مقدّمة

إنّ القرآن الكريم هو الدستور الإلهي الذي يحفظ للمرء كرامته على هذه الأرض، وقد جمع كلّ فنون الآداب والأخلاق، وجعلها نظاماً قويماً يسير على وفقه الإنسان.

وقد أوكل الله(عز وجل) مهام تبليغه إلى النبي الأكرم(صلى الله عليه واله)، ومن بعده العترة الطاهرة التي لاقت الأمرّين في سبيل تطبيقه، وأبرز مصداق لذلك واقعة الطفّ الأليمة التي بلغت فيها الاستماتة قمّتها؛ من أجل تطبيق أحكام القرآن الكريم، والسنّة النبوية المطهّرة، والعمل بهما.

ومن أعظم الأمثلة الشـاهدة على ذلك شخوص أُسارى الطفّ في رحلة دامت قرابة شهرين، ففي قمّة التعنيف الموجّه ضدّهم بعد استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام)، سطّروا أروع المواقف في الالتزام بتعاليم القرآن الكريم، وبرهنوا على صدق إيمانهم، وحبّهم الخالص لله تعالى؛ ولذا كان عنوان البحث موسوماً بـ (السلوكيات القرآنية في واقعة الطف.. سلوكيات الأُسارى أُنموذجاً).

وتوزّعت خطّة البحث بعد المقدّمة على تمهيد، ومبحثين، وخاتمة، تضمّن التمهيد توضيحاً للسلوك الإنساني، وعلاقته بالقرآن الكريم، كما تناول المبحث الأوّل سلوكيات أُسارى الطفّ التي تتعلّق بالجانب العبادي، أمّا المبحث الثاني فتناول سلوكيات الأُسارى المرتبطة بالجانب الأخلاقي، وفي الخاتمة تناولت الباحثة أهمّ النقاط التي توصّلت إليها في هذه الدراسة.

التمهيد: السلوك الإنساني في القرآن الكريم

حظي السلوك الإنساني باهتمام كبير لدى الدارسين في مختلف العلوم؛ لأنّه يمثّل الأساس الذي بُنيت عليه الفلسفات والمبادئ الإنسانية بصورة عامّة، فما هو السلوك؟ وما مدى عناية القرآن الكريم به؟

عرّف السلوك بأنّه: « سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهاته، يقال: فلان حسن السلوك، أو سيّئ السلوك. والسلوك في علم النفس: الاستجابة الكلّية التي يبديها كائن حيّ إزاء أيّ موقف يواجهه»[1].

ثمّ إنّ السلوك يحدث تارةً بمحض إرادة الإنسان واختياره، وأُخرى يحدث بصورة لا إرادية، ويمكن أن يتأثّر بعوامل البيئة والمحيط الذي يعيش فيه الإنسان[2].

وفي القرآن الكريم استُعمل الفعل (سلك) بمعنى (دخل)، كما في قوله تعالى: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)[3]، أي: أدخلناه[4]، «والسلوك الإدخال في الطريق والإمرار»[5]، وقوله تعالى: «( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ)[6]، أي: فادخلي سبل ربّك التي جعلها الله لك»[7].

وبما أنّ السلوك متغيّر أصبح من الضروري أن يؤسّس له بالشكل الذي يخدم الناس عامّة، لا مصلحة فرد بعينه، وما كان الله (سبحانه وتعالى) ليخلف الإنسان على أرضه ويأتمنه على جميع مخلوقاته دون أن ينظِّم علاقاته وسلوكياته مع ربّه، ومع نفسه، ومع الآخرين من أبناء جنسه.

من هنا؛ فقد اشتمل القرآن الكريم على نظام سلوكي فريد، قائم على التوازن بين الجوانب الروحية (العبادات)، والجوانب المادّية الحسّية (المعاملات)، وما تخلّلها من مبادئ إنسانية أساسية وقيم عليا، تضافرت مع بعضها من أجل بناء شخصية الإنسان على أُسس من الثبات والمحافظة على القيم والتعاليم السماوية، والتخلّص من السلوكيات الخاطئة، والعادات الموروثة من الآباء والأجداد، والمخالفة للفطرة الإنسانية السليمة، كما جاء في خطاب جعفر بن أبي طالب للنجاشي، مبيّناً ما أقرّه الإسلام من السلوكيات الحسنة، ونبذ كلّ العادات السيئة؛ إذ قال له: «نعم، أيّها الملك، خالفناهم. بعث الله فينا نبياً أمرنا بخلع الأنداد، وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرّم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقّها، والزنا والربا والميتة والدم، وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي...»[8].

وخلاصة المسألة: أنّ تعاليم القرآن الكريم منظومة متكاملة من العبادات والمعاملات، والقيم الأخلاقية التي تُكسب الفرد القدرة على تشخيص سُبل التعامل الصحيحة في علاقاته الأُسرية والاجتماعية والدولية.

المبحث الأوّل: السلوكيات القرآنية لأسارى الطف على المستوى العبادي

يُعدّ مشهد السبي الكربلائي بعد ظهيرة العاشر من المحرّم، وانطلاق رحلة الأسرى والتنكيل بهم قرابة شهرين، فاجعة مأساوية يتيمة في تاريخ الإنسانية، فعند مغيب شمس ذلك اليوم رُوِّعت النساء والأطفال، وأُدخل الرعب في قلوبهم، ونُهبت وسُلبت ثمّ أُحرقت خيام العائلة الفاطمية، وفي وحشة الليل حيث امتلأت ساحة الغاضرية بالجثث الطاهرة، عزم الأعداء على شدّ الرحال وسوق النساء، ولا رجل معهنّ سوى الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وكان مريضاً.

وللباحثة أن تتساءل عمّا كان عليه السلوك العبادي والأخلاقي لأُسارى آل محمد(صلى الله عليه واله) الذي تجسّد في آيات القرآن الكريم، وذلك في ظل تلك الأجواء المأساوية والأحوال القاهرة في واقعة الطفّ الغابرة، تلك الأجواء التي ما زالت وستبقى حاضرة في الأذهان.

