المقدّمة

من النّاس مَن يحيا حياته ويتحرّك نحو غاياته، كأنّه لا يوجد إله يعتني بهذا الكون وما يستقرّ فيه من أحداث حلوة أو مرّة. إنّه إله ـ في نظره ـ جالس على عرشه في منتهى جماله وجلاله، في راحة تامّة لا علاقة له بما يحدث في الكون، ولا يحرّك ساكناً، ولا يتدخّل في توجيه الأحداث في ظهورها واختفائها.

وهذا الصنف من الناس يعمل ليلاً ونهاراً ويبذل كلّ ما في وسعه من طاقة لتحقيق مشاريعه وأهدافه في هذه الدنيا، وينأى بنفسه عن كلّ ما هو إلهي سماوي، ولهذا تجده يقتصر على تحقيق أُمور ثلاثة، هي:

1. يسعى إلى الحفاظ على ذاته من الانقراض على هدي قانون الجاذبة والدافعة.

2. يسعى إلى ادّخار ما يفتقر إليه عند الحاجة على هدي قانون الاحتياط.

3. يسعى إلى تطوير ذاته وكلّ ما حوله حتى يتوسّع في نمط الحياة على هدي قانون التطوّر والتكامل.

وهذه الأُمور تدفعه إلى العيش مع بني نوعه، فيتشكّل ما يُسمى بالمجتمع المدني الذي يوفّر له ـ على هدي قانون السخرية (التسخير) ـ ما يحتاجه وما يعجز بمفرده عن تحقيقه.

هذا؛ وأنّ القرآن الكريم يحكي لنا عيّنات من هذا الصنف، كفرعون وهامان ونمرود وأشباههم من الطغاة والمتكبّرين، بل يحكي حتّى عن أُناس عاديّين يحملون هذه الرؤية البائسة أيضاً.

وهناك صنف آخر يقع في مقابل الصنف الأوّل، يرى أنّ كلّ شيء يتحقّق في سياقه الخاصّ، وينتظر أجله المسمّى المحدّد له في سلسلة من أُمور لا تقبل الوضع ولا تقبل الرفع. ولا معنى لتحرّك الإنسان في كنف هذا السياق الجارف الذي ينتج ظواهر الكون وفق قانون قهري وحتمي، ومن العبث أن نقف في وجهه ونُحاول تغيير مساره؛ إذ هذا التصرّف ينتمي في نظره إلى مقولة العبث والهذيان.

وبالنظر إلى ما تقدّم؛ فإنّ الصنف الأوّل قد عزل الله تعالى وأبعده عن السياق، واستبدله بالإنسان الذي بات هو الآمِر وهو الناهِي، وهو المبادر والمؤسّس، وهو الباني والهادم، فلا معنى لعناية إلهية تتجلّى في تدبير الكون في بُعديه التكويني والقيمي.

أمّا الصنف الثاني، فقد عزل الإنسان عن السياق وألبسه ثوب البطالة الأزلية، واستبدله بقوّة قاهرة لا معنى للمبادرة الإنسانية في كنفها، ولا معنى للتفكير والتغيير في مقابلها.

وإذا تأمّلنا الرؤيتين جيداً نجدهما قد ضربتا الحكمة الإلهية في الصميم؛ وذلك لأنّ الإله الذي أوجد هذا الكون ثمّ اختفى في مقام التدبير والعناية، وترك العالم وحده يتحرّك في سياقه تتحكّم فيه المصادفات، إلهٌ تنقصه الحكمة والعلم بتدبير الأُمور. والإنسان الذي يحمل القدرات التي تؤهّله لأنّ يُحافظ على نوعه ويرقى في سُلّم التكامل، ولا يُفعِّلها ولا يتحرّك في تطوير نفسه في ظلّ قوانين العناية الإلهية والتدبير، يُمسي حقيقة لا يُفَهَمُ معناها ولغزاً يُحيّر العقول، وهذا ضرب للحكمة الإلهية على مستوى العلم الذي يمثّل الهندسة التي على أساسها تُخلق الأشياء، وعلى مستوى الفعل الذي به تستقرّ الأشياء في عمود الوجود.

ننتمي ـ نحن ـ إلى الصنف الذي يؤمن بالتدبير الإلهي والعناية الإلهية، وأنّ كلّ ما في الكون من كبيرة وصغيرة يخضع للتدبير الإلهي، وأنّ العناية الإلهية الجميلة شملت مساحة واسعة من أحداث الكون التي تظهر أو تختفي، وتتكامل أو تتدهور، ولولا هذه العناية الخارقة لما فقهنا الحكمة الإلهية في سريانها الكوني، ولما أدركنا روعة دور الإنسان العاقل المختار في هذا الكون المهول والواسع.

وهذه الرؤية كانت سائدة في جميع الحضارات والمدنيّات، فلم تخلُ أُمّة من الأُمم من هذه العقيدة، بل كانت الأُمم تبني مبادراتها في تحقيق مشاريعها على العناية الإلهيّة، وإليها كانت تنسب مكتسباتها وإنجازاتها أيضاً.

إنّ الحاكم ـ وهو جالس على عرش تدبير مملكته ـ يعتقد أنّ الله تعالى هو مَن مكّنه من هذا الأمر، والقروي الذي يبصر الغيث نازلاً يُحيي الأرضَ ويُخرج منها رزقَه ورزقَ أنعامه، يراه عناية إلهية مستّه بجمالها، والأُمّ التي تسهر مع ولدها المريض ترى أنّ الله تعالى معها يمدّها بالقوّة ولا يفارقها في هذه المحنة لحظة ما، والفقير الذي يسأل الله من رزقه يعي أنّ العناية الإلهية لا تتركه وحيداً، وهكذا نجد الأمر في كثير من ساحات الوجود.

وبالتالي مَن ينأى بنفسه عن هذه الرؤية، فقد جحد من جهة الحقيقة الإنسانية التي تُمثّل صنع الله الجميل، ومن جهة أُخرى قد جحد الحكمة الإلهية الخالدة التي هندست مفردات الوجود ووضعتها في سياقها الذي تقتضيه طبائعها.

وفي هذا البحث نُعالج النهضة الحسينية المباركة كحدث وقع في سياق زماني ومكاني في إطار العناية الإلهية؛ الأمر الذي يستدعي منّا عرض العناية الإلهية بالتفصيل ودراستها في جميع أبعادها، ثمّ نتناول النهضة المباركة في ضوء هذه العناية الإلهية التي تتجلّى في سياق الأحداث في ظهورها واختفائها.

فإذا عالجنا النهضة الحسينيّة المباركة في إطار ظرفها الزماني والمكاني الضيّق نائية عن الأصل الإلهي ـ كما يفعل ذلك مَن يتّبع النهجَ الوضعاني في تعامله مع الأُمور ـ فإنّه لا يتأتّى منّا دركُ عمقها الإلهي، ولا أبعادها الإنسانية الراقية، ولا نصلُ إلى قيمة النتائج الرائعة التي ترتّبت عليها؛ فإنّ الضياء ينبثق من أُصوله، كما أنّ الأشعة تنبثق من مصدرها الذي هو الشمس.

إطلالة تاريخية

نتناول في هذه الإطلالة آراء تتّصل بالعناية الإلهية لبعض العلماء الذين ينتمون إلى حضارات أُخرى؛ إذ يرى أفلاطون أنّ الالتزام بمقتضى القانون لا يتأتّى منّا من دون الإيمان بالذات الإلهية وعنايتها، وقد دلّل على العناية الإلهية في كتابه (القوانين).

وإليك صورة الدليل بتلخيص منّا: لو لم يعتنِ الله تعالى بأُمور الدنيا، لكان ذلك إمّا لأنّه تعالى متهاون، وإمّا لأنّه تعالى عاجز، والتالي بشقّيه مستحيل، فتكون النتيجة هي أنّ الله تعالى يعتني بأُمور الدنيا^{^[1]}.

هذا؛ وأنّ الدليل واضح سواء على مستوى الملازمة، أم انتفاء التالي.

بيانُ عدم معقولية التالي هو أن نقول: إنّ التهاون يُضادّ كونَ الله تعالى حكيماً بالحكمة اللامتناهية، والعجز يضادّ كونه تعالى قادراً بالقدرة المطلقة.

أمّا بيان معقوليّة الملازمة (معقولية الربط بين المُقدّم والتالي)، فهو قولنا: إنّ مفهوم الاعتناء في هويّته يستدعي التلبّس بالكمال الذي يشكّل الضابطة التي على أساسها يُكمّل الكاملُ الدانيَ، ويرفعه إلى الكمال الأرقى الذي تقتضيه ذات الأدنى، والله تعالى هو الوجود الكامل بتمام الكمال، بل فوق التمام بأن يفيض على غيره الكمال.

ثمّ يُعالج الحكيم إشكالية التضادّ بين العناية الإلهية وحرّية الإنسان.

وبيان التضادّ أن نقول: إنّ العناية الإلهيّة التي تعني التخطيط الحكيم للتدبير الشامل لكلّ مفردات الخلق بكيفية توصلهم إلى غاياتهم ومصالحهم، قد تصطدم مع الحرّية الإنسانية التي قد تختار ما يُخالف ما تريد العناية الإلهية، وبالتالي ما يُريده الله تعالى من أحداث لا يتحقّق في عمود الوجود. فكيف نُعالج هذه المعضلة؟

قد ركّز الحكيم في معالجة ما يبدو من مفارقة على التفكيك بين الفواعل المختارة وغير المختارة، وبيّن أنّ العناية الإلهية في دائرة الفواعل غير المختارة تعمل بطريقة تجعلهم يتحرّكون نحو غايتهم بشكل قهري، بحيث لا يتخلّف الشيء في حركته نحو غايته ولا يختلف. وفي دائرة الفواعل الإنسانية العاقلة الحرّة تعمل بطريقة تجعل الفاعل يتحرّك وفق وعيه واختياره، فيسعى على هدي العناية إلى غايته التي سطرت له، فلا العناية الإلهية ترفع الاختيار، ولا الاختيار يوقف العناية الإلهية، بل العناية الإلهية تؤكّد الاختيار الإنساني، والاختيار الإنساني يُحقّق مقتضيات العناية الإلهية^{^[2]}.

