المقدّمة

ابتنت الشريعة المقدّسة على أساس توافر الملاكات في جميع أحكامها الفقهية والأخلاقية بما يُحقّق المصلحة العامّة للمجتمع، ولا يظنّ المرء أنّ هذه المصالح مقتصرة على ثواب الآخرة والفوز بنعيمها، بل هي شاملةٌ لتحقيق السعادة في دار الدنيا والعيش الرغيد.

إنّ تلك التشريعات متفاوتة في شدّة الإرسال والطلب من الناس بامتثالها، فقد تكون واجبة الامتثال؛ لأهمّيتها وقوّة ملاكها في عالم الثبوت، وقد تكون أقلّ درجة في الأهمّية، فتصدر على نحوٍ غير ملزمٍ للناس، وهي المستحبّة. وموضوع الزيارة الحسينية من الأحكام المستحبّة بشكلٍ مؤكّد إن لم تكن واجبة ولو في العمر مرّة.

لم تخلُ النصوص القرآنية المقدّسة من إشاراتٍ بيانية لإرشاد الناس إلى أهمّية إحياء تلك الزيارة بصفتها من أهمّ الشعائر الدينية على غرار فريضة الحجّ المقدّسة، وكان دور الأخبار الواردة عن المعصومين^ (السُنَّة المطهّرة) هو التفصيل البياني لعوائدها على الزائر بعد الإجمال القرآني في التأكيد على أهمّية الزيارة الحسينية في حياة المسلمين في الدنيا والآخرة.

لأجل ذلك؛ اخترتُ تلك الأخبار الشريفة في كتابة مقالتي الهادفة إلى تنوير الزائر الكريم بمنافع الزيارة في الدنيا والآخرة؛ ليكون على بصيرة من أمر زيارته، ومستشعراً لآثارها، فيندفع نحوها بكلّ شوقٍ ولهفة، وبهذا يكون الهدف نبيلاً وواعزاً للإكثار منها؛ إحياءً للأمر الإلهي، ونصرةً للدين الحنيف والمذهب الشريف، ثمّ جرّ المنفعة لنفسه في الدارين.

بعد استقراء الروايات وجدتُ أنّ المصالح تتوزّع بين المنافع الدنيوية تارةً، وتتعدّى لمنافع يوم الآخرة أُخرى، وهي الأبقى والأجدر بالحرص على تحصيلها؛ وعليه نوّعت البحث بتقسيمه على مطلبين، هما: الأوّل: في المنافع الدنيوية الزائلة. والثاني: في المنافع الأُخروية الخالدة. مع التمهيد بأمرين مهمّين: أوّلهما: الاطّلاع على المعنى الاصطلاحي لمفردة (الاجتماع)، وثانيهما: التطرّق لمشروعية الزيارة لمراقد الأئمّة^ والصالحين، ثمّ ذيّلتُ المحورين بخلاصة، وختمتُ بالنتائج.

توطئة

القارئ الكريم بحاجةٍ إلى الاطلّاع والتعرّف على المعنى المفهومي لمفردتي (الدنيا والآخرة)، ومدى سعتهما في حياة الناس، وأيضاً يلزمه الاعتقاد بشرعية الزيارة لمراقد أهل البيت^ والصالحين قبل الولوج في معرفة منافعها، فتحقّق شرعية الموضوع سابقٌ على معرفة منافع الحكم وثمراته.

فتقرّر بيان الأمرين في نقطتين هما ما يلي:

أوّلاً: مفهوما (الدنيا والآخرة)

الدنيا لُغةً: من الدنو والاقتراب والأقلّ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى)، يعني الأخس، وهي نقيض الآخرة وضرّتها. والدني من الرجال: الساقط الضعيف الذي إذا آواه الليل لم يبرح ضعفاً، والجمع أدنياء. وتدانت إبل الرجل: قلّت وضعفت. ودنى فلان: طلب أمراً خسيساً^{^[1]}. فالدنيا هي دار الفناء، وفيها العمل دون الحساب.

الآخرة لُغةً: مؤنّث آخر، ومن أسماء الله تعالى الآخر والمؤخِّر، فالآخر: هو الباقي بعد فناء خلقه كلّه. والآخرة: هي الباقية بعد فناء الدنيا، وهي نقيض الدنيا المتقدّمة. وقيل: معنى أخِّر عنّي رأيك، أي: اختصر إيجازاً وبلاغة. فالآخرة: هي خلاصة عمل الإنسان في دنياه، وعاقبة كلِّ شيء^{^[2]}.

ثانياً: محبوبيّة زيارة قبور الأولياء

ارتأيتُ أن أُذكّر القارئ الكريم بأهمّية زيارة قبور الأولياء، والردّ على تخرصّات الفرقة الوهابية المبتدعة مؤخّراً، فأوردت مكرّراً البحث الخاصّ بمشروعية الزيارة لقبور الأولياء والصالحين محقّقاً^{^[3]}، حيثُ تكمن أهمّية الزيارة لمراقد المعصومين^ والأولياء في دلالتها وآثارها الوضعية، فللزيارة أقسام كثيرة لكلِّ واحدٍ منها فوائد خاصّة، كزيارة بيت الله الحرام التي تنطوي على فلسفةٍ وآدابٍ خاصّة ذُكرت مفصّلاً في المصادر الفقهية، ولا شكّ أنّ لزيارة قبور المؤمنين ثمرات ذات اتّجاهين، منها ما يعود على الزائر، ومنها ما يرجع إلى الجهة الـمَزورَة، فبالإضافة إلى الثواب المترتّب على زيارة المؤمن تجد أنّ الروايات أكّدت دخول السرور في نفس صاحب القبر عند زيارته.

ومن الفوائد المترتّبة على زيارة قبور المؤمنين تذكّر الموت، والعبرة، والاستعداد لإصلاح النفس وتهذيبها، فقد ورد عن أمير المؤمنين× أنّه قال: «زوروا موتاكم؛ فإنّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أُمّه بما يدعو لهما»^{^[4]}.