وسنتطرّق في هذا المبحث إلى العبادات الأبرز التي التزم بها أُسارى آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وهي:

أوّلاً: المحافظة على الصلاة

حثّت آيات الله المباركة على أداء الصلاة والمحافظة عليها، نحو قوله
تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ)[9]، وقوله تعالى: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[10]، وكأنّ في الآية وصفاً دقيقاً لما آل إليه الركب الحسيني وبقيّة الأُسارى، فقد خلّد الله تعالى ذكرهم، وأسكن في قلوب الناس محبّتهم إلى يوم القيامة.

ومن أمثلة المحافظة على الصلاة ما رُوي عن فاطمة الصغرى(عليها السلام)، أنّها قالت: «وأمّا عمّتي زينب، فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة (أي: العاشرة من المحرّم) في محرابها تستغيث إلى ربّها، فما هدأت لنا عين، ولا سكنت لنا رنّة»[11]، ففي مثل هذه اللحظات الصعبة تخلد سيّدة الطفّ إلى الصلاة لتناجي ربّها، الأمر الذي يدلّ على أهمية الصلاة والمحافظة عليها، حتّى في أحلك الظروف وأشدّها.

كما نشاهدها(عليها السلام) تعتصم بربّها في رحلة السبي التي أمسى فيها الحال أسوأ؛ إذ لا ناصر ولا مُعين للنسوة والأطفال سوى الله تعالى، فكانت(عليها السلام) الكنف الحاني الذي تستمد منه بقيّة الأُسارى الثبات على الإيمان والقيم في ظلّ العناء والفزع والجوع والعطش، وقد رُوي عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ عمّتي زينب كانت تؤدّي صلواتها من قیام الفرائض والنوافل عند سیر القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تُصلّي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك؟ فقالت: أُصلّي من جلوس لشدّة الجوع والضعف منذ ثلاث لیال»[12].

وتجد الباحثة في هذا القول بُعداً عن حقيقة عبادة السيّدة زينب(عليها السلام)؛ فالنافلة والواجبة سيّان عندها في هيئتها، وهي تقف بين يدي خالقها؛ لأنّ مَن يعرف الله حقّ المعرفة لا تطاوعه نفسه إلّا القيام في حضرته هيبة وإجلالاً لعظمته؛ كما أنّ صلاتها(عليها السلام) قياماً في هذا الظرف العصيب يدلّ على صلابة إيمانها وقدرتها على مواجهة جميع المصاعب والتحدّيات.

ثانياً: الاستشهاد بآيات القرآن الكريم

قد جعل الله سبحانه وتعالى في هذا القرآن تدبير كلّ شيء وحفظه من أيدي العابثين، منذُ نزوله إلى قيام الساعة، وقد أمر نبيّه بأن يتلوه على أُمّته، فقال(عز وجل): (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)[13]، وحثّ تعالى المؤمنين على تلاوته، ورغّبهم فيها، وأثابهم عليها، كما أوصانا النبي الكريم(صلى الله عليه واله) وأهل بيته(عليهم السلام) بقراءة القرآن والعمل بمضامينه في روايات كثيرة لا يسع المقام لذكرها.

وأمّا أُسارى الطفّ الخالد الذين نشأوا وترعرعوا في أحضان خاتم الأنبياء(صلى الله عليه واله) وسيّد الأوصياء(عليه السلام) والبضعة الزهراء(عليها السلام)، وهم القرآن الناطق، فقد غدوا في كربلاء والكوفة والشام الأُنموذج الحيّ الذي تجسّدت في سلوكياته كلّ معاني القرآن الكريم.

ويمكن الباحثة أن تستدل على تلك المعاني بما ورد من خطب أهل بيت الحسين(عليهم السلام)، التي أُلقيت في مسيرة السبي، والتي كانت مفعمة بروح القرآن الكريم وكلماته، ومنها ما يلي:

أـ خطبهم(عليهم السلام) في الكوفة

1ـ الإمام زين العابدين(عليه السلام): فقد جاء في خطبة له(عليه السلام): «... رحم الله امرأ قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول الله(صلى الله عليه واله) أُسوة حسنة»[14]، وهو إشارة إلى قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[15]، فقد أراد(عليه السلام) أن يبيّن للناس أنّهم(عليهم السلام) الأُسوة والقدوة، وعلى الآخرين أن يقتدوا بهم ويحذوا حذوهم، فهم المثل الأعلى في تطبيق الأوامر الإلهية.

وفي حـوار له(عليه السلام) مع ابن زيـاد جـاء فيه: «... ثمّ التفت ابن زيـاد إلى علي بن الحسين(عليهما السلام)، فقال مَن هذا؟ فقيل: علي بن الحسين. فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين(عليه السلام)؟! فقال علي(عليه السلام): قد كان لي أخ يُقال له علي بن الحسين قتله الناس. فقال: بل الله قتله. فقال علي(عليه السلام): (الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)[16]»[17]، فقد استشهد(عليه السلام) على كلامه بقوله تعالى: (الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[18].

2ـ السيّدة زينب(عليها السلام): فمن كلام لها مع ابن زياد عندما سألها شامتاً: «كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كُتب عليهم القتال، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاج وتخاصم، فاُنظر لـمَن يكون الفلج يؤمئذٍ، هبلتك أُمّك يا بن مرجانة»[19]، وهو يحيلنا إلى قوله تعالى: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَالله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[20].

وقد اشتملت خطبتها(عليها السلام) التي ألقتها على أهل الكوفة على نصوص ومضامين قرآنية، ممّا يؤكّد العلاقة التي تربط ذرّية رسول الله(صلى الله عليه واله) بالقرآن الكريم، ومن ذلك قولها(عليها السلام): «إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّةٍ أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم»[21] في إشارة إلى قوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ...)[22]، وهو تمثيل لحال أهل الكوفة «بمرأة تغزل الغزل بقوّة، ثمّ تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه وغزلته من بعد قوّةٍ، وتجعله أنكاثاً، لا فتل فيه ولا إبرام»[23].

