإنّما تكون الحرب منحصرة بين الجيوش المتقاتلة، ويكون التعرّض للمدنيين عادة بسبب قربهم من جبهات القتال أو من المواقع العسكرية أو الحسّاسة.

7ـ في الحرب الناعمة تُوظَّف الكثرة الوهمية لا العددية، فمَن يجلس خلف جهاز حاسوبه، ويبثّ سمومه إلى عموم المتلقّين عِبر وسيلة التواصل التي يستخدمها، نعدُّه بألف، على الرغم من كونه شخصاً واحداً يمارس دوره في هذه المواجهة. بينما يختلف الحال في الحرب الصلبة التي تكون المواجهة فيها دائماً بين كثرتين عدديّتين.

8 ـ أخيراً، نرى في الحرب الناعمة أنّ العدو يأسر خصمه وهو له عبدٌ مطيع، يُنفِّذ ما يأمره ويسير خلفه برضا تامّ. بينما في الحروب الأُخرى نرى أنّ الشخص لا يستسلم لعدوه بسهولة، وفي حال أسره يكون ـ عادة ـ موثوق اليدين، معصوب العينين، يتعرَّض لصنوف الأذى الجسدي والنفسي.

الأدوات الدينية المستخدَمة لصدّ العدو في الحرب الناعمة

نظراً لكون العالم الإسلامي الشيعي يقع ضمن دائرة الأطماع العالمية، نجد أنّ قوى الاستكبار العالمي لم تألُ جهداً في استخدام أحدث الأسلحة الفتّاكة في حروب شنّتها هي بنفسها أو قام بها أذنابها في منطقة الشرق الأوسط، سواء في العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن أو نحو ذلك، ثمّ إنّها لم تكتفِ بذلك وإنّما بثّت سمومها في حرب من نوع آخر، حرب غير واضحة المعالم، حرب ناعمة ينجذب فيها الطرف المقابل نحو الآلة الحربية التي تريد تدميره والقضاء عليه وهو راضٍ ومستسلم تماماً. وفي خضم هذه الجَلَبة ينبغي علينا تقديم الإجابة الشافية لسؤال يطرح نفسه، أو يُطرَح في بعض الأوساط المجتمعية، وهو: ما هي المفردات الدينية التي يمكن أن تكون أدوات صالحة لصدّ العدو في هذه المواجهة الناعمة؟

في مقام الحديث عن الأدوات الصالحة للمواجهة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الدين الإسلامي لم يقم بتربية معتنقيه على حالة الخضوع والاستسلام للعدو الذي يريد استعبادهم وطمس هويّتهم الدينية، وإنّما نجد الخطابات الإسلامية تُشدِّد بصراحة ووضوح على ضرورة وجود حالة الجاهزية والاستعداد لدى المسلمين في أيّ مواجهة محتملة، قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ...)[4]. وأمّا فيما يتعلّق بمحلّ حديثنا (الحرب الناعمة) فإنّه من أبرز المواجهات الناعمة التي يسلّط القرآن عليها الضوء باستمرار هي المواجهة مع الشيطان، قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)[5]، فاتّخاذه عدوّاً هو عدم الغفلة عن مكره وشراكه ولو للحظة واحدة، والكون على استعداد دائم وجاهزية تامّة في هذه المواجهة الشرسة؛ ولهذا ورد عن أمير البيان(عليه السلام) ـ بعد
حثّه الناس على الجهاد وعدم الرضوخ للعدو الذي غزا البلاد واسترقّ العباد ـ قوله: «... وإنّ أخا الحرب الأرِق‏، ومن نام لم‏ يُنَم‏ عنه»[6]‏، فإنّ هذه القاعدة الكلّية عامّة وشاملة لجميع المواجهات صلبة كانت أو ناعمة.

وبعد تشخيص المسلم لنوعية الحرب التي يقودها العدو لإخضاعه واسترقاقه، وبعد علمه بضرورة يقظته الدائمة في هذه المواجهة، نوّد الإشارة إلى أنّ الدين الإسلامي لم يترك معتنقيه والمدافعين عنه لوحدهم من دون أن يزوّدهم بأدوات تنسجم مع ما هو مستخدم في هذا النوع من المواجهات، وهذه الأدوات عبارة عن:

الأداة الأُولى: الصلاة

تُشكِّل هذه الفريضة العبادية ـ بما تملكه من حضور دائم في حياة المسلم
اليومية ـ الركن الركين الذي يقف أمام أعتى الأسلحة التي يستخدمها العدو في حربه الناعمة، وهو سلاح إشاعة الفحشاء والمنكرات في المجتمع، قال تعالى:
(...إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ...)[7]، فإنّ طبيعة «هذا التوجّه العبادي ـ إذا أتى به العبد وهو يُكرِّره كلّ يوم خمس مرّات، ويداوم عليه، وخاصّة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به، ويهتمّ فيه بما اهتمّ به ـ أن يردعه عن كلّ معصية كبيرة يستشنعه[8] الذوق الديني كقتل النفس عدواناً، وأكل مال اليتيم ظلماً، والزنا واللواط، وعن كلّ ما يُنكره الطبع السليم والفطرة المستقيمة ردعاً جامعاً بين التلقين والعمل»[9].