وفي الحديث الذي روته صحاح ومصادر العامّة «عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم من جوف اللّيل، فقال: يا أبا مويهبة، إنّي قد أُمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي. فانطلقت معه، فلمّا وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليَهْنِ لكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجّاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أوّلها آخرها، الآخرة شرٌّ من الأُولى»^{^[5]}.

وهذا دليل يُلزم أتباع مدرسة الحديث والسلفية السماح بزيارة قبور الأولياء والصالحين وإعمارها، لا العكس كما نراه في زماننا، فالموثّق لهذا الحديث ومصحّحه هو من كبار علماء مذهب السلفية.

إنّ النبي الأكرم‘ والأئمّة الأطهار^ هم المصداق الأمثل للإنسان الكامل، وإنّهم أحبّ الخلق إلى الله تعالى؛ لِما اتّسموا به من صفات الكمال تقوىً وورعاً وعلماً، وقد عصمهم الله من الذنوب ظاهراً وباطناً، وأمر تعالى بحبّهم وولائهم، وإنّ من حاربهم فقد حارب الله تعالى، فلا يصل الإنسان إلى مقام القرب الإلهي إلّا بمحبّتهم وقبول ولايتهم.

إنّ الفضل المترتّب على زيارتهم واضح العلّة؛ باعتبارها تمثّل أفضل الطرق للتواصل مع أئمّة الهدى المعصومين^، ممّا يوجب فلاح الإنسان وترسيخ الجانب المعنوي في شخصيّته، بالإضافة إلى ما تنطوي عليه الزيارة من الحظوة بكرامة الأئمّة^، وتعزيز الآصرة القلبية بين الزائر والإمام المعصوم؛ تجديداً للعهد باستمرار المسيرة الروحية التي يتحرّك فيها المؤمن استلهاماً منهم وتأسّياً بهم. ومن الآثار المترتّبة على الزيارة هو غفران الذنوب، والفوز بشفاعة الأئمّة الأطهار^، وإنجاح طلبات الزائرين، وسأحاول هنا الإشارة إلى نماذج من الروايات التي تُشير إلى ثمار الزيارة وما ترتّب عليها:

فقد ورد في المروي عنه‘: «مَن زارني بالمدينة محتسباً كنتُ له شفيعاً»^{^[6]}.

كما أكّد النبي الأكرم‘ شرعية الزيارة عمليّاً؛ حيث نُقِلَ خبرٌ مفاده: «أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حين انصرف من أُحد مرّ على مصعب بن عمير [و] هو مقتول على طريقِهِ، فوقف عليه رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ودعا له، ثمّ قرأ هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)^{^[7]}، ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: أشهد أنّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده، لا يُسلِّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»^{^[8]}.

وما إعراض الشيخين عن إخراج الحديث وغيره من المرويّات الدالّة على استحباب الزيارة إلّا لأسبابٍ سياسيةٍ عملت عليها الدولة الأُموية؛ لغرض إنكار فضل الشهداء وتقليل شأن الرموز الإسلامية.

وقال الإمام الصادق×: «مَن زار قبر الحسين× لله وفي الله، أعتقه الله من النار، وآمنه يوم الفزع الأكبر، ولم يسأل الله حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلّا أعطاه»^{^[9]}.

هذا غيض من فيضِ المتواترات والروايات المستفيضة والمعتبرة الكثيرة في تأكيد شرعية زيارة المعصومين^ والأولياء والصالحين، ذكرتها المصادر الحديثية وأشبعها العلماء بحثاً وتحقيقاً بما لا يترك أدنى شكٍّ في مشروعية الزيارة لقبور الصالحين ومطلوبيّتها من قبل البارئ.

ممّا تقدّم من تمهيد لمشروعية الزيارة؛ سأشرع ـ بعونه تعالى ـ في بيان منافع الزيارة لمرقد سيّد الشهداء وأبي الأحرار×، والتفصيل في عوائدها على الزائر في خير الدنيا وسعادة الآخرة، وقدّمتُ مطلب المنافع الدنيوية؛ لقربه من حواسّ الزائر وسنخية طبعه الماديّ أوّلاً، وامتثالاً للترتيب القرآني المندرج في الآية المباركة: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)^{^[10]}، فالإنسان المؤمن يطلب السعادة في الدنيا وإن كانت زائلة بشرط ألّا تتعارض مع سعادة الآخرة ولا تزاحمها.

لقد اشتُرطَ في قبول الزيارة وتحقّق آثارها على المزور أن يكون مؤمناً بقضية الإمام الحسين×، وعارفاً بمنزلته عند الله سبحانه، وأنّه× إمامٌ مفترض الطاعة، وكسائر العبادات فقد أُنيطَ قبولُها بقيد التقوى كما قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)^{^[11]}.

إذن؛ ينبغي للمؤمن الذي يروم زيارة سيّد الشهداء× أن يستذكر عظمة هذه الشخصية الفذّة، ويعيش أجواء ما جرى عليها من المصيبة الراتبة، فالأخبار قد ذكرت أنّ الله تعالى كتب على نفسه القدسية ألّا يأتيه× زائر لهفان، ولا مكروب، ولا مذنب، ولا مغموم، ولا صاحب حاجة، إلّا قضى الله حاجته كما سيلي من طيّات البحث في ذكر تلك الأخبار وتحليلها على وجوهٍ بيانية تدعو الزائر إلى إعمال عقله في عوائد تلك الزيارة المباركة، ولأجله انقسم البحث إلى محورين، هما:

المحور الأوّل: عوائد الزيارة الحسينية في دار الدنيا

جعل الله سبحانه دار الدنيا لغرض اختبار الناس وامتحانهم، كما ترادفت الآيات القرآنية بذكر هذه الحقيقة الواقعة نتائجها بعد الموت الذي قهر الناس بجبروته، فقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)^{^[12]}، فالمؤمن ينبغي أن ينشد في هذه الدار التنافس لنيل المكرمات، والتسابق للحظوة بالحسنات، من خلال أدائه للطاعات وعمله للصالحات، فالرخاء في دنياه خيرُ معينٍ على طاعة مولاه، ولا يشغله عنه سبحانه نصبٌ ولا داء، وتكون سعادة الدنيا غايته المنشودة على المدى القصير، والعمل لأجل التمهيد لسعادة آخرته وهي غايته القصوى.