وقالت(عليها السلام) في الخطبة ذاتها: «... ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون»[24] مشيرة إلى قوله تعالى: (....لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ)[25]، قال الطبرسي: «وهو العذاب الذي يجزون في الدنيا، فيوقنوا بقوّة معذّبهم، وبقدرته عليهم، ويظهر ذلك لـمَن رأى حالهم. (ولعذاب الآخرة أخزى) وأفضح من ذلك، (وهم لا ينصرون)، أي: لا يدفع عنهم العذاب الذي ينزل بهم»[26].

3ـ السيّدة فاطمة الصغرى(عليها السلام): قالت في خطبة لها: «... فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها، إنّ ذلك على الله يسير؛ لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحبّ كلّ مختال فخور»[27]، وفيه تضمين لقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)»[28]، ومعنى الآية: «أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل حدوثها وتحققها؛ لئلّا تحزنوا بما فاتكم من النعم، ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها؛ لأنّ الإنسان إذا أيقن أنّ الذي أصابه مقدر كائن لا محالة لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أوتيه من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمّى لم يعظم حزنه إذا فاته، ولا فرحه إذا أُوتيه»[29].

كما أنّ الآية المباركة تتضمّن أربعة أشياء، هي: حسن الخلق، واستحقار الدنيا، وتعظيم الآخرة، والافتخار بالله دون أسباب الدنيا[30].

وقالت(عليها السلام) أيضاً: «فيسحتكم بعذاب، ويذيق بعضكم بأس بعض... والله قست قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، وختم على سمعكم وبصركم، وسوّل لكم الشيطان، وأملى لكم، وجعل على بصركم غشاوة»[31]، ففي هذه الفقرة تضمّن(عليها السلام) خطابها آيات قرآنية تُشير مضامينها إلى افتراء أهل الباطل، ودفاعهم عن باطلهم، وإلى ما انتاب الناس من غفلة واجتماع على أمر لا يعلمون عواقبه، يتّبعون كلّ ناعق؛ فهم كالأعمى والأصم، فقولها: (يسحتكم بعذاب) إشارة إلى قوله تعالى: (قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى الله كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)[32]، «وقوله: (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) تفريع على النهي، أي: لا تشركوا بالله حتّى يستأصلكم ويهلككم بعذاب بسبب شرككم، وتنكير العذاب للدلالة على شدّته وعظمته»[33].

وقولها(عليها السلام): «وختم على سمعكم وبصركم... وجعل على بصركم غشاوة» إشارة إلى قوله تعالى: (خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ)[34]، «والمعنى: أنّ الكفر تمكّن من قلوبهم، فصارت كالمختوم عليها، وصاروا بمنزلة مَن لا يفهم ولا يبصر ولا يسمع... إنّ الله وصف مَن ذمّه بهذا الكلام، بأنّ قلبه ضاق عن النظر والاستدلال، فلم ينشرح له»[35].

4ـ السيّدة أُمّ كلثوم(عليها السلام): فمما كان من كلامها على الصبغة القرآنية قولها(عليها السلام): «... أَلا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون»[36]، وهو مشتمل على الوسم الذي تضمّنه كتاب الله تعالى للتمييز بين الحزبين، والذي جاء في عدّة آيات، منها قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ)[37]، وقوله تعالى: (رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[38].
وقوله تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[39].

ويبدو أنّ السيّدة أُمّ كلثوم كانت دقيقة في وصف معسكري النزال بآيات صريحة تكشف عن الصراع الأزلي بين قوى الخير (حزب الله)، وقوى الشرّ والظلام (حزب الشيطان).

ب ـ خطبهم(عليهم السلام) في الشام

ومن أجل التدليل على السلوك القرآني لذرية رسـول الله(صلى الله عليه واله)، ستورد الباحثة رواية تستدلّ من خلالها على الفهم العميق والارتباط الشديد لأُسارى الطفّ بالقرآن الكريم، وما اشتمل عليه من شرائع وأحكام ارتسمت صورها في رحلة السبي الاستثنائية:

«قال الراوي: وجاء شيخ ودنا من نساء الحسين(عليه السلام) وعياله وهم في ذلك الموضع، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح البلاد عن رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم. فقال له علي بن الحسين(عليه السلام): يا شيخ، هل قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل عرفت هذه الآية: (لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[40]؟ قال الشيخ: نعم، قد قرأت ذلك. فقال علي(عليه السلام) له: فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت في بني إسرائيل (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)[41]؟ فقال الشيخ: قد قرأت. فقال: علي بن الحسين: فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[42]؟ قال: نعم. فقال له علي(عليه السلام): فنحن القربى يا شيخ، فهل قرأت هذه الآية:(إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[43]؟ قال الشيخ: قد قرأت ذلك. فقال علي(عليه السلام): فنحن أهل البيت الذي خصصنا الله بآية الطهارة يا شيخ. قال الراوي: فبقى الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، وقال: بالله إنّكم هم؟ فقال: علي بن الحسين(عليهما السلام): تالله، إنّا لنحن هم من غير شك، وحق جدّنا رسول الله(صلى الله عليه واله). فبكى الشيخ ورمى عمامته، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهمّ إنّا نبرأ إليك من عدو آل محمد(صلى الله عليه واله) من جنّ وإنس. ثمّ قال: هل لي توبة؟ فقال له: نعم...»[44].

وأمّا خطبة الـسيّدة زينـب(عليها السلام) التي ألقتها في مجلس يزيد، والتي تبلورت فيها آيات الله تعالى، فقد جاء فيها: «ثمّ كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن»[45]، وهو نصّ الآية (10) من سورة الروم، كما ضمّنت خطبتها نصّ الآية (178) من سورة آل عمران، فقالت: «ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم، إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مهينٌ»[46]، وهنا تتوعّد(عليها السلام) يزيد بزوال ملكه، فلا يغتر بهذا الإمهال، فما هو إلّا زيادة في آثامه لمعاندته وصلافته، وتجرّئه على ذرّية الصادق الأمين(صلى الله عليه واله وسلم)، ومَن يفعل هذه الجرائم فلا شكّ في أنّ عاقبته جهنّم مهما طال بقاؤه في الدنيا، يقول مكارم الشيرازي: «ولقد استدلّت بطلة الإسلام زينب الكبرى بنت الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بهذه الآية في خطابها المدوّي والساخن أمام طاغية الشام (يزيد بن معاوية)، الذي كان من أظهر مصاديق العصاة والمجرمين، الذين قطعوا جميع جسور العودة على أنفسهم بما ارتكبوه من فظيع الفعال، وما اقترفوه من شنيع الأعمال»[47].