وإذا جِئنا إلى أدبيّات المسيحيّين نجد مسألة العناية الإلهية عندهم شاخصة، بل تمثّل في الإلهيّات المسيحية مسألة عقدية أساسية. نُشير إلى أقوال بعض أعلامهم المرتبطة بهذه المفردة الخطيرة:

منها: ما يتناوله الفيلسوف المشهور القدّيس الأغسطي^{^[3]} في كتابه (مدينة الله)^{^[4]} في شأن العناية الإلهية، ونلخّص فيما يأتي النقاط التي عرضها:

يرى الحكيم الأغسطي أنّ ما يُعانيه الخيّرون من مقتضيات العناية الإلهيّة من آلام يعود إلى أسباب، منها:

1. إنّ هذه الابتلاءات تُساعد الخيّرين على التلبّس بالفضائل.

2. الفضائل تورثهم الكرامة الأخلاقية؛ ممّا يُخفّف الأمر على مَن يعيش الآلام الفعلية أو المستقبلية.

3. الابتلاءات شاهد على وجود النشأة الأُخروية التي تتجلّى فيها العدالة النهائية.

4. السبب الرابع ـ الذي يُمثّل السبب الأقوى ـ هو أنّ هذه الابتلاءات هي شروط القانون الأخلاقي؛ وذلك لأنّ ممارسة الفضيلة لو كانت متبوعة دائماً بالجزاء في هذه النشأة الأرضية، لكانت معاملة تجارية، ولكانت الفضيلة (التي تعني التحكّم بالنفس) لا معنى لها، فتنتفي المثالية الأخلاقية نهائيّاً.

ثمّ يُعالج الحكيم الأغسطي مُعضلة العناية الإلهية والاختيار الإنساني معالجة علمية راقية، حيث يقول: «... إرادتنا هي أسباب أفعالنا، فإنّنا ننتمي إلى نظم الأسباب والمُسبّبات، النظم الضروري لدى الله تعالى، والذي يحتويه علمه تعالى الأزلي. وبالتالي إنّ مَن أبصر ـ من قبل ـ جميعَ أسباب الحوادث، لا يخفى عنه منها الإرادات الإنسانية؛ ذلك لأنّه تعالى يعلم بكلِّ أسباب أفعالنا»^{^[5]}.

ثمّ إنّه يضيف قائلاً: «إنّ الله تعالى، بوصفه خالق جميع الطبائع، مفيض لكلٍّ منها استعداداتها، غير أنّ الأمرَ [الإفاضة] لا يطال جميع الإرادات؛ فإنّ الإرادات القبيحة لا تصدر من الله تعالى؛ لأنّ هذا يُخالف الطبائع الصادرة منه تعالى»^{^[6]}.

فقد نفى الحكيم الأغسطي أن تكون الذنوب التي تصدر من الإنسان الضعيف تقتضيها العناية الإلهية، بل نَسَبَها إلى فواعلِها التي تفعلها بمحض إرادتها واختيارها.

من هذا؛ نفهم أنّ العناية الإلهية في النشأة الإنسانية قائمة على دعامتين، هما: التدبير الإلهي، والاختيار الإنساني. أي: إنّ المبادرة الإنسانية الحرّة تنطلق من العقلنة والإرادة؛ ممّا يعني أنّ سريان العناية الإلهية هو محصّلة أمرين: التدبير الإلهي، والتدبير الإنساني في نظم تناغمي جميل وراقٍ.

ومنها: هي العالم والحكيم بوسيه (BOSSUET) الذي ألّف كتاباً^{^[7]} يتناول بالتحليل أحداث التاريخ في ضوء العناية الإلهية؛ وباعتبار أنّ كتابه هذا ألّفه للأُمراء، فقد ركّز على التدبير الإلهي في بُعده السياسي وسقوط الحضارات وصعودها، كما بيّن ذلك في الفصل الثامن من المرحلة الثالثة.

يتساءل بوسيه: كيف يدبّر الله تعالى الكون؟ هل يُدبّره بالمعاجز؟

يُجيب بـ: (لا)؛ لأنّ التدبير الإعجازي في نظره استثناء في ناموس العناية الإلهية.

فيُقرّر بوسيه العناية الإلهية بهذه الكيفية: إنّ التدبير الإلهي يتناغم منتهى التناغم مع الإرادة الإنسانية؛ فإنّ التدبير الإلهي يفسح المجال للطبيعة الإنسانية أن تُفعّل العقلانية والإرادة في الاتّجاه الذي تُريده وترغب فيه حتّى تحقّق ما تقتضيه، وبالتالي إنّ الإنسان حرٌّ بشكل مطلق أمام الأحداث المتضادّة التي يعيشها في حياته الاجتماعية، فللإنسان أن يتأخّر أو يتقدّم، أن يُقدّم أو لا يُقدّم، أن يُبادر أو لا يُبادر، أن يتعيّن بالحسن أو يتعيّن بالقبح، وفي نهاية المطاف له أن يُفعّل إرادته في الاتّجاه الذي يراه يُحقّق له ما يُريده من غايات.

لكنّ المسألة في ناموس العناية الإلهيّة أعمق بكثير من هذا الأمر؛ وذلك لأنّ كوننَا أحراراً في مبادراتنا وفي إقدامنا وإحجامنا مسألة، وكون النتائج التي تتموضع في سياق التاريخ وعمود الوجود مسألة أُخرى تماماً، خاصّة فيما يتّصل بالنتائج الكلّية والعامّة التي تتّسم بالأهميّة الفائقة في باب العدالة. وبالتالي ينبغي ألّا ننظر إلى العناية الإلهية وهي تُخضِعُ الكون للتدبير الإلهي في مجال الأُمور الجزئيّة على أنّها منفصلة عن سياقها العامّ، بل نركِّز على ما هُندس في الحكمة الإلهية الخالدة مهما كانت قراراتنا الجزئية وما يتّبعها من مواقف، تتّصل بنا نحن كموجودات محدودة في زمان ومكان خاصّين. ولا توظّف المعجزة في تدبير مفردات الكون التي تتموضع في سياق التاريخ وتنوجد في عمود الوجود.

فتدبير الكون يكون وفقاً لقانونها الأعلى، القانون المتمثّل بقانون الأسباب والمسبّبات، فيُخرج الحيّ من الميّت، والميّت من الحيّ، والنصر من الهزيمة، والهزيمة من النصر، والخير من الشرّ، والشرّ من الخير، والهناء من الألم، والألم من الهناء، والأمل من اليأس، واليأس من الأمل، واليسر من العسر، والعسر من اليسر، والرضا من السخط، والسخط من الرضا، والفضيلة من الرذيلة، والرذيلة من الفضيلة، وهكذا دواليك^{^[8]}.

ولا يتأتّى من العقل الإنساني المحدود أن يُحيطَ بهذه الأُمور التي تبدو ـ في الوهلة الأُولى ـ مفارقات شاخصة، لكنّ في باطنها حكمة إلهية غالبة وراسخة.

وهذه الثقافة نلمسها في حياة الناس العرفية؛ إذ نجدهم يقولون: «أنت تُدبّر والله يُقدّر، وما يكون إلّا ما قدّره الله تعالى». وفي قولهم: «خير إن شاء الله تعالى». ما يعني أنّ الله تعالى في النظام الجملي لا يُريد لنا إلّا الخير. وفي قولهم: «الله معنا»، أي: إنّ عناية الله تعالى ورحمته لا يتخلّيان عنّا... وما أشبه ذلك ممّا يُنقل عن العرف.

وهذه الثقافة الإلهية الجميلة تترتّب عليها حقيقتان أساسيّتان:

الأُولى: لا مكان للمُصادفات في نظام التدبير الإلهي الجملي والتفصيلي، فما يبدو من الظواهر أنّه ينتمي إلى دائرة المُصادفة، فيدخل حسب هذه الحقيقة في دائرة الحكمة الإلهية العنائية، ويُمثّل حلقة من سلسلة الحوادث التي تنضوي تحت سقف ما يُريده الله تعالى.

الثانية: أنّ الإنسان لا يصل إلى السعادة والهناء إلّا في كنف الابتلاء الذي يقتضي مرّةً الصعود، ويستدعي مرّةً النزول؛ وذلك لأنّ الحقيقة الإنسانية تصل إلى كمالها بمبادرة تقتضيها إرادتها التي تُستضَاءُ بالعاقلة أو الواهمة، وقد يأتي تشخيصُ داعي الفعل بما يُناسب الحقيقة الإنسانية فتمسّها السعادة والهناء، وقد يأتي بما يُخالفها ويُضادّها، فلا محالة يمسّ الإنسانَ الشقاء والضلال.

يقول العالم بوسيه: «إذا ظهر لكم بعض الفوضى [في الكون]، وأنّ الجزاء يتحرّك إلى الفضيلة بطيئاً، وأنّ العقاب لا يتعقّب الرذيلة عن قرب، فتدبّروا في أبدية الذات الأُولى، وفي غاياتها التي هُندست في الفضاء الواسع لهذه الأبدية الثابتة، والتي لم تمسّها مدلهمّات السنين والقرون التي تمرّ أمامها مرّ السحاب، فيحتاج الأمر إلى جميع وقت العالم حتّى تتحقّق مُقتضيات الحكمة الإلهية البالغة.

ونحن المخلوقات البائسة، نريد أن نرى ـ في أيّام معدودة تنقرض سريعاً ـ جميعَ إنجازات الله تعالى متحقّقة! ذلك لأنّنا ونصائحنا [رؤانا] المحدودة بزمن قصير، نريد من اللامتناهي [الله تعالى] أن يتحدّد بدوره بالحدود نفسها، وأن يُحقّق في مجال ضيّق جميعَ ما هيّئته رحمته الواسعة للخيّرين، وكلّ ما ادّخرته عدالته المطلقة للشرّيرين، فالأمر بهذه الكيفية غير معقول. دعوا الأبدي يتصرّف وِفق قوانين الأبدية، بعيداً عن إخضاعه لمقاييسنا، فبدلاً من ذلك اسعوا إلى أن تتماهوا مع واسع [رحمته]»^{^[9]}.