أضف إلى ذلك، فإنّ الصلاة تمتلك بُعداً آخر وهو تشديد أواصر الجماعة الإسلامية، وذلك من خلال تشريع صلاة الجمعة وصلاة العيدين، والحثّ الكبير على إتيان الصلوات اليومية جماعة، فإنّ هذه التشريعات هي مدعاة إلى شحذ الهمّة الدينية في المجتمع الإسلامي وتهيئته ورصّ صفوفه في أيّ مواجهة محتملة.

الأداة الثانية: الصوم

تُشكِّل فريضة الصوم واحدة من العبادات التي تمنح الفرد المسلم حالة التقوى والخشية من الله(عز وجل)، حيث ورد في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[10]، فإنّ هذه الفقرة الأخيرة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بحسب ما أفاده كثير من المفسّرين تُشكِّل الحكمة من تشريع هذه العبادة، فإنّ ضبط النفس الحاصل لدى الصائم وتمرّنه على ترك الشهوات عامل أساسي في حصول حالة الصبر لديه، وبالتالي قدرته بفعل هذه الفريضة الشاقّة على مغالبة نفسه وجهادها وضبطها عمّا تميل إليه من الطعام والشراب وشهوة الجنس[11]. ومع تحقّق هذه المغالبة والمجاهدة يستطيع الفرد المسلم خوض الحرب الناعمة وهو يمتلك أنجع الأساليب التي تمنحه القدرة على النصر في هذه المواجهة.

الأداة الثالثة: الحجّ

تمتاز هذه الفريضة العبادية ـ علاوة على الثواب الجزيل الذي تمنحه للفرد المسلم المؤدّي لها ـ بكونها دعوة سنوية إلى وحدة المسلمين بشتّى طوائفهم وانتماءاتهم صوب جهة واحدة. وهذه الوحدة هي الأرضية اللّازمة لإحراز النصر في أيّ مواجهة، وطالما نجد أنّ العدو يسعى إلى إيجاد حالة التفرقة والتشرذم في صفوفنا من أجل السيطرة والقضاء علينا بكلّ يسر وسهولة. ومن هنا؛ نجد أنّ القرآن يؤكّد بشدّة على ضرورة إتيان هذه الفريضة من قِبل الشخص المستطيع، ويصف الذي لا يأتي بها ـ مع قدرته ـ بأنّه كافر، قال تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[12].

وقد جاء في تفسير الأمثل عقيب تفسير هذه الآية ما نصّه: «وللتأكيد على أهمّية الحجّ قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)،أي: إنّ الذين يتجاهلون هذا النداء، ويتنكّرون لهذه الفريضة ويخالفونها، لا يضرّون بذلك إلّا أنفسهم؛ لأنّ اللّه غنيّ عن العالمين، فلا يُصيبه شيء بسبب إعراضهم ونُكرانهم وتركهم لهذه الفريضة»[13]. أضف إلى ذلك، فإنّ الروايات الشريفة قد أكّدت كذلك على أهمّية هذه الشعيرة الدينية، ووصفت مَن يمت ولم يأتِ بفريضة الحجّ مع قدرته وعدم وجود المانع بأنّه مخيّر بين الموت على اليهودية أو النصرانية، ومن هذه الروايات صحيحة ذُريح المحاربي عن الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «مَن مات ولم يحجّ حجّة الإسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطانٌ يمنعه، فلْيمُت‏ يهوديّاً أو نصرانيّاً»[14].

هذه العبادات الثلاثة، على الرغم من نفعها الكبير في تقوية موقف الفرد المسلم أو المجتمع الإسلامي عموماً في المواجهة الناعمة التي يقودها العدو بعد فشله في جميع المواجهات العسكرية، إلّا أنّ مَن يأتي بها قد يُبتلى بمشكلة أساسية وجوهرية، وهي إمكانية تحييده لهذه العبادات، وكذلك إمكانية حرفه لمساراتها، فهو قد يصلّي وهو واقف على الحياد بين يزيد وبين الحسين(عليه السلام)، أو هو يصلّي ولكن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر؛ وهذا النوع من الصلاة هو الذي أشار إليه الإمام أبو عبد الله الصادق(عليه السلام) بقوله: «الصّلاة وكّل بها ملكٌ ليس له عملٌ غيرها، فإذا فرغ منها قبضها ثمّ صعد بها، فإن كانت ممّا يُقبل قُبلت، وإن كانت ممّا لا يُقبل قيل: ردّها على عبدي، فيأتي بها حتّى يضرب‏ بها وجهه، ثمّ يقول: أفٍّ لك، ما يزال لك عمل يُعييني‏»[15].