وما الابتلاء الإلهي إلّا أحد أدوات الاختبار لمعرفة مدى صبره وقوّة إيمانه أوّلاً، ولتحصيل القرب من مولاه بمناجاته وتضرّعه إليه حين يشتدُّ عليه الابتلاء ثانياً، وهو ما يحقّق الإذعان بحاجة العبد إلى ربّه وفقره إليه سبحانه، وهذا الغرض من الابتلاء قد ذكره سبحانه في حواره مع نبيّه الأكرم‘ بقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)^{^[13]}.

إنّ خير ما يتضرّع به العبد من مكانٍ هو أقدسه وأحبّه إلى الله سبحانه^{^[14]}، وأفضل أماكن تلك المقدّسات ما يدعو الزائر الملهوف إلى استذكار ما جرى على صاحب تلك البقعة المباركة من مصائب، ووقع عليه من محنٍ ورزايا، ممّا يسعفه في التفاعل مع تلك الذكريات، ويشتدُّ تضرّعه إلى ربّه جلّ جلاله مسترسلاً في دعائه إليه لطلب قضاء حوائجه، حيثُ ورد ما يدلُّ على هذا المعنى من تحصيل عوائد الدنيا بزيارته×، ففي الخبر عن هارون بن خارجة، قال: «سمعت أبا عبد الله× يقول: وكّلَ اللهُ بقبر الحسين أربعة آلاف ملك شعثٌ غبرٌ يبكونه إلى يوم القيامة، فمَن زاره عارفاً بحقّه شيّعوه حتّى يبلغوه مأمنه، وإن مرض عادوه غدوةً وعشيّة، وإن مات شهدوا جنازته واستغفروا له إلى يوم القيامة»^{^[15]}.

فالخبر الشريف يعد الزائر الكريم للحضرة الحسينية بعدّة عوائد نافعة في دار الدنيا، وهي كما يلي:

أوّلاً: الحفاوة بتشييعه تكريماً له، والحصانة له بقوّة أربعة آلاف من الملائكة حمايةً له من أيِّ خطر قد يُحدق به فيُدرأ عنه مستقبلاً.

ثانياً: تشرّف الزائر بعيادة جموع الملائكة له حال الانتكاسة الصحية؛ لتمريضه ومداواته تخفيفاً لألم علّته، والدعاء له بالشفاء والعافية من مرضه.

ثالثاً: المشاركة في تشييع جنازته والعناية بجثمانه حتّى يخرج من دار الدنيا إلى ملحودة قبره، وفيها من إضفاء سمة الهيبة والوقار لجنازته في النفوس.

ممّا تقدّم من معطيات الخبر الشريف، يلتمس القارئ اللبيب جملةً من العوائد الثريّة ينالها الزائر بعد عودته من أداء تلك الشعيرة المقدّسة، وقد حَظيَ بخير الدنيا، ويحتفي من وافر نعمها، ألا وهي العافية والأمان، وهما كنزان مكفوران (مخفيّان)
لا يُعرف قدرهما إلّا حين فقدهما^{^[16]}.

وفي خبرٍ آخر نستحضر جملةً من العوائد المباركة التي طالما وعدنا بها الأئمّة الأطهار^، فعن أبي جعفر× قال: «مُروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين×؛ فإنّ إتيانه يزيد في الرزق، ويمدّ في العمر، ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترضٌ على كلِّ مؤمنٍ يقرُّ للحسين بالإمامة من الله»^{^[17]}.

فبالإضافة إلى نعمة الأمان الواردة في الخبر الأوّل وتأكيداً لعائدتها عليه من أثر الزيارة، يزداد العطاء حملاً آخر يتمثّل فيما يلي:

أوّلاً: فائدة زيادة الرزق الحلال بوعدٍ إلهي لا يتخلّف عن الزائر وإن طال الأمد لاقتضاء المصلحة، وهذا الرزق تارةً يكون مالاً، وأُخرى ولداً صالحاً، وغيرهما من أسباب سعادة المرء في الدنيا.

ثانياً: عائدة طول العمر بصحّة وهناء في عيش رغيد، وإلّا لا ينفع طول العمر مع كثرة الكدرات وتسلّط الهموم والأسقام، فطول العمر للمرء نافعٌ عندما يمُدُّ في أجل تكثير عمله الصالح؛ كسباً للحسنات، وزيادةً في رقيِّ درجاته في جنّات النعيم.

رُبمّا تأخّر الوعد الإلهي في نيل العوائد للزائر الكريم، وعلّة التأخير قد تكون لاختباره وتمحيصه بعد الاطّلاع على احتمال ضعف إيمانه، أو لحاجب من سوء اقترفه يمنع من تنجّز الوعد الإلهي بحقّه، أو قد يكون هذا الحبس للعوائد عنه حُبّاً له في دوام سماع مناجاته، وادخّاراً لثواب الزائر في الآخرة حيث النعيم المقيم^{^[18]}، وهو خيرٌ من نعيم الدنيا الفاني.

ومن كرامة زائر الإمام الحسين× عند الله سبحانه زيادة العناية الإلهية بشخصه الكريم، كما تعتني الأُمُّ بوحيدها من الولدِ، ففي الخبر المعتبر عن أبي عبد الله× أنّه قال: «إنّ الرجل يخرج إلى قبر الحسين×، فله إذا خرج من أهله بأوّل خطوة مغفرة ذنوبه، ثمّ لم يزل يقدّس بكلّ خطوة حتّى يأتيه. فإذا أتاه ناجاه الله: عبدي، سلني أعطك، ادعني أجبك، اطلب منّي أعطك، سلني حاجة أقضها لك... وقال أبو عبد الله×: وحقّ على الله أن يعطي ما بذل»^{^[19]}.