وقابلت(عليها السلام) بين هذه العاقبة السيئة ليزيد وجنده والعاقبة الحسنة والحياة السرمدية للحسين(عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، مستشهدة بقوله تعالى: «(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[48]»[49]. ومن صور المقابلة بين المعسكرين قولها(عليها السلام) ليزيد: «أَلا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء»[50].

وأمّا قولها(عليها السلام) ليزيد: «حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك وما ربّك بظلام للعبيد»[51]، فهو إشارة إلى قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[52]، وأنّ القرآن الكريم حجّة على يزيد بأنّه سيلقى جزاء ما اقترفت يداه.

وفي قولها(عليها السلام): «أَلا لعنة الله على الظالمين»[53]، إشارة إلى قوله تعالى: (...فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ)[54]، ومعنى اللعن الإبعاد من رحمة الله[55].

ثمّ ختمت(عليها السلام) خطبتها بقولها: «وحسبنا الله ونعم الوكيل»[56]، وهو مقتبس من قوله تعالى: (...فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[57]، «أي: كافينا الله. وأصل الحسب من الحساب؛ لأنّ الكفاية بحساب الحاجة وهذا اكتفاء بالله بحسب الإيمان، دون الأسباب الخارجية الجارية في السنة الإلهية»[58].

من جميع ما تقدّم تستنتج الباحثة سرّ تلك القوّة الإيمانية، التي مكّنت الأُسارى من احتمال تلك المحن، والتصدّي لها، والتجلّد أمام الأعداء، والإصرار على إكمال الدور الثوري، والعمل على إبطال شرعية حكومة يزيد في عقر مملكته وأمام حاشيته.

ثالثاً: الدعاء

حثّت الآيات الكريمة المؤمنين على التوجّه إلى الله تعالى بالدعاء فيما يبتغون من أُمور دينهم ودنياهم، وحذّرت من تركه، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)[59]، والمقصود من العبادة في قوله تعالى: (عبادتي) هو الدعاء[60].

وكان الدعاء سلاح الأُسارى في مواجهة الأعداء، والقيام بتبليغ الرسالة الحسينية، وكان أحد عوامل النجاح في تحقيق الانقلاب العام على حكومة البغي والفساد، فاندلعت الثورات مثل: ثورة التوّابين، وثورة زيد بن علي، وثورة المختار ابن يوسف الثقفي.

وفيما يلي نذكر نماذج من دعائهم(عليهم السلام) على الظلمة:

1ـ دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام): «أيّها الناس، فأنشدكم الله هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه؟! فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم، وسوءة لرأيكم، بأيّة عين تنظرون إلى رسول الله(صلى الله عليه واله)، إذ يقول لكم قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أُمّتي؟!»[61].

2ـ دعاء السيّدة زينب(عليها السلام): «يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم... أَلا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون»[62].

وكذلك دعاؤها(عليها السلام) على ابن زياد في مجلسه: «هبلتك أُمّك يابن مرجانة»[63]، ودعاؤها(عليها السلام) في مجلس يزيد: «اللهمّ خذ لنا بحقّنا، وانتقم ممَّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمَن سفك دماءنا، وقتل حماتنا... أَلا لعنة الله على الظالمين... وحسبنا الله ونعم الوكيل»[64].

3ـ دعاء السيّدة فاطمة الصغرى(عليها السلام): «تباً لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حلّ بكم، وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب، ويذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، أَلا لعنة الله على الظالمين»[65].

4ـ دعاء السيّدة أُمّ كلثوم(عليها السلام): «يا أهل الكوفة، سوأة لكم، ما لكم خذلتم حسيناً، وقتلتموه، وانتهبتم أمواله، وورثتموه، وسبيتم نساءه، ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسحقاً»[66].

ويبدو أنّ كلّ كلمات الأُسارى تلبس وشاح الدعاء على الظالمين بالويل والثبور، كما أنّ كلّ خطب أُسارى الطفّ تزخر بالحمد والتهليل، والتسبيح والاستغفار، والرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم لأمره، واليقين المطلق بوعد الحق تبارك وتعالى بهلاك الفاسدين والماكرين.

كان ذلك أهمّ ما رصدته الباحثة من السلوكيات العبادية البارزة في أقوال أُسارى آل محمد(صلى الله عليه واله) وأفعاله المشبعة بالمواعظ والحكم والدروس والعبر، التي ينبغي أن يستمرّ الحديث عنها ونشرها بين أبنائنا وبناتنا على مرّ الأجيال المتعاقبة.

المبحث الثاني: السلوكيات القرآنية لأسارى الطف على المستوى الأخلاقي

ورد الحثّ في القرآن الكريم والسنّة الشريفة على حسن الخلق، والنهي عن سوء الخلق؛ لما لهما من آثار مادية وروحية تنعكس على الفرد والمجتمع، وستقوم الباحثة بتناول أهمّ الفضائل والأخلاق الحسنة المشهودة في سلوك أُسارى آل محمد(صلى الله عليه واله)، وهم في أشدّ المحن والمصائب التي عادةً ما تؤثّر في المستوى الأخلاقي لكثير من الناس، ولا سيّما إذا كان الالتزام بالأخلاق الرفيعة يعرّضهم ومصالحهم إلى الخطر.

ومن تلك الأخلاقيات التي تجسّدت في سلوك الأُسارى:

1ـ الصبر

كان أُسارى آل محمد(صلى الله عليه واله) وسباياهم من أكثر الناس صبراً في أصعب الابتلاءات التي جُمعت في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)[67].

ولقد ابتُليت النساء ورُوّعت الأطفال، ومن أشدّ تلك الابتلاءات نهب الخيام وحرقها، فبعد مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) قام الأعداء بحرق الخيام كما جاء في الرواية: «... ثمّ أُخرج النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة»[68]، ومن عظم تلك المصائب خرجت السيّدة زينب(عليها السلام) وهي تنادي: «... يا محمداه، صلّى عليك ملائكة السماء، هذا حسين مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى، وإلى محمد المصطفى، وإلى علي المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء...»[69].