والكلام نفسه يكون بالنسبة إلى فريضة الصوم، فهناك بعض الصائمين ـ بحسب ما جاء في الروايات الشريفة ـ لا يحصلون على أيّ قيمة معنوية من صومهم، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلّا الجوع والظّمأ...»[16]؛ ومن هنا فكيف يمكن لهذا الصيام الفاقد للبُعد المعنوي أن يكون أداة صالحة في دحر العدو في حربه الناعمة ضدّ الدين الإسلامي؟!

أمّا فريضة الحجّ فالأمر فيها لا يختلف كثيراً عن الفريضتين المتقدّمتين، فقد يحجّ الشخص المسلم وهو واقف بين جبهتي الحقّ والباطل، بل قد يكون تحت خيمة الظالمين، ينصرهم بأقواله وأفعاله؛ ومن هنا ورد في الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه عندما رأى كثرة الناس في موسم الحجّ قال: «ما أكثر الضّجيج وأقلّ الحجيج»‏[17].

الأداة الرابعة: المنبر الحسيني

إنّ المنبر الحسيني بما يُمثّله من إعلاء لصوت الحقّ والحقيقة، صوت المظلومية التي تجلّت بكلّ أبعادها في ملحمة عاشوراء الخالدة، يُعدّ من أبرز الأسلحة التي يمتلكها الواقع الشيعي الإسلامي في شتّى أنواع المواجهة، وخصوصاً الناعمة منها، فإنّ حرارة هذه الواقعة المستعرة والمستمرّة في نفوس المسلمين المحبّين لآل البيت(عليهم السلام) ـ هذه الحرارة التي عبّر عنها الرسول(صلى الله عليه واله): «إنّ لقتل الحسين حرارةً في قلوب المـؤمنين لا تَبرُد أبداً»[18] ـ تبقى تشحذ النفوس، وتقوّي الهمم، وتدفعها نحو رفض الظلم والاستبداد بشتّى أنواعه. وهذه الأداة بالوقت الذي تعدّ العدّة لأيّ مواجهة عسكرية محتملة من قِبل أعداء الدين، فهي تسعى إلى رفع المستوى العقائدي والأخلاقي والثقافي والسلوكي لكلّ مَن يرتاد الأماكن التي تُقام فيها المنابر الحسينية؛ ممّا يجعله في حصانة تامّة من قبول كلّ ما يروّجه أعداء الدين تحت عناوين من قبيل: الحرّية، والمساواة، والانفتاح على الآخر، والتعددية الدينية، والتعايش السلمي، وغير ذلك من العناوين البرّاقة اللامعة التي تستهوي النفوس، وتجذبها نحو القبول بمضامينها السامّة التي تهدف إلى تقويض دعائم المجتمع الإسلامي وصولاً إلى السيطرة عليه ونهب ثرواته.

أمّا الحديث عن إمكانية وقوف روّاد المنابر الحسينية على الحياد بين جبهتي الحقّ والباطل، فنقول في معرضه:

أوّلاً: إنّ هذه الأداة ما دامت قد تأسّست من أجل بيان مظلومية الإمام الحسين(عليه السلام) وأهل بيته وصحبه (سلام الله عليهم أجمعين)، وأنّ هذه المظلومية تكون مولِّدة لحرارة مستعرة في نفوس المؤمنين لا تطفأ أبداً كما تقدّم آنفاً؛ فإنّ هذه الأداة قادرة دوماً على جذب المؤمنين نحو رفض الظلم بشتّى أنواعه، والوقوف إلى جانب الحقّ مهما كانت النتائج.

ثانياً: قد ورد في زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) في النصف من شعبان المروية عن الإمام الصادق(عليه السلام): «... أشهد أنّك قُتلِتَ ولم تَمُت، بل برجاء حياتك حَييَتْ قلوب شيعتك، وبضياء نورك اهتدى الطّالبون إليك، وأشهد أنّك نور الله الّذي لم يُطفأ ولا يُطفأ أبداً...»[19]، أي: إنّ الإمام(عليه السلام) على الرغم من مقتله يوم عاشوراء إلّا أنّه باقٍ تحيا به قلوب الشيعة، مما يُبقيهم على أهبّة الاستعداد لخوض المواجهات الناعمة التي يُشعلها الأعداء باستمرار. كما يذكر المقطع المتقدّم من الزيارة أنّه بسبب ضياء نور الحسين(عليه السلام) ـ الذي لا يُطفأ أبداً ـ اهتدى الطالبون إليه؛ وبالتالي فهم لا يضيعون ولا يتحيّدون ولا ينحرف مسارهم.