هذا النصّ الفاخر والغني بالمعاني يُشير صراحة إلى العناية الإلهية وهي تُدبّر الكون وفق قوانين الأبدية، وكيف تتعامل مع الأشياء، بحيث كلّ شيء يظهر في أجله المسمّى لا يختلف ولا يتخلّف، فلا يُلتفت إلى حسابات الناس الضيّقة والمتسرّعة التي لا تتفطّن إلى كثير من العوامل الأساسية في تدبير الكون (التدبير الجملي والتفصيلي).

يكفي هذا المقدار من التقرير للعناية الإلهية كما جاء على لسان علماء الحضارات الأُخرى، وقد رأينا أنّ المنطلقَ واحد لا يختلف عليه الإلهيّون مهما كانت انتماءاتهم ومشاربهم.

المحور الأوّل: العناية الإلهية (تعريفها، أدلّتها، قوانينها)

أوّلاً: الإطار المفاهيمي

نتناول في هذا الإطار المبادئ التصورية، أو المفاهيم التي توصِلنا إلى تعريف واضح وجلي للعناية الإلهية.

نسأل أوّلاً: ما هي العناية الإلهية؟

الجواب: العناية الإلهية: هي أن «يُحدّد الله تعالى للأشياء ذواتَها، ومساره الذي يتحتّم عليها التناغم معه، والغايات التي تقتضيها حقائقها». فقد حوى هذا التعريف مجموعة من المفردات، هي:

تحديد ذوات الأشياء، أي هندسة هويّاتها ونحو وجودها.

تحديد مقتضيات الأشياء، أي قابليّاتها واستعداداتها.

تحديد المسار التكاملي، أي القوانين التي تخضع لها في هذا المسار.

تحديد الغايات التي تتماهى فيها في نهاية المسار.

هذا؛ وأنّ العناية بالأشياء وإيصالها إلى غاياتها التي تقتضيها مسبوقة بمجموعة من المبادئ، ولا تتحقّق العناية إلّا إذا تعيّن الله تعالى (المعطي والمفيض) بهذه المبادئ. فيجدر بنا أن نُحلّل هذه المبادئ حتّى تتجلّى لنا جميع أبعاد التعريف. فما هي هذه المبادئ؟

مبادئ تحقّق العناية الإلهية

المبادئ هي عبارة عن: الحكمة الإلهية البالغة (العدالة الإلهية)، الإرادة المطلقة، القدرة المطلقة، الخيرية المطلقة. وإليك عزيزي القارئ التفصيل في هذه المبادئ:

1. الحكمة الإلهية أو العدالة الإلهية: إذا كانت العناية تمثّل النظمَ الذي تصل في كنفه الأشياءُ إلى غاياتها، فهذا النظم ينتمي إلى العلم الإلهي الأزلي.

وقبل تقرير العلم الإلهي الأزلي ـ بما يُناسب سعة البحث ـ نُبطل أوّلاً فرضية مؤدّاها: أنّ الله تعالى يعلم بذاته ولا يعلم الأشياء، كما يُنسب ذلك إلى الحكيم أرسطو^{^[10]}. وهذه الرؤية تقع في مُقابل الرؤية التي تذهب إلى أنّ الله تعالى يعلم بذاته فقط، ويعلم من خلال علمه بذاته جميعَ الأشياء. وهذه الرؤية هي الصحيحة في نظرنا، بل هي المُتعيّنة.

إنّ الله تعالى يعلم ذاتَه وجميع كمالاته، وهذا العلم يُحيط بالنشأة الخلقية وبجميع ما تحتوي عليه من مُفردات وجودية، والعلاقات التي تربط فيما بينها.

إذا قلت: إنّ هذه الإحاطة يجب أن تكون على مستوى الفعل (الكون الخلقي).

نقول: إذا علم الله تعالى بذاته اللامتناهية يعلم بأشياء الكون الخلقي في أصل هذا الكون ومنشئه.

وهذا معنى كون الله تعالى يعلم من خلال علمه بذاته بجميع الأشياء، وإذا تحقّقت الأشياء في عمود الوجود، فلا يتغيّر هذا العلم، ويُسمّى حينها بالعلم الفعلي بعد الإيجاد.

وهذا العلم الإلهي قبل الخلق يطال الكلّيات والجزئيات، على خلاف ما تراه الإلهيّات الطبيعية^{^[11]}.

أمّا العناية الإلهيّة فإنّها تتعامل مع الواقعيّات المتعيّنة بالوجود، ولا تتعامل مع الكلّيات وإن كانت هذه الأخيرة هي مِلاكات تحقّق الجزئيّات والواقعيّات الفعلية. وإذا شِئْنا أن نمثّل للقضية بمثال، نمثّل بالمهندس المعماري الذي يعلم بالبناية بصفة كلية وجزئية، فإنّ علمَه هذا القبلي يغنيه عن مراجعة حقل البناء، إلّا إذا أراد أن يتفقّد مطابقة البناية مع علمه القبلي أم عدم مطابقتها له.

فالله تعالى يعلم بالأشياء التي تستقرّ في عمود الوجود بعلمه بذاته، وأنّ تقسيم هذا العلم إلى كلّي وجزئي ناتج من فهم الإنسان الضيّق، فكأنّ الإنسان قاس ذاته الناقصة على ذات الله تعالى وأسقط فهمه على علم الله تعالى الأزلي.

والشاخصة الأساسية التي يتّصف بها العلم الإلهي الأزلي أنّه علم مُطلق مُستقلّ عن الأشياء؛ فليس الأشياء الخلقية هي التي تنطبع في ذاته القدسية حتى يتحقّق العلم المثالي [science ideale] كما هو الحال في الإنسان الذي يفترض تحقّق الأشياء المعلومة عنده بشكل مثالي، ثمّ على أساسها يتحقّق العلم الحصولي على مستوى أُفق ذهن الإنسان. وبالتالي إنّ العلم الإلهي الأزلي هو عين ذاته المقدّسة الأزلية، منه تنبثق الأشياء وتتعيّن، سواء على مستوى العلم قبل الإيجاد أو على مستوى العلم بعد الإيجاد.

والحكمة الإلهية ـ التي هي العدالة نفسها ـ قبل الخلق: هي العلم الإلهي الأزلي، وهو وضع الأشياء في مكانها المناسب، ووضعها في شبكة من العلاقات مع غيرها من الأشياء الأُخرى، بحيث الكلّ يصل في الوجود ـ ظرف التكامل ـ إلى ما تقتضيه ذاته وتنحو نحوه.

والحكمة الإلهية بعد الخلق: هي العلم الإلهي الفعلي الذي هو عين الأشياء، وهي مستقرّة في عمود الوجود، وتحكمها مجموعة علاقات يقتضيها قانون الهداية (قانون الترقّي).

2. الإرادة الإلهية المطلقة: هل يكفي العلم الأزلي وحده لعلمية الخلق والإفاضة؟

الجواب: لا؛ ذلك لأنّ العلم الأزلي بمفرده لا يرقى إلى علّة الإيجاد. إنّ المهندس الذي هندس البناء لا يكفي علمه قبل عملية البناء علّة لتحقق البناء، بل يستدعي الأمر ميلاً وقوّة؛ من هنا تدخل الإرادة على الخطّ.

نتساءل: لماذا يتعيّن الله تعالى بالإرادة؟

الجواب: لأنّه هو تمام الوجود وتمام الكمال، والإرادة كمال، فتعيّن هو بهذا الكمال أوّلاً وبالذات.

والإرادة هي الميل إلى الكمال أو قوّة تتحرّك نحو ما يلائم الذات المريدة، فلا تفرق الإرادة عن العلم الأزلي، بل لنقل: إنّ الإرادة هي الذات صارت قوّة أُخرى على ضوء العلم الأزلي، وإذا كان العلم الأزلي عين الذات الإلهية، فالإرادة تكون عين الذات الإلهية.

وإذا كان الله تعالى لا يعلم إلّا ذاته، ويعلم الأشياء جميعها لعلمه بذاته، فلا يُريد إلّا ذاته المقدّسة، وبالتالي لا يُتصوّر أنّ هناك شيئاً تتحرّك إرادة الله تعالى نحوه. فالمبدأ هو الله تعالى والغاية هي الله تعالى، وإذا أراد الله تعالى ذاته المقدّسة، فقد أرادها بوصفها خيراً مطلقاً؛ لأنّ الإرادة ذاتاً تُحبّ الخير وتميل إليه.

من هنا نفهم أنّ الله تعالى إذا أراد ذاته الموصوفة بالخير لا يعني بحال من الأحوال أنّه يكسب شيئاً من الكمال، بل هو وجود لا متناهٍ يُفيض الكمال على مخلوقاته، فتصدق الإرادة المطلقة حينها على الله تعالى فقط^{^[12]}.

فتبيّن لنا إلى هنا أنّ هناك شرطين للعناية الإلهية، هما: العلم الأزلي، والإرادة الحرّة، أي: إنّ الله تعالى يعلم، وإنّ الله تعالى يُريد.

نتساءل: هل أنّ الله تعالى في مقام إرادته حرٌ؟ فقد يُتوهّم أنّه تعالى خاضع لقاهرية ناشئة من طبائع الأشياء التي تُسيطر عليه، أو يكون خاضعاً لقاهرية ناشئة من كمالاته اللامتناهية.

ونسأل: مَن قهر الذات الإلهية وجعلها تخضع لـمُقتضياته مسلوبة الحرّية والمبادرة؟ فإنّ الأمر لا يخلو من وجهين: إمّا إله آخر لا متناهٍ، وهذا ينافي التوحيد (وحدانية الإله). وإمّا المخلوق هو القاهر، والمخلوق في الأصل متقوّم بالله تعالى، وينال هويّته وكماله منه تعالى، فلا يُتصوّر أن يأتي ويقهر الذات الإلهية في تعيّنها بأفعالها.

نضيف إلى ذلك: إنّ الله تعالى يخلق الأشياء على أساس علم أزلي وانطلاقاً من فنٍّ وتخطيط مُحكم، فلا يمكن على هذا الأساس أنّ يؤثّر فيه فنّه السابق ويقهره في فاعليّته؛ فإنّ هذا الأمر مُفارقة في حدّ ذاته وشنيع جدّاً.