وكأنّه يُوهب الزائر قرطاساً أبيض مضمون الإجابة؛ ليكتُبَ فيه ما يشاء من الطلبات، وما يرجو فيه من الرغبات، ولا بخلَ في ساحة كرم الله} لزائر مرقد سيّد الشهداء×، الذي ضحّى بكلِّ ما يملك لأجل إعلاء كلمة التوحيد، فعليه أن يسأل الله} الكثير، ناظراً إلى سعة رحمته، وما أوجبه على نفسه تعالى من تلبية الطلبات مهما كثُرت.

ولا يقتصرُ الأمر في طلبات الزائر على المُدرَك بقصر نظره، بل ينبغي للزائر أن يسأل لما يتناسب مع سعة رحمة ربّه جلّ جلاله، وينسجم مع جزيل عطائه وكرمه، ولا يدور في خُلدِ المؤمن من غضاضةٍ لو طمع برحمة ربّه الواسعة، حيثُ ورد الخبر شاملاً لكُلِّ ما تقدّم من حبَوات ينالها الزائر الكريم إثر زيارته للمرقد الحسيني، فـ: «عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: إنّ الحسين صاحب كربلاء قُتل مظلوماً مكروباً عطشاناً لهفاناً، وحقّ على الله} ألّا يأتيه لهفان، ولا مكروب، ولا مذنب، ولا مغموم، ولا عطشان، ولا ذو عاهة ثمّ دعا عنده وتقرّب بالحسين× إلى الله}، إلّا نفّس الله كربته، وأعطاه مسألته، وغفر ذنبه، ومدّ في عمره، وبسط في رزقه، فاعتبروا يا أُولي الأبصار»^{^[20]}.

فالزائر حين يواسي الإمام الحسين× ـ عند زيارته ـ بكربته ومصابه وغربته يكون قد دخل في جملة الرحمة الواسعة، وشُمِلَ بمواهبها السنيّة.

كما تدلّ بعض الأخبار الشريفة على تحسين حال الزائر وتبديل حاله إلى الأفضل من غير دعوةٍ منه ولا تضرّع، بل لمجرّد النظر الإلهي إلى بؤس حاله، والعلم بمكنون نفسه، من باب قول العارف: (يُغنيه رؤية منظري عن مخبري)^{^[21]}، وهذا ما سطّرته الرواية عن أبي عبد الله×، قال: قال الحسين بن علي÷: «أنا قتيل العبرة، قُتلت مكروباً، وحقيق على الله ألّا يأتيني مكروب إلّا أردّه وأقلبه إلى أهله مسروراً»^{^[22]}.

هكذا تضافرت الأخبار الشريفة ـ بل تواترت ـ على سَرْدِ جُملة عريضة من العوائد على مَن يزور مرقد سيّد الشهداء× ويحتفي بنور قبره الأنور، فإن لم تزد تلك الروايات من ذكر المنافع أكدّت بعضها؛ ترسيخاً لفحواها في قلوب محبّيه وروّاد مرقده×، وهو ما نقرؤه في الخبر عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد (سلام الله عليهما) يقولان: «إنّ الله تعالى عوّض الحسين× من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تُعدّ أيّام زائريه جائياً وراجعاً»^{^[23]}.

فمن العوائد في هذا الخبر الشريف المباركة في عمر الزائر، وتعويضه ما قضى من أيّام سفر زيارته بقدره أيّاماً وزيادة وإن طال السفر بأيّامه ولياليه، وفيه إشارة إلى مدى الأمان الذي يكتسبه الزائر من زيارته، وضمانة طول العُمر رغم ما يُحدق به من مخاطر الطريق، خصوصاً أيّام حُكم الطغاة والمستبدّين.

لقد اقتبس الشاعر هذا المعنى من الأخبار لينظمه في عِقدٍ فريد تُشنّفُ به آذان سامعيه، وتقرح جفونهم حزناً، حين قال عليه الرحمة:^{^[24]}

لهُ القُبةُ البيضاءُ بالطَّفِّ لم تزل

تطوفُ بها طوعاً ملائكةٌ غُـرُّ

وفيهِ رسولُ الله قالَ وقولُهُ

صريحٌ صحيحٌ ليس في ذلكُمُ نُـكرُ

حُبِي بثَلاثٍ ما أحاطَ بمِثلِها

وَلِيٌّ فمَنْ زيدٌ هناك ومَنْ عَمرو!

له تربةٌ فيها الشِّفاءُ وقُـبَّةٌ

يُجابُ بها الداعي إذا مَسَّهُ الضُّرُ⁽²⁾

وفي المقابل تجد الأخبار الشريفة محذّرةً من ترك زيارته× في كُلِّ عامٍ ولو مرّة، فقد رُوي عن منصور ابن حازم، قال: سمعت الصادق× يقول: «مَن أتى عليه حول لم يأتِ قبر الحسين× نقص الله من عمره حولاً، ولو قلت: إنّ أحدكم يموت قبل أجله بثلاثين سنة لكنت صادقاً... فتنافسوا في زيارته ولا تدعوا ذلك»^{^[25]}.

وفي الخبر أعلاه تحذير شديد اللهجة لمـَن يزهد في ثواب الزيارة الحسينية، يتضمّن تهديد قصر العُمرِ ونقصانه عن أجله المحتوم؛ بسبب ترك زيارة مرقد سيّد الشهداء× من دون علّة، مع علمه بآثارها الطيّبة، وعوائدها الحسنة عليه في داري الدنيا والآخرة.