ثالثاً: عندما مرّوا بالسبايا يوم الحادي عشر على الجثث الطواهر، شاهدت الحوراء زينب(عليها السلام) أنّ ابن أخيها الإمام زين العابدين(عليه السلام) يجود بنفسه حزناً على ما جرى، كأنّها تكاد تخرج من بين أحشائه، فخاطبته وهي تواسيه وتصبّره كما ينقل هو(عليه السلام) بنفسه: «ما لي أراك تجودُ بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع ولا أهلع وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرعين بدمائهم، مرمّلين بالعراء، مسلّبين لا يكفّنون، ولا يوارون، ولا يعرّج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنّهم أهل بيتٍ من الدّيلم والخزر. فقالت: لا يجزعنّك ما ترى، فوالله، إنّ ذلك لعهد من رسول الله(صلى الله عليه واله) إلى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق أناسٍ من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السّماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة، فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطّفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشّهداء(عليه السلام)، لا يَدْرُس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور اللّيالي والأيّام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضّلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً، وأمره إلّا علوّاً...»[20].

إنّ ما نستفيده من هذه الرواية هو أنّ كلّ مساعي الظالمين من أجل طمس هذه النهضة المباركة سوف تذهب هباءً منثوراً؛ بفعل هذه المنابر التي تُجدّد وتقوّي هذا الحضور الدائم للحسين(عليه السلام) في نفوس عشّاقه والسائرين على دربه؛ وبالتالي فلا يُعقل أن يكون هؤلاء المحبّون والمريدون ـ مع دعمهم لاستمرار هذا العطاء الحسيني ـ واقفين على الحياد بين جبهتي الحقّ والباطل، أو أنّ شوقهم ومحبّتهم سوف يجرّهم نحو حرف مسارات هذه النهضة المباركة.

رابعاً: إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) في يوم عاشوراء عند اصطفاف الأعداء وتجحفلهم بتلك الأعداد الهائلة، ومع كلّ ما عاناه من عطش الأطفال وانتظار معسكره للقتل والسبي، نجده يقول لأصحابه: «أبشروا بالجنّة، فوالله، إنّا نمكث ما شاء الله بعد ما يجري علينا، ثمّ يُخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا، فينتقم من الظّالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم في السّلاسل والأغلال وأنواع العذاب. فقيل له: من قائمكم، يابن رسول الله؟ قال: السّابع من ولد ابني محمّد بن عليٍّ الباقر، وهو الحجّة ابن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليٍّ ابني، وهو الّذي يغيب مدّةً طويلةً، ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»[21]، فإنّ الإمام الحسين(عليه السلام) من خلال كلماته هذه أراد أن يُبيّن لأصحابه أنّ حقّانية دعوته سوف تستمرّ حتّى ظهور القائم(عجل الله فرجه الشريف)، الذي سوف ينتقم من الطغاة والظالمين بمرأى ومسمع منه(عليه السلام) ومنهم بعد رجعتهم إلى دار الدنيا.

وهنا نقول للقارئ العزيز: إنّ المنبر الحسيني الذي يسعى إلى نشر هذه الثقافة في الوسط الإسلامي والشيعي منه على وجه الخصوص، هل يمكن أن يقال: إنّه يصلح لأن يكون أداة محايدة بين الحقّ والباطل؟ الجواب: كلّا، فإنّ هذا المنبر سوف يبقى دوماً مشعلاً مضيئاً يهدي الناس إلى درب السلامة في الدين والدنيا.

وبناءً على ما تقدّم؛ نجد أنّ السلاطين والطغاة على طول التاريخ لم يحاربوا الحجّ أو صلاة الجماعة أو قراءة القرآن، بل أكثر من ذلك فهم كانوا يحجّون ويقيمون صلاة الجماعة ويقرأون القرآن. أمّا فيما يتعلّق بإقامة المجالس الحسينية فنجد المحاولات الحثيثة من قِبلهم إلى منعها ومطاردة مَن يقيمها ويحضر فيها ومعاقبته، ومن ذلك ما حصل في إيران إبّان حكم رضا شاه، وما حصل أيضاً في العراق أيّام الملكية، بحيث مُنعت المجالس الحسينية والتوشّح بالسواد في بعض الفترات من هذا الحكم، وأخيراً ما جرى في هذا البلد في زمن النظام البعثي الدكتاتوري البائد من محاربة كلّ مظاهر إقامة الشعائر الحسينية؛ وما ذلك كلّه إلّا لكون هؤلاء الحكّام يدركون أنّ هذه الأداة غير قابلة للتحييد ولا قابلة لحرف المسار.