وهل من الضروري أنّ الله تعالى يفعل ويتعيّن بالإيجاد؟

الجواب: لا؛ لأنّ الله تعالى له أن يتعيّن بالفعل وألّا يتعيّن به. وآية ذلك أنّ الكون الخلقي حقيقة ممكنة (كما أنّها قد تقبل الإيجاد، فإنّها قد لا تقبل الإيجاد)، وهذه الخاصّية لا علاقة لها بالعلّة التي توجد الكون، وبالتالي فإنّ الكون الخلقي بوصفه غيرَ ضروريّ يُفاض بطريقة غير ضرورية من علّة ضرورية.

وهذا التحليل الراقي يُبطل ما بنى عليه سبينوزا (Spinoza) منظومته الإلهية الخطيرة في كتابه الأخلاق (Ethics)، من أنّ الله تعالى يفعل بالضرورة، وأنّ الكون هو تعيّن من تعيّنات ذاته، ما يعني أنّ الله تعالى هو مجموعة الأشياء، وهذا يُنافي المبنى الصحيح من أنّ الله تعالى حقيقة شخصية متميّزة عن جميع ما سواه. وهذا الاتّجاه يُسمّى في الإلهيّات بالواحدية^{^[13]}.

3. القدرة المطلقة: لا شكّ أنّ الله تعالى قادر بالقدرة المطلقة؛ لأنّه كمال كلّ الكمال وتمام كلّ التمام، والقدرة كمال، فالله تعالى قادر بالقدرة المطلقة.

وهل يقدر على كلّ شيء يُتصوّر (حتى المستحيلات)؟

هنا نقول: مَن يُثير هذه المسألة لم يتثبت القدرة، بل أثبت اللاقدرة؛ وذلك لأنّ المستحيل هو رفع الوجود، فيخرج حينها عن دائرة القدرة مطلقاً؛ لأنّ رفع الوجود يُساوق العدم، والعدم لا تتعلّق به القدرة، ولا تفيض عليه الوجود.

ما هي الخاصّية التي تتميّز بها القدرة الإلهية؟ هل هي اعتباطية، أو هي عادلة؟

قد يُتوهّم أنّ كلمة العدالة تعني أنّ الله تعالى مديون لشيءٍ غيره ـ أيّاً كان هذا الشيء ـ في دار الوجود، والله تعالى يستحيل أن يكون مديوناً لأحد؛ إذ هو مانح الوجود ومُعطي الخيرات، وهو مصدر كلّ فيض وبركة.

لكنّ الله تعالى لما أوجد الأشياء وعيّن حقائقها جعلها تخضع لنظم خاصّ حتّى تصل إلى ما تقتضيه حقائقها، وراعى النظم الذي تقتضيه الأشياء؛ بأن أعطى كلّ موجود ما تقتضيه ذاته من كمال. وهذا النظم هو عين حكمته العملية، فليس يخرج من فعله، بل هو في صميم فعله، وهذه هي العدالة التي يتّصف بها الله تعالى.

فالله تعالى لكونه متّصفاً بالحكمة المطلقة، أوجد الأشياء على نحو ما هي عليه، ثمّ أفاض عليها ما تقتضيه من كمال وما تستحقّه في لبّ طبيعتها وحقيقتها، فإذا أوجد الأشياء والحقائق الخلقية فحكمته البالغة تقتضي أيضاً أن يُراعيها ويمنحها ما تستحقّه وما تصبو إليه حقائقها بما تحمل من قابليّات، وفي غير هذه الحالة فقد تصرّف خلاف حكمته؛ الأمر الذي يستحيل على الله تعالى، وبالتالي فإنّ القدرة الإلهية وإن كانت مطلقة، إلّا أنّها تفعل في دائرة العدالة الإلهية، وليست قدرة اعتباطية تتعيّن بما تشاء.

4. الخيرية المطلقة: الخيرية غير القدرة المطلقة، وغير العدالة المطلقة؛ فإنّ الخيرية تُحدّد نوعية الفيض، وبالتالي هي حيثية (صفة) غير القدرة والإرادة والعدالة والحكمة؛ وذلك لأنّ الذات الإلهية لقداستها فهي محبوبة، أي تُريدها الإرادة الخلقية وتحبّها، فهي الخير المطلق الذي تصبو إليه الإرادة الممكنة، وأنّها رحيمة تمنع الشرّ أنّ يمسّ المحِبّ والمتحرّك نحوها.

وهل أنّ الحبّ (الحركة نحو الخير المطلق) هو حيثيّة عاطفية تتّصل بالبُعد الحيواني في الإنسان؟

الجواب: لا أبداً، بل الحبّ هو إرادة نبيلة وشريفة؛ ومن هنا ننفتح على قاعدة ذهبية هي: (إنّ الله تعالى لا يُحبّ مخلوقاته لأنّها خيّرة، بل إنّها خيّرة لأنّ الله تعالى يُحبّها)؛ فإنّ ملاك تكامل المخلوقات يعود إلى مقدار مشاركتها لهذا الحبّ الإلهي النبيل والطاهر.

هذا؛ وأنّنا بعد أن بيّنا مكوّنات العناية الإلهية ـ أي المبادئ التي تقوم عليها العناية الإلهية ـ نأتي الآن إلى تعريف العناية بشكل أبسط وأوسع.

فإذا انطلقنا من الحكمة الإلهية نصل إلى أنّ العناية الإلهية هي فكرة تخطيطية، وليست فكرة تخطيطية مطلوبة لذاتها، بل تمثّل أحكاماً إلزامية للحاكم والسلطان. فإذا ركّزنا على حيثية التخطيط وحيثية الإلزام؛ فنحن في دائرة العناية الإلهية، وإذا ركّزنا على سريان هذا التخطيط في كنف العِلل الخارجية التي تتعيّن بها الحوادث الخلقية؛ فنحن في دائرة التدبير. ومن هذا التحليل نعي جيداً الفارق بين العناية الإلهية والتدبير^{^[14]}.

وهذا التخطيط هو تخطيط فيه الخير والصلاح للمخلوقات، وفيه الرحمة السارية التي تمثّل أوج العدالة الإلهية ونهاية الحكمة البالغة.

تأسيساً على هذا؛ يمكننا تعريف العناية الإلهية ـ بتعريف جامع ـ بأنّها: «تخطيطٌ إلهي يوصل الأشياء في فضاء التدبير إلى غاياتها التي تقتضيها طبائعها»^{^[15]}.

في التعريف أعلاه عدّة مفردات يتعيّن علينا شرحها وتبيينها:

التخطيط الإلهي: قد بيّنا هذا الأمر فيما سبق، وقلنا: إنّ هذا التخطيط يتعيّن بشاخصة هي الإلزام، بمعنى أنّ التخطيط نظم يجب أن تخضع له الأشياء، وهنا تدخل مفردة التدبير على الخطّ، أي: إنّ التدبير حيثيّة تعليليّة لتحقّق مقتضى ذلك الإلزام في عمود الوجود.

الإيصال: إنّ الله تعالى يُشارك في وصول الأشياء إلى غاياتها، وملاك هذه المشاركة أمر ذاتي في الحقيقة الإلهية، ولو لم تتحقّق هذه المشاركة لباتت الأشياء مُستقلّة عن الذات الإلهية، وتلاشت الربوبية وانتفت نهائياً.

الغاية: هي ما يُخرج الموجود من دائرة ذاته ويجعله يفعل في الخارج. فالغاية هي صورة قصدية في وعي الفاعل يتحرّك على هديها ويتعيّن بالفعل الذي يوصله إلى الغاية الخارجية في نظم الوجود الخارجي، فيتلبّس بالكمال ويشتدّ وجوده ويعيش السعادة والهناء.

مقتضيات الطبائع: المقتضيات هنا أعمّ من المقتضيات المادية والروحية وما أشبه ذلك. وهذا القيد يوقفنا على حقيقة راقية، هي أنّ الله تعالى يُحافظ على الأشياء وقدراتها ويضعها في سياقها الصحيح.

وهذا البُعد يناسب التدبير، بمعنى أنّ الله تعالى في تحقيق مقتضيات النظم العنائي تصدر عنه تعالى هذه الأُمور من حفظ الطبائع ومنحها ما تقتضيه قدراتها حتّى تصل إلى غاياتها.

وهذه الاستحقاقات على قسمين:

أ ـ الاستحقاقات الأخلاقية تُمنح للطبائع حسب تماهيها بمبادرتها الحرّة في النظم الأخلاقي.

ب ـ الاستحقاقات التي تتحقّق خارج نطاق الأخلاق، وهي الاستحقاقات التي يصل إليها الإنسان بقدراته التكوينية، من قبيل المواهب والاستعدادات وما أشبه ذلك.

ثانياً: الأدلّة على العناية الإلهية

في مقام التدليل على مسألة (العناية الإلهية) تُطرح خمسة أدلّة، دليل منها ميتافيزيقي، والباقي أدلّة أخلاقية، نقتصر في بحثنا هذا على الدليل الميتافيزيقي، وعلى دليل واحد من الأدلّة الأخلاقية.

1. الدليل الميتافزيقي

مقدّمتا الدليل:

الأُولى: حدّد الله تعالى الغاية لمخلوقاته؛ لأنّ الله تعالى ذات حكيمة، بل حكيمة بحكمة بالغة، فلا تفعل من دون داعٍ وغاية. فإذا حدّد الله تعالى الغاية وأوجد الأشياء، فبالضرورة يحرّكهم نحو الغاية التي حدّدها لهم، وهذا الذي نجده في القرآن الكريم في قوله تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)^{^[16]}.

الثانية: يُريد الله تعالى أن تصل الأشياء إلى غاياتها، ويسعى لتحقيق ذلك. وهذه الحقيقة تتفرّع على الحقيقة أعلاه؛ ذلك لأنّ الله تعالى إذا حدّد للأشياء غاياتها، فإنّ حكمته تعالى تقتضي أيضاً أن يوفّر لها الوسائل الموصلة إلى الغايات؛ إذ الغايات لا تُنال إلّا بالوسائل التي تُسانخها وتُناسبها.

نتيجة الدليل: إنّ الله تعالى هو الذي يُعطي أصل الخلقة للأشياء ويحدّد لها الغايات والوسائل المناسبة، يعني أنّه تعالى يعتني بها ويراعي طبائعها وما تقتضيه من أهداف. وهذا هو معنى العناية الإلهية بعينها^{^[17]}.