والخلاصة: يمكن القول بعد ما تقدّم من أخبار آثار الزيارة الحسينية وعوائدها الحسنة على الزائر الكريم في دار الدنيا أنّها تعود عليه بعدّة منافع، منها: الزيادة في العُمر والبركة في أيّام الزائر ولياليه، وزيادة الرزق الحلال وكفاية مؤونته، مع إجابة دعواته أو تأجيلها لما تقتضيه المصلحة، ثُمَّ يكسب الزائرُ النعمتين الكبيرتين، وهما: العافية، والأمان والاستقرار بالفراغ من مكائد الأعداء وبطشهم. ومن كرامة الزائر تحقيق مراده وإن لم يذكره في مناجاته وتضرّعه من كشف ضُرٍّ أو تنفيس كُربة.

وكُلُّ ما تقدّم من عوائد يمكن جمعها في صفةِ كسب سعادة الدنيا ورخائها، مع ما يُكتب له من سلامة الدين وحُسن العاقبة؛ رجاءً للفوز بسعادة الآخرة.

المحور الثاني: عوائد الزيارة الحسينية في دار الآخرة

تسري عوائد الزيارة الحسينية ومنافعها في الزائرين كما يجري كوثر الرحمة في الأرض القاحلة، فيسقيها حياةً خصبةً بالمكرمات، ممّا يعود عليهم بالخير الكثير والبركات، وأقلُّ هذه العوائد شأناً هو كثير الآثار وعظيمٌ في أهمّيته.

فأوّل العوائد هو المغفرة؛ تكفيراً لذنوب الزائر التي ارتكبها جهالةً أو عصياناً، ففي الخبر الشريف عن الحسين بن محمد، قال: قال أبو الحسن بن موسى×: «أدنى ما يُثاب به زائر أبي عبد الله× بشطّ الفرات إذا عرفَ حقَّه وحرمتَه وولايتَه أن يُغفَر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر»^{^[26]}.

وهنا نحن بين يدي عائدةٍ مشتركة الأثر، بين منفعة الدنيا ومنفعة الآخرة، فغفران الذنوب ينعكس إيجاباً على حياة الزائر للحائر الحسيني، كما أنّ له مَردّاً طيّباً في حياته الأُخرى، حيثُ ذكر الله سبحانه الكثير من آثار المغفرة وأهمّية الاستغفار في حياة الناس، ومن تلك الأذكار قوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)^{^[27]}، وزيادةً في قوله تعالى: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)^{^[28]}.

فالمغفرة كفيلة برفع الحُجب عن الرحمة الإلهية الواسعة في دار الدنيا، وكذا هي ضامنة للوقاية من النار وممهّدة للدخول إلى الجنّة والحياة فيها خالدة بنعيم، فالمستثنى من دخول النار يكون مهيّأً لورود الجنّة بإذن ربّه جلّ وعلا، حيثُ قال: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)^{^[29]}؛ ليتحقّق أثرُ المغفرة جامعاً لعوائد الدنيا مع عوائد الآخرة الباقية ومشتركاً بينهما.

إنّ الحديث أعلاه يُشير إلى عائدة المغفرة لما تقدّم من ذنوب الزائر، وهو أمر واضح البيان ولا يحتاج إلى تفسير، إنّما المبهم هو وعد المعصوم× للزائر بالمغفرة لما تأخّر من ذنوبه المُقدّر وقوعها في قادم أيّامه، فأثرُ الزيارة ساري المفعول لبقية عمر الزائر مع شرط الولاء وتجديد العهد مع مولاه، وتفسيره يندرج تحت طائلة الميول النفسية والتوجّه القلبي للزائر الذي انطوى على مكنون حبٍّ للإمام الحسين×، وهو ما دفعه لزيارته× بعقيدة العرفان لفضله والإقرار بإمامته×.

ومثلُ هذا القلب السليم لا يميلُ إلى أفعالٍ تناقض حُسنِ توجّهه، من اقتراف الفُحش وعمل السيّئات؛ خصوصاً بعد تأثّره بمصاب مولاه وعظم رزيّته، فيكون قلبه ذا حصانة كافية لردعه عن اقتحام المعاصي واقترافها، وإن اقترف بعضها فسلامة قلبه تدعوه للاستغفار وطلب التوبة من بارئه بإلحاح وتضرّع. وبهذا الأمر يتحقّق وعد المعصوم× الوارد في الخبر بالضمانة من غفران ذنوبه المتأخّرة عن موعد الزيارة.

ومثله قد ورد في الأثر الشريف ـ باستفاضة مُحقّقة ـ قولُ رسول الله‘: «حبّ علي بن أبي طالب حسنة لا يضرّ معها سيّئة، وبغضه سيّئة لا تنفع معها حسنة»^{^[30]}.

لذا؛ منح الأئمّة^ رقعة الضمان بالجنّة لـمَن يزور مرقد سيّد الشهداء× بعد تحقّق المغفرة له إثر زيارته المباركة، وبالعطاء الكثير من غير جِذَةٍ حتّى ورود الجنّة، فعن الريّان بن شبيب، عن الرضا× في حديثه له أنّه قال×: «يابن شبيب، إن سرّك أن تلقى الله} ولا ذنب عليك فزر الحسين×. يابن شبيب، إن سرّك أن تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النبي وآله (صلوات الله عليهم) فالعن قتلة الحسين×»^{^[31]}.

فلزائر الإمام الحسين× عائدة مغبوطة في الجنّة لا تقف عند حدِّ النعيم فحسب، بل ترتقي إلى كرامة الكينونة مع النبيِّ الأكرم ومع آله الطاهرين^ في منازل المخبتين، وهذه الكرامة يتمنّاها كلُّ أهل الجنّة ممّن لم يُوفَّق لزيارة مرقد سيّد الشهداء× في دنياه، وحينها تأخذهم الحسرات على ما زهدوا فيه من الثواب الجزيل الموجِبُ لرفيع المقام، وهو ما أكّدَ عليه في الخبر عن أبي عبد الله× أنّه قال: «ما من أحد يوم القيامة إلّا وهو يتمنّى أنّه من زوّار الحسين؛ لما يرى ممّا يُصنع بزوار الحسين× من كرامتهم على الله تعالى»^{^[32]}.