إنّ المنبر الحسيني يبقى أداة لا تقبل التحييد والحرف على الرغم من امتلاكه مراتب مشكّكة في التأثير على الحاضرين والمستمعين، حيث يقول الإمام الصادق(عليه السلام) ـ في
مقام بيانه لهذه المراتب ـ مخاطباً أبا عُمارة المُنشد: «يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً فأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرةً فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً فأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين(عليه السلام) شعراً فبكى فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة»[22]؛ والسبب في ذلك يعود إلى امتلاك المنبر الحسيني لمجموعة من الخصوصيات، كانت سبباً في عدم تحييده وحرف مساره، وهذه الخصوصيّات بصورة مختصرة عبارة عن:

1ـ إنّ المنبر الحسيني يتعامل مع العاطفة والعقل معاً، ومن خلال تعامله مع القلب والعاطفة فإنّه يُؤمِّن لروّاده الوقوف بحصانة وقوّة كبيرة في قاطع العمليات أمام آليّات ومعدّات العدو في الحرب الناعمة.

2ـ إنّ المنبر الحسيني يخاطب الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والمثقّف وغير المثقّف على حدّ سواء، وأنّ جميع الفئات العمرية والمستويات الثقافية التي تحضر إلى أماكن إقامة المنابر ـ وبحسب المقدرة المعرفية لكلّ منها ـ تتأثّر بالخطاب العقلي أو العلمي أو العاطفي الذي يُطرح فيها.

3ـ إنّ المنبر الحسيني يخاطب المؤمن والفاسق على حدّ سواء؛ وذلك لما يمتلكه من خطاب عاطفي يجذب الآخرين إلى الحضور والاستماع، هذا الخطاب الذي يؤمّل منه أن يُصحِّح السلوكيّات المنحرفة للأفراد. ولعلّه من هنا؛ ذكر بعض العلماء هذه العبارة التي أخذت شهرة واسعة على ألسنة أرباب المنابر، وهي: «النبي والأئمّة(عليهم السلام) كلّهم أبواب الجنان، لكنّ باب الحسين مسلكه أوسع، وكلّهم سفن النّجاة، ولكنّ سفينة الحسين مجراها على اللجج الغامرة أسرع، ومرساها على السواحل المنجية أيسر، وكلّهم مصابيح الهدى، لكنّ محال الاستضاءة بنور الحسين أوسع دائرة، وكلّهم الكهف الحصين، لكنّ منهاج كهف الحسين أسمح وأسهل»[23].

4ـ إنّ المنبر الحسيني يزرع في نفوس مستمعيه جميع القيم الأخلاقية، محايدة كانت أو غير محايدة، فهو يزرع في نفوسهم الصدق والشجاعة والكرم والعطف والحنان، قيم يمكن أن تصدر من الشخص الجيّد وغير الجيّد، وهو يزرع في نفوسهم أيضاً مجموعة من القيم التي لا تصدر إلّا من السائر على الطريق الحقّ، وهي من قبيل: العزّة والكرامة والشهادة ولقاء الله. وبهذا يكون المنبر الحسيني قد شكّل منظومة أخلاقية متكاملة، فهو بزرعه للقيم ـ من القسم الثاني ـ في نفوس الناس، قد ضمن السلامة العقائدية والشرعية لمن يتلبّس بالقيم من القسم الأوّل. كما أنّه ضمن الصبر والثبات في أصعب الظروف والمواقف، وهذا ما رأيناه بأُمّ أعيننا، فالمؤمنون كانوا في سجون الطغاة وهم تحت سياط التعذيب يصيحون بأعلى أصواتهم هيهات منّا الذلّة، لا يوم كيومك يا أبا عبد الله.

5ـ إنّ المنبر الحسيني يحمل في أُطروحاته فكراً ومشروعاً، يهدف إلى تصحيح عقائد الفرد المسلم وسلوكيّاته، وليس الغرض منه مجرّد تحريك العواطف لفترة قصيرة. فالمنبر الحسيني عندما يتحدّث عن اليتيم لا يهدف إلى تهييج عواطف الناس والبكاء على اليتامى فقط، وإنّما هو بصدد طرح مشروع ديني يعالج هذه القضية، ويرفع عن اليتامى ما يعانونه جرّاء فَقْد مَن كان يعيلهم ويعطف عليهم. والأمر نفسه في العديد من المفردات الدينية الأُخرى التي هي من قبيل: الحكم، العدالة، صفات الحاكم، المجتمع، الثورة، البيعة، المرأة، وغير ذلك.