2. الدليل الأخلاقي

مقدّمات الدليل:

الأُولى: كلّ شخصٍ عاقل وناضج يُدرك في عمق ضميره القانون الأخلاقي، أي قانون الحُسن والقُبح والإلزامات العقلية.

الثانية: القانون ليس من إنتاج الإنسان، فلا معنى أن يُلزم الإنسان نفسَه بمجموعة من الإلزامات، بل الإنسان يُدرك القانون كضياء يشعّ في ضميره.

الثالثة: القانون الأخلاقي ناشئ من مصدر أرقى هو الذي أودع هذا القانون في ضمير الإنسان.

الرابعة: المصدر قد أودع القانون الأخلاقي في ضمير الإنسان حتى يهتدي هذا الأخير إلى مواطن الخير؛ حتّى يعيش على وفق ما تقتضيه حقيقته الإنسانية من سعادة وهناء.

نتيجة الدليل: إنّ الله تعالى مصدر القانون الأخلاقي، قد اعتنى بالإنسان بفضل هذا الإيداع. وهذه هي العناية الإلهية في صميم هويّتها^{^[18]}.

ثالثاً: قوانين العناية الإلهية

هناك قاعدة يتعيّن علينا الإشارة إليها حتى تتبيّن لنا القوانين العنائية، والقاعدة هي: (إنّ الموجودات المختارة ـ كالإنسان ـ يتأتّى منها التمرّد على النظم القيمي، ولا يتأتّى منها التمرّد على العناية الإلهية)؛ وذلك لأنّ النظمَ القيمي دائرة من دوائر العناية الإلهيّة، فمَن يتماهى في النظم فهو في دائرة العناية، كما أنّ مَن يتمرّد عليه يبقى في دائرة العناية الإلهية، فالعناية أشمل دائرة من نظم القيم.

قد يُثار هنا إشكال، وهو: ما تفسير الأمر إذا تحرّك الإنسان في مواطن المعصية؟

نقول: ننظر إلى المسألة من زاويتين:

الأُولى: الزاوية التكوينية (نظام الأسباب والمسبّبات): فإنّ الله تعالى من هذه الزاوية مشارك؛ لأنّ العِلل جميعها تنتهي إليه تعالى.

الثانية: الزاوية القيمية: فالمعصية بهذا اللحاظ نقص وضعف وخلاف القيم، فهنا لا معنى للمشاركة الإلهية، ولا تكون بأيّ حال من الأحوال، فهي حينئذٍ أُمور عدمية لا هوية لها حتّى تستدعي علّةً توجدها أو سبباً يُحقّقها، وبالتالي لا معنى لإيجاد الله تعالى المعصية التي لا موضوع لها حتّى تقبل الوجود.

نسأل: كيف تتّم مشاركة الله تعالى في تحقّق مقتضيات العناية الإلهية في فضاء التدبير؟

الجواب: يمكننا أن نتصوّر مستويات لتدخّل الله تعالى (آليات التدخّل)، نشير إليها فيما يأتي:

يُحرّك العقل الإنساني.

يُثير القلب الإنساني.

يُرشّح المسبّبات من أسبابها.

يُهيّئ الظروف الموضوعية حتى تتعيّن الأفعال.

يُوظِّف الشرّ لخدمة الخير.

يُرجع الفوضى إلى النظم.

تأسيساً على ما بيّناه أعلاه؛ نعي كيفية تجلّي العناية الإلهية، وكيف يُحقّق التدبير الإلهي مقتضياتها في دار الوجود. فمرّة يُبادر الإنسان إيجابيّاً كما الحال في الثورات التي تتحقّق هنا وهناك في مناكب الأرض، ومرّة يتدخّل الله تعالى مباشرة، كما نرى ذلك في الحلول الكبيرة التي يمنحها من حين إلى حين كي تعتدل أُمور الإنسان، وجميع هذه الأُمور توصل إلى الغاية المتوخّاة.

نسأل: ما هي الطرق التي نصل من خلالها إلى معرفة سياقات العناية الإلهيّة؟

الطرق هي:

الوحي، أي ما يصلنا من حقائق عن طريق الأنبياء، تحكي حالات الأُمم والشعوب في قيامها وانحطاطها وزوالها.

العقل، وهو يتأمّل في الحوادث حتّى يصل إلى قوانين كلّية تخضع لها الحوادث في بروزها واختفائها.

التاريخ وما سجّله لنا من أحوال الأُمم والحضارات في صعودها ونزولها وفي تألّقها وانحدارها.

وفيما يأتي نبيّن قوانين العناية الإلهية:

القانون العنائي الأوّل: إيصال الإنسان إلى غايته التي تقتضيها طبيعته مع احترام كامل لحرّيته.

شرح القانون: إنّ الإنسان خلقه الله تعالى لغاية، وهي أن يرقى إلى كماله النهائي المُتمثّل بالاستحواذ على الحقيقة والخير المُطلق؛ فإنّ الهدف النهائي من تعيّن الله تعالى بالعناية هو هذا الأمر؛ فإنّ الله تعالى يقدّر حرّية الإنسان التي تُمثّل خاصّية ذاتية له، وهذا الحرّية قد توصله إلى الحضيض إذا أفرط فيها وفعّلها في سبيل غير سبيل الله تعالى.

نسأل: ما هو الإطار الذي يؤمّن الله تعالى به هذا الأمر؟

الجواب: هو الناموس الإلهي الأكبر المتمثّل بالإسلام؛ فإنّ الإسلام تتمثّل وظيفته بنشر الحقيقة وتأمين الفضيلة، يقول الله تعالى في مُحكم كتابه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)^{^[19]}، فقد أناط الله تعالى عدم الضلال والشقاء باتّباع الهدي الإلهي، فالهدي الإلهي ـ أي الإسلام ـ هو الوحيد الذي يُؤمّن للإنسان كماله الحقيقي وسعادته السرمدية.

القانون العنائي الثاني: ننفتح على هدي البيان أعلاه على أنّ الإسلام والمحافظة عليه قانون آخر أساسي في العناية الإلهية. والنتيجة من هذا كلّه أنّ بقاء الإسلام الذي يؤمّن الحقيقة والفضيلة أمرٌ حتمي في النظم العنائي.

القانون العنائي الثالث: يجب أن يُجدّد هذا الإسلام إذا مسّه في سريانه التطبيقي التغيّر واعتراه الانحراف. وهذا ما يُطلق عليه في المجال التداولي الديني عنوان (الإصلاح).

نسأل: ما هي عِلل التغيّر والانحراف في السريان التطبيقي لقيم الإسلام؟

هذه العلل تُختزل فيما يلي:

1. السياسة، أي السلطة التي تستخدم القوى والحيل حتى تُحرّك القيم الإسلامية في اتّجاهات تخدم مصالحها ومنافعها، ممّا يفرّغ القيم من محتواها الإلهي وتُمسي طقوساً بلا روح، ولا فاعلية لها في حياة الناس.

2. الأيديولوجيّات، من قبيل القومية والليبرالية والشيوعية وما أشبه ذلك؛ لأنّها تضع نفسها في عرض الإسلام كنمط حياة يُفرض على الناس فرضاً، الأمر الذي يُبعدهم عن القيم الإسلامية ويجعلهم ينفتحون على قيمٍ أُخرى لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة.

القانون العنائي الرابع: الحكم الذي يقف في وجه القيم الإلهية ويظلم مَن يحكمهم زائل لا محالة؛ وذلك لأنّ الحكومات يجب أن تعمل بما يعود بالخير على شعوبها، وهذا الأمر لا يتحقّق إلّا إذا تصرّفت الحكومات وفق العدالة، أي أن تُراعي حقوق الناس، وتعطي لكلّ مستحقّ ما يستحقّه. وإذا تحقّقت العدالة وتأمّنت حقوق الناس، حينها يلتزم الناس بالقانون الذي يعني الإطاعة للسلطة، وإذا ضعف الحاكم يؤدّي ذلك إلى ضعف الحكومة، فينتفي النظام الحاكم من الساحة نهائيّاً.

والحرّيات التي تتمتّع بها الشعوب في ظل نظام عادل إذا أفرطت الأُمّة في التعيّن بمقتضاها، فإنّ الأمر سيؤول إلى الفوضى، وبالتالي ينقلب النظام من نظام الحرّيات إلى الدكتاتورية الظالمة.

نسأل: ماذا يحدث إذا طال الظلم أفراد الأُمّة واستحكم واشتدّ؟

الجواب: هنا تدخل مفردة الثورة على الخطّ، بمعنى أنّ تغييراً جذرياً سيحدث على مستوى بنية الحكومة والمجتمع المدني.

وفي هذا الضوء تُثار مجموعة أسئلة، منها: ما هي الأسباب التي تؤدّي إلى الثورة؟

ومن أهمّ تلك الأسباب:

أوّلاً: الأيديولوجية: لا يمكن للثورة أن تتحقّق من دون أيديولوجية تُفعّل عقول الشعوب وتُنعش القلوب وتُحرّك الإرادات، فالأيديولوجية هي التي تُحرّك النوع الإنساني، فلا تتحقّق الثورة الخارجيّة (الاجتماعيّة) ما لم تتحقّق الثورة الداخلية. وهذا يعني أنّ ما يتجلّى في الخارج من تغيير جذري هو تعيّن لتغيّر فكري عميق، فالأفكار هي التي تُحرّك الشعوب وتدفعها إلى الثورات التي تُغيّر بُنية الحُكم والمجتمع.

ثانياً: الاضطهاد، وهو قد يُحرّك الأُمم؛ فتتمرّد على الحكم الفعلي وتسقطه من دون رجعة. والدافع الأساس الذي يُحرّك الشعوب نحو الثورة على الوضع هو الدفاع عن النفس. والآلية هي أمران:

الاحتياط اللائق، أي اتّخاذ الموقف العقلاني على وفق ما تُمليه الظروف الموضوعية.

القوّة الضرورة؛ فإنّ الشعوب لا تحقّق ثورة وهي ضعيفة هزيلة مُتهرّئة ومشتّتة، ومنقسمة على نفسها، فتحتاج إلى وحدة تجمعها وتمنحها القوّة والعزيمة.