فأوّل الكرامات ـ كما دلّت عليه الأخبار المعتبرة ـ هي السبق إلى دخول الجنّة قبل سائر مستحقّيها، فقد رَوى زُرارة عن أبي عبد الله× أنّه قال: «إنّ لزوّار الحسين بن علي‘ يوم القيامة فضلاً على الناس. قلت: وما فضلهم؟ قال: يدخلون الجنّة قبل الناس بأربعين عاماً، وسائر الناس في الحساب والموقف»^{^[33]}.

فساحة الحساب هي قطعة من نار جهنّم قد برُدت من زفيرها، فمَن ينجو منها بسرعةٍ فقد تخلّصَ من حَرِّها. ثُمَّ تذكر الأخبار أعلى تلك الكرامات، وهي كرامة الجوار لأهل بيت الرحمة^ في المقام الأسمى، وأيّ كرامةٍ خيرٌ من مجاورة الأئمّة الأطهار^ في الجنان العالية والتلذّذ برؤيتهم؟! وكيف لا تأخذُ المحروم من الزيارة الحسرة والندامة على ما فرّطَ في حياته بالتقاعس عن الكون في مشهده× ولو في العمر مرّة؟

لقد صدر من ناحية المعصوم× الترغيب المُغري لمـَن يروم زيارة الحائر الحسيني، حيثُ وردَ عن أبي عبد الله الصادق× قوله: «مَن أراد أن يكون في جوار نبيّه‘، وجوار علي وفاطمةَ، فلا يدع زيارة الحسين بن علي‘»^{^[34]}؛ لما في هذا الجوار من متعة روحيّة ونعيم مقيم لا يُدركه المؤمن في غيره من نعيم الجنّة وقصورها، وهو الذي وصفته الأخبار الخاصّة بأحوال أهل الجنّة بجملة مختزلة مفادها: «ممّا لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، وما لا خطرَ على بال بشر»^{^[35]}، وقد جرت هذه الصفة من معنى الآية المباركة: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)^{^[36]}.

ففي هذا الحديث القدسيِّ وصفٌ لنعيم الجنّة الذي لا يُتصوّرُ بحواسٍّ قدرُهُ، فلا يُمكن أن يُقال من وصف يعبِّر عن حقيقة الحال، وإنّما يُقرِّب للسامعين المعنى فحسب؛ وذلك أنّ ما تتصوّره الحواسّ، إمّا أن يكون بالمشاهدة، أو بالسمع، أو بالخيال الذهني، فهو لا يخرج عن هذه الطرق الثلاثة، فالذهن يتخيّل، ومداه في ذلك واسع، ومع ذلك فهناءُ الجنّة شيء آخر تماماً، لا يُمكن أن يكون مثله في عالم المشاهدات، ولا في المسموعات، ولا يمكن أن يكون ذلك ممّا يتّصل بالوهم أو الخيال، أو ما يخطر على قلب بشر مهما تعاظم قدره، فكيف للمرء أن يُحيطَ علماً بنعيم مرافقة أئمّة الهدى^ في محيط نشأتهم الآخرة وهي الأعلى؟! مع أنّه قد جهل معرفة قدرهم في حدود نشأتهم الدنيا.

وفي المقابل؛ كما يُنتقص من عُمرِ المُعرِض عن زيارة مرقد الإمام الحسين× ويقرَّب من أجله، فإنّ المرءَ الذي لم يزر مرقده الأقدس يكون محروماً من جُملة خصائص ذكرها الخبر المروي عن أبي عبد الله الصادق×، حيثُ قال: «مَن لم يأتِ قبر الحسين× حتّى يموت، كان منتقصَ الدين، منتقصَ الإيمان، وإن أُدخِلَ الجنّةَ كان دون المؤمنين في الجنّة»^{^[37]}.

وفي خبرٍ آخر يُناطُ شرط الإيمان بكثرة الزيارة بقوله×: «... ومَن لم يكن للحسين× زوّاراً كان ناقص الإيمان»^{^[38]}.

فالنتيجة تتبع أخسَّ المقدّمات، ومَن ترك الزيارة الحسينية ضعُفَ إيمانه وقلّ يقينه، وهما من مقدّمات تدني مستوى درجته في الجنّة، وبالتالي انحصر نعيمه بالملذّات المناسبة لعالمه من حورٍ وممّا تشتهي نفسُهُ، وبالنتيجة يكون محروماً من نعيم رؤية أهل بيت الرحمة^، والتلذُّذ بمناجاتهم العذِبة، والاطّلاع على أحوالهم ومعارفهم الشيّقة.

لا عجبَ أن يرتقي مستديم زيارة الحرم الحسيني بكثرة تلك المقامات السامية من الجنّة بمعيّة أهل بيت الرحمة^؛ لأنّ فضل الزيارة عند الله تعالى كان عظيماً، فالزائر له كرامة خاصّة عند البارئ} يَهبُهُ ما يناسب كرامته من مقام محمود يغبطهُ الأوّلون والآخرون، والدليل على سموّ مقام الزيارة وفضلها هو ما ورد عن أبي الحسن الرضا×، قال: «مَن زار قبر الحسين× بشطّ الفرات كان كمَن زار الله فوق عرشه»^{^[39]}.

فمَن يرتقي بزيارته مثل هذا المقام الأعلى، جدير بنيل درجة الرفقة لأهل البيت^ في الجنّة، فوجه الشبه القائم بين الحرم الحسيني ومقام العرش الإلهي نابع من بيان المقام الأسمى الذي ناله الإمام الحسين× بشهادته العظمى الموسومة بالرزيّة الكُبرى^{^[40]}.