6ـ الامتداد الزماني والمكاني للمنبر الحسيني، أي: إنّه ليس فكراً موسمياً أو محدّداً بجغرافية معيّنة.

7ـ لا يوجد منبر حسيني مؤثّر وآخر غير مؤثّر، بل هو فاعل ومؤثّر دائماً. نعم، مستويات التأثير مختلفة (مشكّكة)، وقد تقدّم منّا ذكر الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) التي خاطب فيها أبا عُمارة المُنشد، وسلّط الضوء فيها على مراتب تأثير المنبر الحسيني.

نعم، إنّ أهل البيت(عليهم السلام) على الرغم من ذكرهم لهذه المراتب في مجال البُعد العاطفي إلّا أنّهم يُشدِّدون على عدم تسطيح القضية الحسينية، وفي المقام أذكر للقارئ العزيز روايتين، إحداهما عن الإمام الباقر(عليه السلام) يذكر فيها كلاماً للإمام الحسين(عليه السلام) مخاطباً عمّته أُمّ هاني التي كانت متطيّرة من شخوصه(عليه السلام) وعياله عن المدينة، حيث تقول الرواية: «لمّا همّ الحسين(عليه السلام) بالشخوص عن المدينة، أقبلت نساء بني عبد المطّلب فاجتمعن للنياحة حتّى مشى فيهنّ الحسين(عليه السلام)، فقال: أُنْشِدُكُنَّ اللهَ أَنْ تُبدينَ هذَا الأمرَ مَعْصِيةً لِله وَلِرَسُولِهِ! فقالت له نساء بني عبد المطّلب: فلِمَن نستبقي هذه النياحة والبكاء؟! ثمّ إنّ نساء بني هاشم أقبلن إلى أُمّ هاني عمّة الحسين(عليه السلام) وقلن لها: يا أُمّ هاني، أنت جالسة والحسين(عليه السلام) مع عياله عازم على الخروج؟! فأقبلت أُمّ هاني، فلمّا رآها الحسين(عليه السلام) قال: أَما هذِهِ عَمَّتي أُمُّ هاني؟ قيل: نعم. فقال: يا عَمّة. مَا الَّذي جاء بِكِ وَأَنْتِ عَلى هذِهِ الْحالَةِ؟ فقالت: وكيف لا آتي، وقد بلغني أنّ كفيل الأرامل ذاهب عنّي... ثمّ قالت: سيّدي، وأنا متطيّرة عليك من هذا المسير لهاتف سمعت البارحة يقول:

وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم		أذلّ رقاباً من قريش فذلّت
حبيب رسول الله لم يكُ فاحشاً		أبانت مصيبته الأنوف وجلّت

فقال لها الحسين(عليه السلام): يا عَمّة. لا تَقُولي مِنْ قُرَيْش، وَلكِنْ قُولي أَذَلَّ رِقابَ المُسلِمينَ فَذَلَّتِ...»[24].

ثمّ إنّ نفس المعنى ورد في رواية أُخرى عن فاطمة بنت الحسين(عليه السلام)، حيث تتحدّث الرواية عن أنّ الشاعر أبا الرمح دخل على هذه السيّدة الجليلة فأنشدها مرثية في الحسين(عليه السلام) [قد جاء فيها البيت التالي]:

«وإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم

أذلّ رقاباً من قريش فذلّت

فقالت فاطمة: يا أبا رمح، أهكذا تقول؟! قال: فكيف أقول جعلني الله فداك، قالت: قل: أذلّ رقاب المسلمين فذلّت. فقال: لا أُنشدها بعد اليوم إلّا هكذا»[25].

إنّ حصر القضية في قبيلة قريش قد يوهم البعض بأنّ ما جرى في عاشوراء هو نتيجة صراع أُسري ينحصر في قبيلة قريش تحديداً، وهذا التوهّم في حال ترسّخه في النفوس سوف يفضي ـ بلا أدنى شكّ ـ إلى إضعاف الدور الذي قام به الإمام الحسين(عليه السلام)، والتضحيات الجسيمة التي قدّمها بمعيّة أهل بيته وصحبه في هذه النهضة المعطاء؛ ولهذا نجده(عليه السلام) وابنته السيّدة فاطمة(عليها السلام) ينبريان بسرعة إلى تصحيح المقولة المذكورة في الرواية، فهما(عليهما السلام) بتدخلّهما السريع أرادا إبعاد نهضة عاشوراء عن حالة السطحية والتحجيم في دائرة ضيّقة، وجعلها ذات دلالات عميقة، وتوجيه المنبر الحسيني بالاتّجاه الصحيح.