والسؤال المُثار هو: هل أنّ الثورات تكون جميعها مشروعة؟ وإذا كانت غير مشروعة، فلماذا تُجيزها العناية الإلهية؟

أمّا كون بعض الثورات ليست مشروعة وتتعيّن بالإجرام والظلم فحقّ، والأمر لا يحتاج إلى دليل، بل يكفي شاهداً على ذلك ما نقله لنا التاريخ. وأما كيف تُجيز العناية الإلهية ظلم الثورات وفتكها بالأبرياء وغيرهم، فذلك يعود إلى أمرين:

الأسباب الثانوية لها تأثيرها؛ لأنّها هُندست في التكوين كذلك.

العناية الأخلاقية، أي إنّ العناية الإلهية تضع الإنسان في إطار القيم من باب: (ِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا...)^{^[20]}.

هذا؛ وأنّ الثورات في منطق العناية الإلهية من ورائها داعيان، هما:

الداعي الأوّل: هو العقاب الإلهي، وهذا يتحقّق إذا وصلت الأُمور إلى ضرب الثوابت الطبيعية والتشريعية.

الداعي الثاني: هو أن تحيا الأُمّة من جديد بنهضة عادلة تُعيد النظم إلى أصله ومعدنه، وقد يستدعي هذا الأمر التضحية والفداء.

المحور الثاني: تجلّي العناية الإلهية في النهضة الحسينية

نأتي إلى لباب موضوعنا الذي هندسنا هذا البحث لأجله، وهو النهضة الحسينية في كنف العناية الإلهية، فأول سؤال يُثار في هذا الصدد هو: هل يصدق على النهضة الحسينية المباركة عنوان الثورة؟

إذا تأمّلنا في الدراسات التي تهتمّ بأُمور الثورات والتغيّرات الأساسية التي حدثت في التأريخ، يكون الجواب بالنفي؛ وذلك لأنّ الثورة تعني التغيّر الجذري في نمط التفكير أوّلاً، ثمّ يسري هذا النمط الجديد في مفاصل المجتمع كافّة، فيمسّ التغيّر مؤسّسات الدولة في جذورها، فتتغيّر كلّ من القيم ونمط الحكم والتقاليد والقانون والأعراف، ممّا يعني أنّ نمط حياة جديد مسّ الناس في فكرهم ووعيهم وسلوكهم، فما كان قائماً نُسِخَ بتمامه ودخل في المحاق ولا يمكن أن يعود أبداً.

وهذا ما نلمسه في ثورات كثيرة من قبيل: الثورة الفرنسية التي غيّرت نمط حياة أوروبا كلّها، من سيطرة الملك على مقاليد الحكم إلى الحكم الديمقراطي، من هيمنة الكنيسة بالمقدّس إلى النظام العلماني، من تسلّط طبقة الأشراف إلى المشاركة الديمقراطية، من الملكية الإقطاعية إلى الصناعة (دعه يعمل)، من حصر المعرفة في أبناء الملوك والقساوسة إلى ديمقراطية التعليم، من دكتاتورية الملك إلى الليبرالية السياسة القائمة على الدستور.

والمثال الثاني: هو الثورة البلشفية في روسيا التي قلبت خريطة المنطقة في كلّ أبعادها، من الإيمان بالديانة المسيحية إلى الإلحاد، من النظم السياسي الملكي إلى حكم الطبقة الكادحة، من الملكية الإقطاعية إلى ملكية الدولة.

والمثال الثالث: هو الثورة الأمريكية التي جاءت بنمط جديد من الثقافة والقيم حكمت أمريكا دولة وشعباً، بأن أسّست لنظام حكمٍ يقوم على مؤسّسات دستورية تعتمد على قانون فصل السلطات، والمؤسّسات تخضع كلّها للدستور الذي يرمز إلى توافق الشعب الأميركي.

فعلى هذا المقياس أو الرؤية يصير ما حدث بعد وفاة النبي الأكرم| هو الثورة، وما قام به الإمام الحسين× هو عملية إصلاح وإعادة النظم إلى أصله ومعدنه؛ وذلك لأنّ الذي حدث في السقيفة وغيرها يُشكّل تغييراً جذريّاً لما أسّسه النبي الأكرم| من رؤى إلهية، سواء أكان على مستوى الحكم، أم التشريع، أم الأخلاق، أم العدالة، أم الأعراف الاجتماعية، أم ما أشبه ذلك.

والعمود الفقري لهذه الثورة (حدث السقيفة وما تلاها من توابع)، هو ضرب المشروعية الإلهية في الدولة واستبدالها بمشروعية القوى (إن صحّ أن يكون للقوى مشروعية)، وهذا يمثّل انحرافاً كبيراً في نظام الإسلام، والباقي من تجليات هذه الثورة البائسة فرعٌ لهذا التأسيس الشنيع الذي يشكّل ضرباً لأُسّ الإسلام، وموجباً لتفكّك الأُمّة وتشرذمها^{^[21]}. وبالتالي إنّ الثورة التي حدثت هي ضربٌ لحكمة الله البالغة، وضربٌ للأُمّة بتفكيكها وضياع وحدتها، واختفاء الأمن في مناكبها.

والأمر الذي لا يقلّ خطورة من هذا التغيّر الشنيع أنّ الثورة البائسة أسّست لبطانة علمائية نظّرت لمفاهيم دينية لا تمتّ بصلة إلى الإسلام المحمّدي الأصيل، ناسبت توجّهات الثورة المتمثّلة باستبداد الحكم وتسلّطه. فالسلطة اكتسبت المشروعية الدينية الظاهرية من البطانة العلمائية، والبطانة نالت العطاء والإمكانيات من السلطة، فتوافقت المصالح واتّسقت الأُمور للاثنين.

فالدولة الجديدة في باطنها لا دينية، وفي ظاهرها تتحرّك في قيم الإسلام العامّ، وهذا ما يُفسّر مضمون قول النبي الأكرم| لوصيّه علي×: «أنا أُقاتِل على التنزيل، وأنت تُقاتل على التأويل»^{^[22]}؛ فإنّ التأويل هو إرجاع الشيء إلى أصله، وهذا يعني أنّ شيئاً خطيراً سيمسّ الإسلام في عُمقه، وسيأتي الوصي ويعمل على إرجاع الوضع إلى نظمه الأصلي.

قد يُثار هنا سؤال: ما هو مبرّر خروج الإمام الحسين×؟

نقول: إنّ فلسفة النهضة الحسنية إذا قاربناها طبيعياً وبما يحكم به العقل السليم، نجدها تتمثّل بنهضة إصلاحية تحمل رؤية إلهية بامتياز؛ وذلك لأنّ الحاكم القائم الذي كان يتحرّك في مناكب الثورة بكلِّ ما تحمل من قيم جاهلية تقع في عرض القيم الإلهية التي تتجسّد بشخص الإمام الحسين×، كان يفتقد لعنصرين مهمّين قد تمّ لحاظهما في القانون العنائي الأوّل ـ الذي هو: (إيصال الإنسان إلى غايته التي تقتضيها طبيعته مع احترام كامل لحرّيته) ـ وهما المشروعية، واحترام الحرّيات.

وبيان ذلك بالشكل التالي:

1ـ إنّ الذي يوصل الإنسان إلى غايته الحقيقية التي تقتضيها طبيعته، يجب أن يحمل في وجوده حيثية تُناسب هذا القانون، وهذه الحيثية هي ما نُطلق عليها عنوان (المشروعية)؛ وبالتالي إنّ النظام الذي يفتقد للمشروعية لا محالة سيزول ويختفي.

2ـ إنّ النظام القائم الفاقد للمشروعية الحقيقية التي تنبثق من أصل الإسلام، لا يوجد أمامه لترسيخ أركان السلطة إلّا القوّة والجبروت، وهذا ما كانت تُعاني منه الأُمّة في زمن الإمام الحسين×، باستثناء الفئة التي كانت مرتبطة بالسلطة من طبقة اجتماعية مترفة، وبطانة علمائية تعيش على العطاء.

وعليه؛ فقد اجتمع في النظام القائم آنذاك عنصران يضادّان ما يقوّم الحُكم العادل:

العنصر الأوّل: انعدام المشروعية الإلهية، أو في الحدّ الأدنى المشروعية الديمقراطية.

العنصر الثاني: هو انتفاء الحرّيات التي تعني الكرامة الإنسانية.

فالعناية هنا قد خطّطت بالفعل لزوال هذا الحُكم، والنهضة الحسينية المباركة هي التدبير الإلهي الذي يحقّق مُقتضيات هذه العناية، فتعيّن عنائيّاً الخروج والحركة نحو التغيير وتحقيق الإصلاح. أمّا ما هي الآلية التي حدّدتها العناية الإلهية لتحقق التغيير في مجال التدبير فسنُعالجها لاحقاً.

هذه الحقيقة التي أوضحناها أعلاه تتجلّى في كلمات الإمام الحسين× شاخصة، يقول الإمام×: «أيّها الناس، أنا ابن بنت رسول الله|، ونحن أولَى بولاية هذه الأُمور عليكم من هؤلاء المُدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالظلم والعدوان، فإنْ تثقوا بالله وتعرِفوا الحقّ لأهله؛ فيكون ذلك لله رضاً، وإنْ كَرهتمونا وجهلتهم حقّنا، وكان رأيكم على خلاف ما جاءت به كتبكم وقَدِمت به رُسلكم، انصرفت عنكم»^{^[23]}.

النصّ المبارك أعلاه صريح في كون المشروعية مفقودة في الحاكم الفعلي، بل القوّة هي التي ساندت نظام الحكم، ولولا هذه القوّة لما بقي النظام البائس ساعة من النهار.

يقول الإمام×: «ونحن أَولى بولاية هذه الأُمور عليكم من هؤلاء المُدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالظلم والعدوان».

وهذا النصّ يُشير إلى الحقيقة التي بيّناها القانون العنائي الرابع، والحقيقة هي أنّ المشروعية الإلهية التي توصل الإنسان إلى غايته الحقيقة، وتُأمّن العدالة، إذا استُبدلت بمشروعية زائفة استعمل صاحبها القوّة والعنف وتحقّق حينها القهر والظلم، فلا محالة يتعيّن زوال هذا الحكم واندثاره. والآلية هي نهضة إصلاحية مباركة، يحمل صاحبها المشروعية الإلهية التي تُناسب الإنسان، فيتجسّد القانون العنائي الأوّل.