وكانوا(عليهم السلام) مع كلّ تلك الابتلاءات مرآة لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[70]، ومعنى (صابروا) أي: «أنّ على المسلمين أن يُضاعفوا من صبرهم ومن ثباتهم»[71]، وهذا ما أفصح عنه قول السيّدة زينب للإمام السجاد(عليه السلام)، وهو ينظر إلى أهله مجزّرين، فأخذت تصبّره، وتخفّف عنه وطأة الخطب الجليل، فقالت(عليها السلام): «ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟... فوالله، إنّ ذلك لعهد من رسول الله(صلى الله عليه واله) إلى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأُمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء(عليه السلام)، لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيّام...»[72].

وكان صبرهم على ما أصابهم صبراً جميلاً، ومثاله ردّ السيّدة زينب على عبيد الله
ابن زياد عندما قال لها: «كيف رأيتِ صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلّا جميلاً»[73]، وهو مصداق لقوله تعالى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)[74].

إذاً؛ ما صدر عنهم(عليهم السلام) لا ينمّ عن صبر فحسب؛ بل عن جبال من الصبر تجسّدت في أقوال العقيلة زينب(عليها السلام) وأفعالها، وبقيّة الأُسارى (صلوات الله عليهم أجمعين).

2ـ العفّة

العفّة معناها: «الكفّ عمّا لا يحلّ ويجمل... عفّ عن المحارم والأطماع الدّنية... أي: كفّ... وقيل: الاستعفاف: الصبر والنّزاهة عن الشيء»[75]. والعفّة والحياء قرونان، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «على قدر الحياء تكون العفّة»[76].

أمّا في الاستعمال القرآني فقد جاءت مفردة التعفّف في عدّة آيات، منها قوله تعالى: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ)[77]، وقوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا)[78]، وقوله تعالى: (وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[79].

ومن العفّة والحياء الالتزام بالحجاب، وهو ما حرصت عليه مخدّرات الطفّ في مسيرة السبي؛ سيّما أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) كان لا يسمح لامرأة أن تبرز من الخيمة، كما في قصّة زوجة وهب بن جناح الكلبي التي أرادت أن تُشارك في القتال، فردّها الإمام الحسين(عليه السلام) قائلاً: «جُزيتم من أهل بيتي خيراً، ارجعي إلى النساء رحمك الله. فانصرفت إليهن»[80]، كما ردّ السيّدة زينب(عليها السلام) عندما خرجت من الخيمة إلى مصرع عليّ الأكبر(عليه السلام)، فقد رُوي أنّها(عليها السلام) خرجت «تنادى يا حبيباه، يابن أخاه. وجاءت فأكبّت عليه، فجاء الحسين(عليه السلام)، فأخذها وردّها إلى النساء»[81].

ومن مواقف العفّة والحياء في رحلة السبي ما يلي:

1ـ قول السيّدة أُمّ كلثوم(عليها السلام) عندما دخلوا الكوفة، وقد اجتمع الناس للنظر إليهم، فقالت(عليها السلام): «يا أهل الكوفة، أَما تستحون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حرم النبي(صلى الله عليه واله)»[82].

2ـ قول السيّدة أُمّ كلثوم(عليها السلام) لشمر (لعنه الله) لمّا كانوا على مقربة من دمشق: «لي إليك حاجة، فقال: ما حاجتك؟ قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل، وينحونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا، ونحن في هذه الحال»[83].

3ـ موقف السيّدة سكينة(عليها السلام) مع سهل بن سعد الساعدي، عندما طلبت منه «أن يدفع لحامل الرأس شيئاً فيبعده عن النساء؛ ليشتغل الناس بالنظر إليه، ففعل سهل»[84].

4ـ قول السيّدة زينب(عليها السلام) ليزيد (لعنه الله): «أَمن العدل يابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف؟»[85].

3ـ الشجاعة

الشجاعة نوعان: شجاعة حربية، وميدانها الأفعال في المعارك والحروب، وشجاعة أدبية وميدانها الأقوال كالجهر بالحق والدفاع عنه[86]. وقد جمع القرآن الكريم بين المعنيين في قوله تعالى: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)[87].

ولم يرد لفظ (الشجاعة) في الآيات القرآنية، ولكن ذكرت بعض المفاهيم التي يمكن أن يتناولها لفظ الشجاعة، كالثبات، والقوّة، والاستعداد، كما في قوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ)[88]، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ)[89].

وسنلاحظ أنّ سلوكيات أُسارى كربلاء ـ مع ما تعرّضوا له من أذىً في سبيل الله ـ تُعتبر انعكاساً وتجسيداً للمبدأ القرآني في الدفاع عن الدين؛ وذلك ما تفصح عنه كلماتهم ومواقفهم في مواجهة الأعداء، ومن ذلك موقف الإمام زين العابدين(عليه السلام) مع ابن زياد عندما أمر بقتله، فقال(عليه السلام) له: «أَبالقتل تهدّدني؟ أَما علمت أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة»[90]، وكذلك قول السيّدة زينب(عليها السلام) ليزيد: «أَمن العدل يابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله(صلى الله عليه واله) سبايا؟»[91]، وقولها(عليها السلام) ليزيد ـ أيضاً ـ بكلّ جرأة: «وإنّي لأستصغر قدرك، واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك»[92]. وما تلك الخطب والكلمات إلّا شجاعة أدبية لا مثيل لها، بل هي قتال بالمواقف والكلمات مع أعتى الجبابرة والطغاة.

والحقّ أنّ رحلة السبي رحلة حملت كلّ معاني الشجاعة، من رجل عليل، ونساء ثكالى، أنهكتهنّ الرزايا، وقد كنّ يقفن بشموخ أمام أُولئك الجبابرة والجلادين؛ ليقلن كلمة الحقّ، الأمر الذي أذهل كلّ الحضور، وجعل ابن زياد يقول ـ بعد أن أنهت السيّدة زينب(عليها السلام) خطبتها ـ «هذه سجّاعة، ولعمري لقد كان أبوك شاعراً وسجّاعاً. فقالت: يابن زياد، ما للمرأة والسجاعة؟!»[93].