وعلى نفس المنوال سار أتباع أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، حيث يذكر الشيخ الطوسي في أماليه هذه الحادثة التي جرت بين السيّد الحميري وبين أحد الشعراء في زمانه، حيث اجتمع السيّد ابن محمّد الحميري وجعفر بن عفّان الطائي، «فقال له السيّد: ويحك، أتقول في آل محمّد(عليهم السلام) شرّاً؟!

ما بال بيتكم يخرب سقفه

وثيابكم من أرذل الأثواب

فقال جعفر: فما أنكرت من ذلك؟ فقال له السيّد: إذا لم تحسن المدح فاسكت، أيوصف آل محمّد بمثل هذا؟! ولكنّي أعذرك، هذا طبعك وعلمك ومنتهاك، وقد قلت أمحو عنهم عار مدحك

أقسم بالله وآلائه		والمرء عما قال مسؤول
إنّ علي بن أبي طالب		على التقي والبرّ مجبول
وإنّه كان الإمام الذي		له على الأُمّة تفضيل
يقول بالحقّ ويُعنى به		ولا تلهيه الأباطيل
كان إذا الحرب مرتها القنا		وأحجمت عنها البهاليل
يمشي إلى القرن وفي كفّه		أبيض ماضي الحدّ مصقول

[إلى آخر الأبيات]... فقبّل جعفر رأسه وقال: أنت والله الرأس يا أبا هاشم، ونحن الأذناب»[26].

إشكال وجوابه

الإشكال: إنّ مسألة عدم إمكانية تحييد المنبر الحسيني بالمعنى المتقدّم هي خلاف المشاهد في الواقع الشيعي، حيث نجد أنّ الكثير من الدعوات والاتّجاهات تتّخذ من المنبر الحسيني وسيلة للوصول الى بعض غاياتها وأهدافها الحزبية أو الفئوية، أضف إلى ذلك فإنّنا نجد أنّ هناك بعض مَن يحضرون إلى المجالس الحسينية، وهم في الوقت نفسه غير ملتزمين من الناحية الشرعية، ولا يسيرون على وفق مبادئ النهضة الحسينية.

الجواب: نحن في حديثنا المتقدّم قد قصدنا من عدم إمكانية تحييد المنبر الحسيني هو عدم إمكانية النجاح في هذه المسألة، لا مجرّد المحاولة التي تؤول بمرور الزمن إلى الفشل والافتضاح.

نعم، يوجد كثير من الدعوات والجهات التي تحاول ركوب الموجة، وجذب الجماهير نحوها من خلال تبنّيها شعارات نهضة الطفّ الخالدة، لكنّ السؤال: ما هو مدى نجاح هذه التيّارات واستمرارها في خداع الناس؟

الجواب: فإنّ هذه التيّارات من المحتّم أنّها سوف تصطدم مبادؤها ـ بعد فترة زمنية ـ مع مبادئ الإمام الحسين(عليه السلام)؛ ممّا يجعل الناس يكتشفون أمرها ويمتنعون عن الحضور إلى المجالس التي تُقيمها، وبالتالي سقوطها من أعين الناس، وعدم قدرتها على تحييد المنابر الحسينية. وهذا الأمر يختلف تماماً مع الصلاة والصوم والحجّ، فإنّ هذه الفرائض تمتلك جنّبتين هما: الإجزاء والقبول، والناس عادة ما يبحثون عن مجرّد الإجزاء في العمل، ولا ينظرون إلى درجة قبول العمل والثمار المترتّبة عليه.

أمّا فيما يتعلّق بانحراف بعض مَن يحضر إلى المجالس الحسينية عن الجادّة الشرعية، فنقول: إنّ هذه الانحرافات لا تؤثّر في صلب مبادئ النهضة الحسينية التي يكون المنبر بصدد إبرازها للناس.

وتوضيح ذلك: إنّ غرض المنبر الحسيني لمّا كان عبارة عن رفع المستوى الثقافي والديني لدى الإنسان، من خلال إبرازه للأهداف النهضوية التغييرية التي قادها أبو عبد الله الحسين(عليه السلام) ضدّ مَن أراد محو معالم الدين الإسلامي، وإرجاع الناس إلى الجاهلية العمياء، فإنّه بالتالي يسعى إلى تصحيح مسار حركة المسلم عموماً والشيعي على وجه الخصوص من الناحية العقائدية والسلوكية؛ وعليه يكون حضور هؤلاء الناس إلى المجالس الحسينية بحدّ ذاته غنيمة وثمرة من ثمرات نهضة عاشوراء المباركة؛ وذلك لأنّها قد تكون هي السبب الرئيس وراء صلاحهم وهدايتهم. والحمد لله ربِّ العالمين.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1. الأمالي، محمّد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية ـ مؤسّسة البعثة، دار الثقافة، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1414هـ.

2. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، منشورات مدرسة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1421هـ.

3. بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي (ت1110هـ)، تحقيق: جمع من المحقّقين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.

4. بصائر الدرجات، محمّد بن حسن الصفّار (ت290هـ)، تحقيق: محسن بن عبّاس علي كوجه باغي، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، إيران ـ قم المقدّسة، الطبعة الثانية، 1404هـ.

5. تفسير الكاشف، محمّد جواد مغنية (ت1400هـ)، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الأُولى، 1424هـ.

6. الحرب الناعمة.. استراتيجية أمريكية جديدة للنفوذ، باسم عبد عون الحسناوي، http://www.alhayat.com/article/827771.

7. الخصائص الحسينية، جعفر التستري (ت1303هـ)، انتشارات الشريف الرضي، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1416هـ.

8. الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني (ت329هـ)، تحقيق: علي أكبر غفّاري، ومحمّد آخوندي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الرابعة، 1407هـ.

9. كامل الزيارات، محمّد بن جعفر بن قولويه (ت367هـ)، تحقيق: عبد الحسين الأميني، دار الرضوية، النجف، الطبعة الأُولى، 1397هـ.

10.مثير الأحزان، جعفر بن محمّد المعروف بابن نما الحلّي (ت 841هـ)، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف)، إيران ـ قم المقدّسة، الطبعة الثالثة، 1406هـ.

11.المحاسن، أحمد بن محمّد البرقي (ت274هـ أو 280هـ)، تحقيق: جلال الدين المحدّث، دار الكتب الإسلامية، قم المقدّسة، الطبعة الثانية، 1371هـ.

12.مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، حسين بن محمّد تقي النوري (ت1320هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1408هـ.

13.مفاتيح الجنان، عبّاس القمي (ت1359هـ)، تعريب: محمّد رضا النوري النجفي، مكتبة العزيزي، قم المقدّسة، الطبعة الثالثة، 2006م.

14.موسوعة كلمات الإمام الحسين(عليه السلام)، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم(عليه السلام)، انتشارات أُسوة، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1425هـ.

15.الميزان في تفسير القرآن، محمّد حسين الطباطبائي (ت1402هـ)، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم المقدّسة، الطبعة الخامسة، 1417هـ.

16.نهج البلاغة، محمّد بن حسين الشريف الرضي (ت406هـ)، تحقيق: صبحي الصالح، الهجرة، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1414هـ.

[1] المائدة: آية27.

[2] البقرة: آية213.

[3]اُنظر: الحسناوي، باسم عبد عون، الحرب الناعمة..استراتيجية أمريكية جديدة للنفوذ:

http://www.alhayat.com/article/827771/.

[4] الأنفال: آية60.

[5] فاطر: آية6.

[6] الشريف الرضي، محمد بن الحسين، نهج البلاغة، (تحقيق صبحي الصالح):ص452.

[7] العنكبوت: آية45.

[8] هذا ما وجدناه في المصدر إلّا أنّ الأصح هو: يستشنعها.

[9] الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج16، ص133.

[10] البقرة: آية183.

[11] اُنظر: مغنية، محمّد جواد، تفسير الكاشف: ج1، ص282.

[12] آل عمران: آية97.

[13] مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج2، ص610.

[14] الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص268.

[15] البرقي، أحمد بن محمّد، المحاسن: ج1، ص82.

[16] الشريف الرضي، محمد بن الحسين، نهج البلاغة، (تحقيق صبحي الصالح):ص495.

[17] الصفّار، محمّد بن حسن، بصائر الدرجات: ص358.

[18] النوري، حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ج10، ص318.

[19] القمّي، عباس، مفاتيح الجنان: ص649.

[20] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج28، ص57.

[21] لجنة الحديث في معهد باقر العلوم(عليه السلام)، موسوعة كلمات الإمام الحسين(عليه السلام):ص499.

[22] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص105.

[23] التستري، جعفر، الخصائص الحسينية: ص10.

[24] لجنة الحديث في معهد باقر العلوم(عليه السلام)، موسوعة كلمات الإمام الحسين(عليه السلام):ص360.

[25] ابن نما الحلّي، جعفر بن محمّد، مثير الأحزان: ص111.

[26] الطوسي، محمّد بن الحسن، الأمالي: ص198- 199.

دور المنبر الحسيني في مواجهة الحرب الناعمة دراسة تحليلية