وهذه المشابهة وردت أيضاً بين زيارة الحرم الحسيني وبين حجّ بيت الله الحرام في الثواب، وهذه المقايسة ذُكرت في المحاورة بين النبي الأكرم‘ وزوجته عائشة كما نقلها الإمام الصادق× بقوله: «... أما إنّ أُمّتي ستقتله، فمَن زاره بعد وفاته كتب الله له حجّة من حججي. قالت: يا رسول الله، حجّة من حججك؟ قال: نعم، وحجّتين من حججي. قالت: يا رسول الله، حجّتين من حججك؟ قال: نعم، وأربعة. قال: فلم تزل تزاده ويزيد ويضعّف حتّى بلغ تسعين حجّة من حجج رسول الله× بأعمارها»^{^[41]}.

لقد حفِظَ الإمام الحسين× حرمة بيت الله الحرام، كما دافع عن مبادئ التوحيد وعقيدة النبوّة، وقدّم نفسه قربان فداءٍ لهذا الدين الحنيف، لئلّا تمحقه بنو أُمية ويعيدوا الناس إلى الجاهلية الأُولى؛ ولأجل كُلِّ ذلك حباهُ الله تعالى بتلك المنزلة العظيمة، كما أكرم زوّاره بتلك المواهب الكبيرة.

وتأكيداً لما ورد يُضيف الإمام الصادق× في حواره مع بشير الدهّان قائلاً:
«... يا بشير، أيّما مؤمن أتى قبر الحسين عارفاً بحقّه في غير يوم عيد، كُتبت له عشرون حجّة وعشرون عمرة مبرورات متقبّلات، وعشرون غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل، ومَن أتاه في يوم عرفة عارفاً بحقّه كتبت له ألف حجّة وألف عمرة مبرورات متقبّلات، وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل»^{^[42]}.

ويرجع السرُّ في تفاوت الثواب ـمن حجّة إلى ألف حجّة ـ إلى النظر في حال الزائر ودرجة تقواه ومدى عقيدته في إمامه من حيثُ المعرفة بحقيقته، وأنّه إمامُ حقٍّ مفترض الطاعة، ولزوم الاقتداء به× حين التعارض بين حفظ النفس مع حفظ الدين، يتقدّم حفظ الدين على الغالي والنفيس.

كثيرة هي الأخبار المشوّقة لزيارة الإمام الحسين× ترغيباً للاستزادة منها والكينونة من الزوّار المستديمين، فلا يسع مجال البحث لإيراد جميع تلك الأخبار الشريفة، وسأقتصر على ذكر العوائد النافعة التي لم ترد في سالف الأخبار الموثَّقة أعلاه، مع إحالة القارئ اللبيب إلى مصادر تلك الأخبار الشريفة للاطلّاع عليها، ومن تلك العوائد ما يلي:

أوّلاً: الأمان يوم الفزع الأكبر والنجاة من الحساب العسير^{^[43]}.

ثانياً: الحظوة بالمحبّة الإلهية ويتباهى به من قبل الله}^{^[44]}.

ثالثاً: رزق ثواب الشهادة بين يدي الإمام الحسين×^{^[45]}.

رابعاً: يُرزق خير الدنيا والآخرة^{^[46]}.

خامساً: الكينونة على موائد النور الإلهي^{^[47]}.

هذه جملة العوائد التي تكرّرت في بعض الأخبار تأكيداً على صحّة صدورها، ولأجل ترغيب المعصوم× لشيعته بالإكثار من زيارة مرقد أبي الأحرار وسيّد الشهداء الإمام الحسين×.

الخاتمة

فاقت أخبار المعصومين^ حول ثواب الزيارة الحسينية بعوائدها المعنويّة على الأُمور الماديّة حتّى بلغت حدَّ التواتر، فسارت بالتشويق للزائر الكريم من المغفرة والتوفيق للتوبة النصوح، وتخلّلتها بثواب الحجِّ والعمَرة مُضاعفةً، وزيّنتها بثواب الشراكة في الجهاد والتضحية يوم عاشوراء في صفِّ أهل الحقّ، ثُمَّ ختمتها بالأمن يوم القيامة ودخول الجنّة في أعلى المنازل مع أهل البيت^.

النتائج

شملت العوائد على الزائر كُلّاً من سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

تبدأ سعادة الدنيا من الأمن وتفريج الكرب وكشف الهمّ للزائر، وتصل في منافعها إلى زيادة الرزق والعافية من البلايا، واستجابة الدعاء، بل وقضاء الحوائج من غير مسألة.

تشرع سعادة الآخرة بعرض مشهد الأمن للزائر يوم القيامة، وسرعة دخول الجنّة، وبمباهاة الخالق تعالى بالزائر، ومسك ختامها بالكينونة بمنزلة أهل بيت النبوّة^ في منازل المخبتين.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1. إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، نور الله الحسيني المرعشي التُستري (ت1019هـ)، تحقيق وتعليق: شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم المقدّسة ـ إيران.

2. الأمالي، محمد بن بابويه القمّي الصدوق (ت 381هـ)، تحقيق ونشر: قسم الدراسات الإسلاميّة، مؤسّسة البعثة، قم المقدّسة ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

3. بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي (ت 1111هـ)، تحقيق: محمد مهدي الخرسان، إبراهيم الميانجي، محمد الباقر البهبودي، الناشر: مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1403هـ/ 1983م.

4. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، محمد بن بابويه القُمّي الصدوق (ت381هـ)، تحقيق: محمد مهدي الخرسان، منشورات الرضى، قم المقدّسة ـ إيران، الطبعة الثانية، 1368ش.

5. جامع أحاديث الشيعة، حسين الطباطبائي البروجردي (ت 1380هـ)، المطبعة العلميّة، قم المقدّسة ـ إيران.

6. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)، الناشر: دار الفكر، 1401هـ/1981م.

7. الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، عبد الحسين الأميني، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة، 1967م.

8. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (ت329هـ)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، 1365ش.

9. كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه القمّي(ت368هـ)، تحقيق ونشر: مركز الفقاهة، قم المقدّسة ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

10. لسان العرب، جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي (ت 711هـ)، نشر: أدب الحوزة العلميّة، قم المقدّسة ـ إيران، 1405هـ.

11. المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري (ت405هـ)، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1411هـ/1990م.

12. مُسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، وآخرون، الناشر: مؤسّسة الرسالة، الطبعة الأُولى، 1421هـ/2001م.

13. معالي السبطين في أخبار الحسن والحسين÷، محمد مهدي الحائري
(ت 1358هـ)، منشورات الشريف الرضي، قم المقدّسة ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1409هـ.

14. مَن لا يحضره الفقيه، محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمّي المعروف بالصدوق (ت381هـ)، نشر وتحقيق: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم المقدّسة ـ إيران، الطبعة الثانية، 1404هـ.

15. وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، محمد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المقدّسة ـ
إيران، الطبعة الثانية، 1414هـ.

المجلّات

16. مجلّة الإصلاح الحسيني، العدد33، التجلّيات العقدية في زيارة الإمام الحسين×، حيدر العريضي.

[1] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج14، ص271ـ275.

[2] اُنظر: المصدر السابق: ج4، ص11ـ12.

[3] اُنظر: العريضي، حيدر، التجلّيات العقدية في زيارة الإمام الحسين×، مجلّة الإصلاح الحسيني، العدد: 33، ص76ـ 78 .

[4][4] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج3، ص223.

[5] ابن حنبل، أحمد، مُسند أحمد بن حنبل: ج25، ص376.

[6] الأميني، عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسنّة والأدب: ج5، ص102.

[7] الأحزاب: الآية23.

[8] الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين: ج2، ص271.

[9] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج 14، ص499.

[10] البقرة: الآية201.

[11] المائدة: الآية27.

[12] الملك: الآية2.

[13] الأنعام: الآية42.

[14] ورد في الخبر المعتبر: «حدّثني علي بن الحسين وجماعة، عن سعد، عن محمد بن عيسى، عن أبي هاشم الجعفري، قال: دخلت أنا ومحمد بن حمزة عليه نعوده وهو عليل، فقال لنا: وجّهوا قوماً إلى الحير من مالي، فلمّا خرجنا من عنده، قال لي محمد بن حمزة: المشير يوجّهنا إلى الحير وهو بمنزلة مَن في الحير! قال: فعدت إليه فأخبرته، فقال لي: ليس هو هكذا، إنّ لله مواضع يحبّ أن يُعبد فيها، وحائر الحسين× من تلك المواضع». المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص113.

[15] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص349.

[16] رُوِيَ عن رسول الله‘ أنّهُ قَالَ: «الصحّة والفراغ نعمتان مكفورتان». الصدوق، محمد بن علي، مَن لا يحضره الفقيه: ج4، ص381.

[17] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص284.

[18] ذُكرت تلك العلل في روايات عدّة اختصرها في هذا الخبر: روى الشيخ الكليني في (الكافي) بسندٍ صحيح: «عن أحمد بن محمد بن أبي نصرٍ، قال: قلتُ لأبي الحسن×: جُعِلْتُ فِداك، إنّي قد سألت الله حاجةً منذ كذا وكذا سنة، وقد دَخَلَ قلبي من إبْطَائِها شيءٌ. فقال: يا أحمد، إيّاك والشيطان أن يكونَ له عليك سبيلٌ حتّى يُقَنِّطَك، إنَّ أبا جعفر(صلوات الله عليه) كان يقول: إنّ المؤمن يسأل الله} حاجةً، فيُؤَخّر عنه تعجيل إجابته حُبّاً لصوته واستماع نحيبه. ثمّ قال: والله، ما أخّر الله } عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا خير لهم ممّا عجّل لهم فيها، وأيُّ شيءٍ الدنيا؟!». الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص488.

[19] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج٩٨، ص٢٤.

[20] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص313ـ314.

[21] هذا المعنى مقتبس من قول السائل للإمام الحسن× في منظومة شعره. اُنظر: الحائري، محمد مهدي، معالي السبطين في أخبار الحسن والحسين÷: ص18.

[22] الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال: ص98.

[23] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص69.

[24] الأميني، عبد الحسين، الغدير في الكتاب والسنّة والأدب: ج7، ص15.

[25] البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة: ج12، ص467.

[26] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص24.

[27] هود: الآية52.

[28] نوح: الآية12.

[29] الفرقان: الآية70.

[30] المرعشي، شهاب الدين، شرح إحقاق الحقّ: ج7، ص257.

[31] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص103.

[32] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارت: ص258.

[33] المصدر السابق: ص262.

[34] المصدر السابق: ص260.

[35] ورد هذا النصّ في الحديث القدسي، حيث قال تعالى: «أعددتُ لعبادي الصالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلب بشر». البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج6، ص21.

[36] السجدة: الآية17.

[37] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص4.

[38] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص356.

[39] الصدوق، محمد بن بابويه، ثواب الأعمال: ص85.

[40] هذه الحقيقة وردت في الخبر الشريف، وسأذكر شطراً منه بما يُناسب المقام، وهو: «فجاءه النبي‘ وهو في منامه، فأخذ الحسين× وضمّه إلى صدره، وجعل يقبّل بين عينيه، ويقول: بأبي أنت، كأنّي أراك مرمّلاً بدمك بين عصابة من هذه الأُمّة، يرجون شفاعتي، ما لهم عند الله من خلاق. يا بني، إنّك قادم على أبيك وأُمّك وأخيك، وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجنّة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة». اُنظر: الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص217.

[41] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ص98، ص35.

[42] المصدر السابق: ص85.

[43] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص276.

[44] اُنظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج14، ص497.

[45] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص328.

[46] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج98، ص20.

[47] اُنظر: ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص258.

عوائد الزيارة الحسينية دراسة في الأبعاد الدنيوية والأُخروية