ومن أقواله× أيضاً: «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفسَاد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقُّ مَن غيَّر»^{^[24]}.

يُشير النصّ المبارك أعلاه إلى العنصر الذي يجعل العناية الإلهية تتحرّك في مقام التدبير، وتزيل النظام حسب التخطيط الإلهي الجملي، لا بحسب ما يتمنّاه الناس، وهذا العنصر هو الوقوف في مقابل القيم الإلهية، أي إنّ الإسلام في سياق التطبيق مسّه الانحراف، فتعيّنت عملية المحافظة على الإسلام الأصيل، وهذا مُقتضى القانون العنائي الثالث.

إنّ قول الإمام الحسين×: «... وأنا أحقُّ من غيَّر»، صريح في كون المشروعية الإلهية تعيّنت في شخصه×.

هذا من جهة، ومن جهة أُخرى؛ إنّ الإصلاح تعيّن، وإنّ هذا مُقتضى القانون العنائي الثاني.

ومن أقواله× مخاطباً أهل الكوفة: «... وتركتم بيعتنا رغبة في الفساد، ثمّ نقضتموها سفهاً وضلّةً لطواغيتِ الأُمة وبقيةِ الأحزاب نبذة الكتاب، ثمّ أنتم هؤلاء تتخاذلون عنّا وتقتلونا، ألا لعنة الله على الظالمين»^{^[25]}.

النصّ المبارك أعلاه يُبيّن ـ بصريح العبارة «وتركتم بيعتنا» ـ أنّ المشروعية لأهل البيت^، وينعت الحاكم الفعلي بالطاغوت «لطواغيت الأُمّة»، ونزع عنه المشروعية، وبيّن أنّ بيعة مَن وقف في وجه الإمام الحسين× مُحارباً تُعدّ سفهاً وضلالة.

فهذا النصّ المبارك تشخّص فيه ـ بجلاءٍ تامّ ـ مُقتضى القوانين العنائية الثلاثة الأُولى.

وبيان ذلك: أنّ الحكم وظيفته الأساسية هي إيصال الناس إلى كمالهم الحقيقي بتوفير الأمن، والعمل على تجسيد القيم الإلهية في المجتمع (القانون العنائي الأوّل)، وهذا لا يمكن أنّ يتحقّق مع حكّام طواغيت ظالمين لا يُحسنون إلّا صنع الفاسدين الذين نعتهم الإمام بالسفهاء والضالّين، فتعيّن حفظ الإسلام من الضياع والانقراض (القانون العنائي الثاني)، وتجديده ـ أي تتعيّن عملية الإصلاح ـ وإرجاع النظم إلى مجراه الطبيعي (القانون العنائي الثالث).

ومن أقواله× الأُخرى في نهضته الإصلاحية المباركة: «زعمتم أنّكم بعد قتلي تنعمون في دنياكم، وتستظلّون قصورَكم، هيهاتَ هيهاتَ، ستحاطون عن قريب بما ترتعد به فرائصكم، وترجف منه أفئدتكم، حتّى لا يُؤويكم مكان، ولا يظلّكم أمان، وحتّى تكونوا أذلّ من فرام الأَمَة»^{^[26]}.

يُشير النصّ المبارك أعلاه إلى سريان القانون العنائي الرابع، وهو أنّ الذي يقف في مقابل القيم الإلهية ويظلم عباد الله}، يزول لا محالة من عمود الوجود.

ثمّ هذه الإطاحة بالحكم تخضع في نظام التدبير إلى أسبابها، فمتى توفّرت تحقّقت حسب ما يقدّره الله تعالى في حكمته البالغة؛ وذلك لأنّ العناية الإلهية شيءٌ والتدبير شيء آخر، كلّ ينتمي إلى مقولة تخّصه؛ فإنّ العناية الإلهية خطاطة إلهية تهندس لما يكون عليه الأمر، والتدبير هو نظام الأسباب والمُسبّبات التي تؤدّي الأسباب المُعدّة دورها الأساس في تفعيل الأسباب الحقيقية.

ومن الأسباب المُعدّة ـ التي قد تتوفّر وقد تغيب ـ بصيرة الأُمّة صعوداً ونزولاً، وتهرّي الأنظمة الظالمة وقوّتها وجبروتها، والنخبة الواعية أو النائمة التي تُحرّك العامّة إلى الجادّة، وتصنع مصيرها المُشعّ أو تُخدّرها وتبقى في مستنقع الظلام والضيم، وما أشبه ذلك من أُمور.

السؤال الذي نختتم به هذا البحث هو: هل حقّقت النهضة الحسينية المباركة مقتضى القوانين العنائية؟

للإجابة عن هذا السؤال المهمّ، يجب أن نُفككّ بين النهضة الحسينية وبين موقف الأُمّة منها، ومن دون هذا التفكيك يبقى الجواب عسيراً ولا نفقه نتائج هذه النهضة العظيمة.

إنّ النهضة الحسينيّة ـ بما هي نهضة عظيمة تقع في أوج القيم الإلهية ـ قد حقّقت مُقتضى جميع القوانين العنائية الإلهية، فقد حقّقت مُقتضى القانون العنائي الأوّل في عيّنة لم يرَ التاريخ نموذجاً يُشبهها بشهادة الإمام الحسين×: «... أمّا بعد؛ فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً»^{^[27]}؛ ممّا يعني أنّ هذه الكوكبة المباركة قد وصلت بفضل النهضة الحسينية إلى أرقى درجات الكمال والنمو الروحي.

هذا؛ وأنّ القانون العنائي الأوّل لا يُحدّد هذا المصداق (مصداق كربلاء)، بل كلّما توفّرت الظروف نفسها تحقّق مُقتضاه، ممّا يعني أنّ هذا القانون في حكم القضية الحقيقية ـ عند المنطقيّين ـ تصدق على المصاديق الفعلية والمُقدّرة.

كما حقّقت هذه النهضة المعطاء مقتضى القانون العنائي الثاني، الذي يعني ضرورة المحافظة على الإسلام، فقد كانت ـ بحقّ ـ المفصل في هذا الأمر، وقد كانت هي النبراس الذي يستضيء به العاقل والتقي، ومَن يبحث عن الحقيقة والفلاح السرمدي.

وهنا من حقّنا أن نسأل: كيف حافظت النهضة الحسينية على الإسلام، مع أنّ الحكم بقي بيد الطواغيت الذين باتوا يعبثون بالمفاهيم الإسلامية كما يحلو لهم، تُساندهم في ذلك بطانة سوء من العلماء والمنافقين؟

نقول في الجواب: إنّ النهضة حقّقت شيئاً في منتهى الأهمّية، وهذا ما تُريده القوانين العنائية، وهو تبيين الحقيقة وكشفها للأُمّة، ولمن يريد الاستقامة والفلاح النهائي.

وهذه النقطة جلّتها العبارة المدوّية التي صدحت بها السيّدة زينب’ بطلة كربلاء في خطبتها الغرّاء في الشام في قصر اللعين يزيد: «والله لن تمحو ذكرنا». فبقي الإسلام على طراوته ونقائه عند مَن يُريد الحقيقة ويتّبع الصراط المستقيم، وتمّ الإصلاح الذي خرج الحسين× لأجل تحقيقه، وهذا هو مُقتضى القوانين العنائية.

تبقى مسألة إقامة العدل الاجتماعي، وهذه ليست وظيفة النهضة الحسينية المباركة، بل هي وظيفة الأُمّة، قال تعالى: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)^{^[28]}؛ فإنّ النهضة المباركة قد أقامت الحجّة على الأُمّة، وكون الأُمّة تتِّبع أو لا تتِّبع، هذا راجع إلى قانون تكويني سيكولوجي، هو أن ترقى الأُمّة إلى مستوى البصيرة (العقلانية الإلهية)، وتُفعّل إرادتها في ضوء هذه العقلانية؛ وذلك لأنّ دور الأُمّة مهمّ جدّاً في إقامة العدل الاجتماعي، ومن الشروط الأساسية لإقامة العدل أن تنصر الأُمّة صاحب المشروعية الحقيقيّة، وتُطيعه في سعيه إلى إعادة النظم الحقيقي الذي تسعد الأُمّة في كنفه، فتعيش الهناء والرقي المادّي والمعنوي.

وبالتالي؛ إذا لم ترقَ الأُمّة إلى مستوى العقلانية الإلهية، ولم تُفعّل إرادتها وتتحرّك نحو هذه الغاية، لم يتغيّر المجتمع، ويبقى على حاله، فتعيش أفراد قليلة من الأُمّة نعمة هذه الحقيقة الإلهية التي تجلّت في النهضة المباركة، ويتأخر بالنسبة إلى مجموع الأُمّة مُقتضى القانون العنائي الذي يبيد الظَلمة والطواغيت.

وقد يُسلّط الله تعالى هؤلاء الشياطين على الأُمّة حتّى تعيش مقتضى سوء اختيارها تأديباً لها، أو تتحرّك فئة مسّها الوعي الحسيني وترقى في عقلانيّتها الإلهية، فينتقم الله بها من الظالمين.

قال الإمام الحسين×: «... أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنَّة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول؛ كان حقّاً على الله أن يُدخلَه مدخلَه، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غيَّر»^{^[29]}.

جاء في هذا النصّ الراقي والجميل مجموعة مسائل تتناغم تمام التناغم مع القوانين العنائية، وهذه المسائل عبارة عن:

السلطان الجائر.

السلطان الذي يقف في مقابل القيم الإلهية.

السلطان الذي يعمل بالإثم والعدوان مع شعبه.

إنّ التكليف هو القيام في مقابل هذا الطاغية الفاسق.

وبناءً على هذه المسائل التي أشار إليها× في كلامه؛ فإنّ القانون العنائي الأوّل ـ إنّ الدولة يجب أن تعمل على إيصال الناس إلى الكمالات التي تقتضيها حقيقتهم زيادة على توفير الأمن والرفاهية لشعبها ـ لا يمكن أن يتحقّق في مقام التدبير والسلطانُ فاسد لا يُسانخ القيم الإلهية التي يجب أن يتحرّك في كنفها أفراد الأُمّة حتّى ترقى وتعيش السعادتين الدنيوية والأُخروية.