4ـ التضحية

من الآيات القرآنية الدالة على التضحية والبذل بالنفس والنفيس قوله تعالى: (إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[94]، و«الاشتراء هو قبول العين المبيعة بنقل الثمن في المبايعة، والله سبحانه يذكر في الآية وعده القطعي للذين يجاهدون في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم بالجنّة... وقد قلبه (سبحانه) في قالب التمثيل، فصوّر ذلك بيعاً، وجعل نفسه مشترياً... وهو من لطيف التمثيل، ثمّ يُبشِّر المؤمنين ببيعهم ذلك ويهنّئهم بالفوز العظيم»[95].

هكذا وصف (سبحانه وتعالى) حال المؤمنين المضحّين، وعلى مَن يريد الالتحاق بركبهم والفوز بمقامهم أن يضحّي بكلّ شيء، وأن لا يخشى من قول كلمة الحقّ عند سلطان جائر، فإنّ مَن يلج أرض المعركة يعلم يقيناً حجم ما ينبغي من الاستعداد للتضحية بالنفس والأهل والمال والولد، والتخلّي عن كلّ الملذات الدنيوية.

وقد كان أُسارى آل محمد(صلى الله عليه واله) وسباياهم المصداق الأبرز للمضحّين في سبيل الله، ففي رحلة السبي ضحّى آل الحسين(عليهم السلام) بكلّ غالٍ ونفيسٍ، وأعربوا عن رضاهم بكلّ ما حلّ بهم ما دام لله فيه رضىً، فما أعظم الحوراء زينب(عليها السلام)، وهي تحتضن الجسد الطاهر لأبي عبد الله الحسين(عليه السلام) ـ بعد أن سقط صريعاً على أرض الطفوف ـ وتقول: «إلهي تقبّل منّا هذا القربان»[96]، فالحسين الذبيح(عليه السلام) هو القربان الذي يُعيد للأذهان تضحية النبي إبراهيم(عليه السلام) بولده إسماعيل(عليه السلام)، حين أراد أن يقدّمه قرباناً في سبيل الله، وذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصَّابِرِينَ)[97].

وكذلك كانت العقيلة(عليها السلام) معلم التضحيات في موقف جمعها مع الإمام زين العابدين(عليه السلام) في مجلس الطاغية ابن زياد حينما أفحمه منطق الإمام زين العابدين(عليه السلام)، فغضب ابن زياد: وقال للإمام: «أَلك جرأة على جوابي، اذهبوا به فاضربوا عنقه.فسمعت به عمّته زينب، فقالت: يابن زياد، إنّك لم تُبقِ منّا أحداً، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه»[98].

وتبدو الحوراء(عليها السلام) شامخة كالجبال الرواسي عندما أراد عبيد الله بن زياد أن يستفزّها بقوله: «كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلّا جميلاً»[99]، فأيّ تضحيةٍ أعظم وأجمل من تضحية السيّدة زينب(عليها السلام)؟!

5ـ العزّة

«العزة: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب»[100]، و«هي القوّة والغلبة»[101]، وقوله تعالى على لسان أحد الأخوين المتخاصمين حين رفعا أمرهما إلى النبي داوود(عليه السلام): (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)[102] أي: «غلبني في الاحتجاج»[103].

والعزّة في القرآن الكريم للمدح، كما في قوله تعالى:(وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[104] بإعلاء الله كلمته، وإظهار دينه على الأديان، بنصرته إيّاهم في الدنيا، «فقصر العزّة في نفسه ورسوله والمؤمنين، فلا يبقى لغيرهم إلّا الذلّة»[105]. ولا يسمح الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن بأن يكون ذليلاً، قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[106].

والعزّة والشدّة تكون على الكافرين لا على المؤمنين، قال تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)[107]، «أي: رحماء على المؤمنين، غلاظ شداد على الكافرين، وهو من الذلّ: الذي هو اللين، لا من الذلّ الذي هو الهوان. قال ابن عباس: تراهم للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيّده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته»[108]. وغير ذلك آيات كثيرة تحمل مضامين العزّة على اختلاف ألفاظها، لا يسع المجال لذكرها.

وانطلاقاً من مفهوم العزّة ورفض الذلّ والخنوع للظالم، فقد ورد الاستنكار للذين امتنعوا عن الهجرة، ورضوا بالبقاء تحت سلطة الظالمين على حساب دينهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا)[109]، فالآية تحكي مصير الذين «امتنعوا عن الهجرة لأسباب واهية، أو لمصالحهم الشخصية، وقرّروا البقاء في محيط ملوّث، وفضّلوا الكبت والقمع على الهجرة»[110].

إنّ الله (سبحانه وتعالى) لم يرتضِ للمؤمنين الرضوخ إلى الظالم، بل ندبهم إلى الهجرة؛ لأنّ فيها عزّة خير أُمّة أُخرجت للناس، قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا)[111]، «(وَمَن يُهَاجِرْ) يعني: يفارق أهل الشرك ويهرب بدينه من وطنه إلى أرض الإسلام،( فِي سَبِيلِ الله)، أي: في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه»[112].

من هنا؛ كانت هجرة الإمام الحسين(عليه السلام) في سبيل الله، ثمّ رحلة السبي التي تجلّت فيها أسمى معاني العزّة القرآنية، وهذا ممّا لا شكّ فيه، فشعار معركة الطفّ هو (هيهات منّا الذلّة)، ومن الطبيعي أن لا تحيد مسيرة الأُسارى عن المسار الذي اختطه غريب كربلاء بدمه الطاهر.

فالعزّة سمة متأصّلة في سلالة النبي محمد(صلى الله عليه واله)، ولكن ما يؤطّر العزّة الهاشمية هو تجليها في معركة الطفّ، وفي رحلة السبي أو الأسر، وأمام سلطان جائر؛ لذا أصبحت العزّة أجمل وأروع ممّا تكون عليه في مواقف الحياة الاعتيادية. ولا نبالغ إذا ما قلنا: إنّ مسيرة الأُسارى من كربلاء إلى الكوفة، ومنها إلى الشام كانت مسيرة عزّة وإباء، اكتست بها خطبهم وسلوكياتهم إزاء ما قام به يزيد وجلاوزته في الكوفة والشام.

ويمكن أن نذكر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ بعض مواقف العزّة والإباء لأُسارى واقعة الطفّ، منها:

1ـ موقف الإمام زين العابدين ـ المتقدِّم ـ مع عبيد الله بن زياد حين همّ بقتل الإمام، فقال(عليه السلام) له: «أَبالقتل تهددني؟ أَما علمت أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة»[113].

2ـ موقفه(عليه السلام) الرافض لتعويض يزيد لهم ما أُخِذ منهم، فقد جاء في الرواية: «... وأمّا ما أُخذ منكم فأنا أُعوّضكم عنه أضعاف قيمته. فقال(عليه السلام): أمّا مالك فلا نريده، وهو موفّر عليك، وإنّما طلبت ما أُخذ منّا؛ لأنّ فيه مغزل فاطمة بنت محمد(صلى الله عليه واله) ومقنعتها وقلادتها وقميصها. فأمر بردِّ ذلك، وزاد فيه من عنده مائتي دينار، فأخذها زين العابدين، وفرّقها في الفقراء والمساكين»[114].

3ـ موقف السيّدة الحوراء(عليها السلام) مع ابن زياد؛ إذ رفضت نفسها الأبيّة افتراءه على آل البيت(عليهم السلام) حين قال: «الحمد لله الذي فضحكم، وأكذب أُحدوثتكم. فقالت: إنّما يُفتضح الفاسق، ويُكذّب الفاجر، وهو غيرنا»[115].

4ـ موقف السيّدة أُمّ كلثوم(عليها السلام) الرافض لتناول ما أعطاه الكوفيون من الأطعمة للأطفال، فقد جاء في الرواية: «... وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أُمّ كلثوم، وقالت: يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام. وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض»[116].

وقد جسّد هذا الموقف أروع معاني العزّة والإباء، فهم ورثة الرسالة المحمدية التي حمل لواءها ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه واله)، والأبرز في هذا الموقف هو أنّ السيّدة أُمّ كلثوم تأبى عليها نفسها أن تُطعم الأطفال من أيادٍ غدرت بالحسين(عليه السلام)، ونكثت العهود والمواثيق، وسفكت الدماء الزكية.

5ـ أعلنت السيّدة زينب(عليها السلام) رفضها وأنفتها من استقبال أيّة امرأة إلّا مَن عاشت حالة السبي، قالت(عليها السلام): «لا تدخلنّ عربية إلّا أُمّ ولد، أو مملوكة، فإنّهنّ سبين كما سبينا»[117].

وهكذا كانت سلوكيات سبايا الطفّ مليئة بالعزّة والأنفة والعظمة، وقد مثّلت امتداداً للخطّ الذي رسمه قائد الركب الحسيني حين أقسم قائلاً: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد»[118]، وظلّت هذه الرحلة ذات فاعلية حركية لها وقعها في حياة الأجيال، لا مجرّد شعارات للتمجيد.

الخاتمة

حاولت الباحثة استقراء كثير من النصوص من أجل بلورة سلوكيات أُسارى أو سبايا الطفّ المستندة إلى القرآن الكريم، وبعد جهد من البحث ـ الذي لا ندّعي، بل لا يمكن لأحدٍ أن يدّعي أنّه يرقى إلى مستوى تلك الأدوار الرسالية النهضوية لآل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين ـ خرجت بالنتائج الآتية:

1ـ تكمن خصوصية سلوكيات الأُسارى أو السبايا في أنّهم من ذرّية المصطفى(صلى الله عليه واله)، فقد نشأوا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[119]، فالتزموا بالمنهج الربّاني القرآني بما فيه من أوامر ونواهٍ، كما سطّروا أروع المشاهد السلوكية وسط أنات من الخوف والهلع؛ ناهيك عن بُنية الجسم الذي لا يقوى على تحمّل تلك المشاق لولا الإيمان المطلق بالله تعالى، والتخلّق بسيرة جدّهم خاتم الأنبياء(صلى الله عليه واله) ومنهج الحسين(عليه السلام) في طفّ كربلاء.

2ـ المواقف السلوكية التي استبانت عبر الدراسة كشفت عن إمكان الاقتداء بهم فيما إذا تهيأت للإنسان ظروف النشأة النقية والتربية الإيمانية والرعاية الأبوية.

3ـ لا قيمة لإيمان المرء وخلقه في ظروف الحياة الطبيعية ما لم يبقَ إيماناً صادقاً ثابتاً، وخلقاً رفيعاً صامداً، لا يتغيّر ولا يتبدّل أمام صروف الزمان ومغريات الحياة.

4ـ سلوكيات أُسارى الطفّ مواعظ وعبر لكلّ الأجيال على اختلاف الأزمان؛ لأنّها تنبع من عواطف وأحاسيس وأفكار تغذّي الطبيعة الإنسانية.

5ـ تكاد السلوكيات الأخلاقية لدى الأُسارى تجتمع في كلّ موقف يتعرّضون له خلال رحلة الأسر أو السبي المريرة، فالصبر والعفّة والشجاعة والتضحية والعزّة، تمتزج معاً في معظم مواجهاتهم البطولية مع الأعداء.

المصــادر والمراجع

* القرآن الكريم.

الإرشاد، محمد بن محمد بن النعمان، تحقيق: مؤسسة آل البيت(عليهم السلام) لتحقيق التراث، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، 1414هـ/1993م.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1426هـ/2005 م.

بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، محمد باقر المجلسي، مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، ، الطبعة الأُولى، 1429هـ/2008م.

تاج العروس، مرتضى الزبيدي، تحقيق: علي شيري، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، 1414هـ/1994م.

زينب الكبرى، الشيخ جعفر النقدي، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف.

الشجاعة الأدبية في ضوء السنّة النبوية (دراسة موضوعية)، خالد بن فلاح ابن عبد الحميد شعلان، 1436هـ/ 2016م.