والقانون العنائي الثاني جلي في كلامه×، وهو قوله: «فلم يُغيّر عليه بفعل ولا قول؛ كان حقّاً على الله أن يُدخلَه مدخلَه»، فيجب في منطق العناية الإلهية أن يُحافَظ على الإسلام حتّى يبقى نقيّاً طريّاً، لا تشوبه المُدلهمّات التي ألصقها به الطواغيت وعلماء البلاط.

والقانون العنائي الثالث ـ يعني الحركة والخروج الفعلي لحفظ الإسلام ـ فقد جسّدت النهضة الحسينية بكلّ تفاصليها هذا القانون، وأتت أُكلها، وبقي الإسلام كما نزل على النبي محمد|، فصدق النبي الأكرم| في مقولته: «حسين منّي، وأنا من حسين»^{^[30]}.

والقانون العنائي الرابع قد تحقّق مقتضاه؛ إذ زالت دولة بني أُمّية الطاغية والفاسقة ببركة هذه النهضة الخالدة، وهذا لا يختصّ بهذه الدولة البائسة، بل كلّ دولة تزول إذا وقفت في وجه القيم الإلهية، شريطة أن تكون القيادة الإلهية قدسية أو تمتّ بصلة إلى القدسي.

يكفي هذا التطبيق للقوانين العنائية على مفاصل النهضة الحسينية العريضة بمعانيها الإلهية والقدسية.

خاتمة

إنّ الحوادث التي نُعاينها في سياقات التاريخ ـ سواء أكانت وفق ما يرضي الله تعالى قيميّاً أم لا ـ تخضع قهراً لقوانين العناية والتدبير الإلهيّين. وهذا الأمر يعود ـ إذا شئنا أن نُقارب المسألة عقديّاً ـ إلى مسألة التوحيد التدبيري الذي يُعدّ أُسّاً رئيساً في المنظومة العقدية السماوية، فلا يمكن فهم ما يحدث في عمود الزمن من أُمور إلّا على هدي العناية الإلهية التي تعني ـ فيما تعني ـ الحضور الإلهي السرمدي على مستوى هذه النشأة الدنيا؛ فإنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه النشأة وِفق حكمته البالغة، وهو تعالى الذي يعتني بها حتى تعود إلى الغاية التي حدّدها لها.

وإذا قلنا: حكمة بالغة، نعني النظم، والنظم يتجلّى بقوانين، فالعناية الإلهية تتجلّى بقوانين عنائية، ثمّ يأتي التدبير في عمود الوجود ليضع الأشياء في مراتبها وسياقاتها على هدي تلك القوانين.

والنهضة الحسينيّة المباركة لم تشذّ في مفاصلها ـ كحادثة تاريخية ـ عن هذا الناموس الإلهي، فهي كذلك خضعت للقوانين العنائية والتدبير الإلهيّين المحكمين، حتى تتحقّق مقتضيات الإرادة الإلهية بما يصلح للبشر ويخدم حقيقتهم، ويتحقّق واقعاً، فمَن يُريد من البشر الفلاح الأُخروي والسعادة السرمدية فعليه التسليم بنتائج القوانين الإلهية العنائية والتدبيرية.

فكان تحقّق هذه النهضة المباركة حتمية إلهية ولبنة أساسية في الناموس الإلهي السرمدي، فكانت هذه الكوكبة المجاهدة والطاهرة بقيادة الإمام الحسين× المجلى التامّ للقوانين العنائية التي بها حفظ الله تعالى هذا الإسلام العزيز، وبقي خالداً وطريّاً على صفائه كما نزل على قلب النبي محمد‘.

فيمكننا القول: إنّ هذه النهضة المباركة هي التي أبقت هذا الدين خالداً لا يفنيه الزمان، ولا تمسّ جماله مُدلهمّات الدهر.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

المصادر العربية

1. الاحتجاج، أحمد بن علي الطوسي، (ت القرن السادس الهجري)، تحقيق: السيّد محمد باقر الخرسان، الناشر: دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف، سنة الطبع: 1386هـ/1966م.

2. الإرشاد في معرفة حُجج الله على العباد، محمّد بن محمّد بن النعمان الشيخ المفيد (ت413هـ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت^ لتحقيق التراث، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414 هـ/1993م.

3. إعلام الورى بأعلام الهدى، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، الناشر: مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المشرفّة، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

4. بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي (ت1111هـ)، الناشر: مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية المصحّحة، 1403هـ/1983م.

5. تاريخ الأُمم والملوك، محمد بن جرير الطبري (ت310هـ)، تحقيق: نخبة من العلماء الأجلّاء، الناشر: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان.الطبعة الرابعة، 1403هـ/1983م.

6. الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي (ت314هـ)،تحقيق: علي شيري، الناشر: دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1411هـ.

7. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (ت329هـ)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية ـ طهران، الطبعة الخامسة، 1363ش.

8. كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، علي بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي (ت693هـ)، الناشر: دار الأضواء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1405هـ/1985م.

9. مسند أحمد، أحمد بن حنبل (ت241هـ)، الناشر: دار صادر، بيروت ـ لبنان.

10. موسوعة كلمات الإمام الحسين×، لجنة الحديث معهد باقر العلوم، قم المقدّسة، الناشر دار المعروف للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1416هـ/1995م.

المصادر الأجنبية

11. Platon, Les Lois., livre X, trad. Victor Cousin, t. VIII.

12. La Cité de Dieu. 1. I, chap. vin, trad. Emile Saisset, Paris, Charpentier.

13. La Cité de Dieu. Livre V, chap. ix,

14. Discours sur l›histoire universelle.

15. Louis ARNOULD, La Providence et Le Bonheur, Société française d›imprimerie et de Librairie, 1917,

16. R. P. SERT1LLANGES, Les grandes thèses de la philosophie thomiste, chap. La Providence,

17. P. BOUEDRON, COURS DE PHILOSOPHIE, la providence,.

[1] Platon, Les Lois., livre X, trad. Victor Cousin, t. VIII. p. 252.

[2] Platon, Les Lois., livre X, trad. Victor Cousin, t. VIII. p. 252.

[3] ولد الحكيم الأغسطي في مدينة أغسطا (المعروفة الآن بمدينة سوق أهراس)، التي تقع في الشمال الشرقي من بلد الجزائر. وكان من كبار علماء اللاهوت المسيحي وفلاسفة المسيحية، صاحب التأليفات الكثيرة التي من أروعها كتاب (مدينة الله). وكان رئيس كنيسة مدينة بونا التي تقع على البحر الأبيض المتوسّط (الكنيسة لا زالت إلى يومنا هذا تُعرف بكنيسة القدّيس)، مدينة بونا تعرف الآن باسم (عنابة)، تقع شرق الجزائر.

[4] La Cité de Dieu. 1. I, chap. vin, trad. Emile Saisset, Paris, Charpentier, 1855, p. 15 et suiv.

[5][5] La Cité de Dieu. Livre V, chap. ix, p. 286.

[6] La Cité de Dieu. Livre V, chap. ix, p. 287.

[7] Discours sur l’histoire universelle.

[8] Louis ARNOULD, La Providence et Le Bonheur, Société française d›imprimerie et de Librairie, 1917, p. 61.

[9] Louis ARNOULD, La Providence et Le Bonheur, Société française d›imprimerie et de Librairie, 1917, p. 84.

[10] R. P. SERT1LLANGES, Les grandes thèses de la philosophie thomiste, chap. La Providence, p. 128.

[11] The Deism.

[12] الإرادة الإلهية تبصر وتفعل، ولا تخضع للترجيح بين دوائر الخير، ثمّ بعد التدبّر ترجّح دائرة على دائرة أُخرى؛ فإنّ هذا شأن الإنسان لا شأن الله تعالى الذي يُساوق الكمال المطلق.

[13] Pantheism.

[14] R. P. SERT1LLANGES, Les grandes thèses de la philosophie thomiste, chap. La Providence, p. 131.

[15] هذا التعريف لم نجده بهذه الصياغة في الكتب التي تناولت العناية الإلهية، بل هو من اقتراحنا، وأظن أنّه تعريف دقيق جمع بين العناية والتدبير، فلا العناية لها معنى من دون تدبير، ولا التدبير له معنى من دون العناية.

[16] طه: الآية50.

[17] P. BOUEDRON, COURS DE PHILOSOPHIE, la providence, p. 370.

[18] P. BOUEDRON, COURS DE PHILOSOPHIE, la providence, p. 371.

[19] سورة طه: الآية123.

[20] الإسراء: الآية7.

[21] يقول الإمام الرضا×: «إنّ الإمامة أُسّ الإسلام». الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص200. وتقول الزهراء’: «... وطاعتنانظاماًللملّة،وإمامتناأماناً من الفرقة». الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص134.

[22] اُنظر:ابن حنبل، أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج3، ص10896، حديث33. ونصّ الحديث: حدّثنا وكيع، ثنا قطر، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن‏ ‏أبي سعيد‏، ‏قال: ‏قال رسول الله|: «‏إنّمنكممَنيُقاتلعلى‏‏تأويله‏‏كماقاتلتعلىتنزيله. قال: فقام ‏أبو بكر‏ ‏وعمر، ‏فقال: لا، ولكن ‏ ‏خاصف ‏ ‏النعل.‏ ‏وعليّ ‏ ‏يخصف ‏ ‏نعله».

[23] الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص78.

[24] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص304.

[25] الكوفي، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص133. واُنظر: الإربلي،عليبنعيسىبنأبيالفتح،كشفالغمّة: ح2،ص18.

[26] لجنة الحديث معهد باقر العلوم، موسوعة كلمات الإمام الحسين×: ص 600.

[27]المفيد، محمد بن محمد،الإرشاد في معرفة حُجج الله على العباد:ص250. واُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى:ص234. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج6، ص238ـ 239.

[28] الحديد: الآية25.

[29]الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك:ج4،ص304. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل، ج3، ص280.

[30]ابن حنبل، أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل: ج4، ص172.

العناية الإلهية والنهضة الحسينيّة في ضوء فلسفة التاريخ