الصحاح، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، الناشر: دار العلم للملايين، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة، 1407هـ/1987م.

الضوابط والسلوك المنهجية في القرآن الكريم، رسمية علي آل ردهان الغامدي، رسالة ماجستير، جامعة المدينة العالمية، 1434هـ/2013م.

الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1411هـ.

لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، دار إحياء التراث، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة، 1405هـ.

اللهوف في قتلى الطفوف، السيّد عليّ بن موسى بن طاووس، أنوار الهدى، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

لواعج الأشجان، السيّد محسن الأمين، منشورات مكتبة بصيرتي، قم المقدّسة ـ إيران، مطبعة العرفان، صيدا، 1331هـ.

مثير الأحزان، جعفر بن محمد بن نما الحلي، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1369هـ/1950م.

مجمع البيان في تفسير القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسي، دار العلوم للطباعة والنشر، الطبعة الأُولى.

المرجع البسيط في أساليب تعديل السلوك، عدنان أحمد الفسفوس (أبو عاصف)، الطبعة الأُولى، 1432هـ/2011 م.

مقتل الحسين(عليه السلام) أو حديث كربلاء، عبد الرزاق المقرّم، انتشارات الشريف الرضي.

ميزان الحكمة، محمد الريشهري، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة، 1431هـ/2010م.

الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، دار إحياء التراث، بيروت ـ
لبنان، الطبعة الأُولى، 1427هـ /2006م.

[1] الغامدي، رسمية علي، الضوابط السلوكية والمنهجية في القرآن الكريم: ص13.

[2] اُنظر: الفسفوس، عدنان أحمد، المرجع البسيط في أساليب تعديل السلوك: ص13.

[3] الشعراء: آية200.

[4] اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج7، ص354.

[5] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج15، ص322.

[6] النحل: آية69.

[7] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج6، ص176.

[8] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج18، ص215.

[9] البقرة: آية43.

[10] إبراهيم: آية37.

[11] النقدي، جعفر، زينب الكبرى: ص62.

[12] النقدي، جعفر، زينب الكبرى: ص62 ـ 63.

[13] الكهف: آية27.

[14] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص92.

[15] الأحزاب: آية21.

[16] الزمر: آية42.

[17] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص95.

[18] الزمر: آية42.

[19] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص94.

[20] آل عمران: آية154.

[21] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص87.

[22] النحل: آية92.

[23] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج12، ص335.

[24] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص87.

[25] فصلت: آية16.

[26] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج9، ص14.

[27] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص111.

[28] الحديد: آية22 ـ 23.

[29] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج19، ص167.

[30] اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج9، ص400.

[31] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص90.

[32] طه: آية61.

[33] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج14، ص174.

[34] البقرة: آية7.

[35] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج1، ص96 ـ 97.

[36] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص91.

[37] المائدة: آية56.

[38] المجادلة: آية22.

[39] المجادلة: آية19.

[40] الشورى: آية23.

[41] الإسراء: آية26.

[42] الأنفال: آية41.

[43] الأحزاب: آية33.

[44] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص102 ـ 103.

[45] ابن نما، جعفر بن محمد، مثير الأحزان: ص80.

[46] المصدر السابق.

[47] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج 3، ص14 ـ 15.

[48] آل عمران: آية169.

[49] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص107.

[50] المصدر السابق.

[51] المصدر السابق.

[52] الحج: آية10.

[53] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص107.

[54] الأعراف: آية44 ـ 45.

[55] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج5، ص256.

[56] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص108.

[57] آل عمران: آية173.

[58] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج4، ص64.

[59] غافر: آية60.

[60] اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج2، ص34.وأيضاً: الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج15، ص301.

[61] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص92.

[62] المصدر السابق: ص87.

[63] المصدر السابق: ص94.

[64] المصدر السابق: ص106 ـ 108.

[65] المصدر السابق: ص89 ـ 90.

[66] المصدر السابق: ص91.

[67] البقرة: آية155 ـ 156.

[68] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص78.

[69] المصدر السابق.

[70] آل عمران: آية200.

[71] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج3، ص68.

[72] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج28، ص57.

[73] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص94.

[74] يوسف: آية18.

[75] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج9، ص253.

[76] الريشهري، محمد، ميزان الحكمة: ج1، ص717.

[77] البقرة: آية273.

[78] النور: آية33.

[79] النور: آية60.

[80] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص63.

[81] المصدر السابق: ص68.

[82] المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص310.

[83] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص101.

[84] المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص349.

[85] المصدر السابق: ص358.

[86] اُنظر: شعلان، خالد فلاح، الشجاعة الأدبية في ضوء القصص الأدبية: ص13ـ 14.

[87] الأنفال: آية11.

[88] الأنفال: آية60.

[89] الأنفال: آية45.

[90] ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج5، ص123.

[91] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص106.

[92] المصدر السابق: ص107.

[93] المصدر السابق: ص94.

[94] التوبة: آية111.

[95] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج9، ص395 ـ 396.

[96] المقرّم، عبد الرزاق، مقتل الحسين(عليه السلام): ص307.

[97] الصافات: آية102.

[98] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص95.

[99] المصدر السابق: ص94.

[100] الزبيدي، مرتضى، تاج العروس: ج8، ص100.

[101] الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصحاح: ج3، ص886.

[102] ص: آية23.

[103] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج5، ص378.

[104] المنافقون: آية8.

[105] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج19، ص282.

[106] آل عمران: آية139.

[107] المائدة: آية54.

[108] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج3، ص357.

[109] النساء: آية97.

[110] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج3، ص407.

[111] النساء: آية100.

[112] الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج3، ص171.

[113] ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح: ج5، ص123.

[114] الأمين، محسن، لواعج الأشجان: ص239.

[115] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص94.

[116] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص114.

[117] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص95.

[118] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص98.

[119] النور: آية36.

السلوكيات القرآنية في واقعة الطف سلوكيات الأُسارى أُنموذجاً