بسم الله الرحمن الرحيم

على مدار الأعداد السبعة السابقة، وهذا العدد الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ الكريم ـ كانت لـ(مجلّة الإصلاح الحسيني) جولة علمية وفكرية بين محطّات شعيرة زيارة الإمام الحسين× ومرافئها المتنوّعة، من خلال ما جادت به قرائح العلماء والباحثين من أبحاث ومقالات علمية قيّمة، أسفرت عن أنّ هذه الشعيرة المقدّسة غزيرة بالدلالات، وحافلة بالأبعاد على مستوى النصوص الغنية بالإشارات إلى كثير من جوانب المنظومة الدينية، العقدية منها والفقهية والأخلاقية والتاريخية المتعلّقة بسيرة الأئمّة وأهل البيت^، وفضائلهم وملكاتهم؛ لورود كثير من هذه النصوص على ألسنة المعصومين^.

وعلى مستوى الممارسة كذلك؛ إذ رسموا^ بعض معالمها حين اختطّوا ببياناتهم الشريفة طرقاً يتّبعها الزائر وهو متوجّه في طريقه إلى تلك الحضرة القدسية المشرّفة، من خروجه من بيته وحتى وصوله إلى البقاع المشرّفة، فيجد هناك تعاليم تُرشده نحو بعض الآداب الخاصّة، من قبيل: التطهّر والاغتسال، والمشي بسكينة ووقار مع الذكر والتسبيح والاستغفار، وكيفية الدخول بطلب الإذن بالتشرّف بالمكان، مع بيان مواطن الوقوف والحركات، وتقبيل الضريح؛ مكمّلين بذلك جرعة الفيض الإلهي والعطاء الربّاني لهذه الرحلة الروحية العميقة، التي انفرد بها ـ بحمد الله ومنّه ـ أتباع مدرسة أهل البيت^.

فكانت مقالات وأبحاث الأعداد الثمانية لـ(مجلّة الإصلاح الحسيني) التي احتضنت ملف: (قراءات في زيارات الإمام الحسين×) حصيلة غنية بهذه الأبعاد المتعدّدة والدلالات المتنوّعة، فتطالعنا نصوصها ومتونها بجواهر نفيسة، ولآلئ ثمينة؛ ففي المجال العقدي تناولت بعض الدراسات والمقالات ـ في مجلّتنا ـ مسألة التوحيد بوصفها مسألة مفصلية وركناً ركيناً في البناء المعرفي الإسلامي، سيّما إذا أُبرزت في شعيرة زيارة الأضرحة المقدّسة، ومنها ضريح الإمام الحسين×؛ لما قد يُثار حولها من غبار من قِبل بعض الاتّجاهات الإسلامية بغير وجه حقّ.

كما كانت قضية الولاء لأهل البيت^، والارتباط الوثيق بهم، والتعبير عن الحبّ والوفاء لهم، والتأكيد على أهمّية الاقتداء بهم، والتبرّي من أعدائهم، حاضرة في نصوص زيارات الإمام الحسين×، فجاء التأكيد عليها؛ لأهمّيتها في تصحيح مسار المؤمنين في حركتهم نحو غاياتهم المرجوّة. وغير ذلك من المطالب العقدية التي جاءت في طيّات الأبحاث والدراسات التي حملتها أعداد المجلّة.

وقد كان لما حوته نصوص الزيارة من الإشارة إلى شخصية الإمام الحسين× وتاريخه وفضائله، وعوامل نهضته، والأسباب المؤدّية إلى قيامه بتلك الثورة المعطاء، مساحة لافتة في عدد من الأبحاث والمقالات التي تطرّقت إليها بالبحث والتحليل بموضوعية وإتقان.

وفي جانب مهمّ آخر؛ كان للقيم الأخلاقية والسلوكية مكانها في نصوص زيارات الإمام×، مع حصول الزائر على الثواب الجزيل والعطاء الوفير من الأجر والمغفرة، فينقلب في نهاية هذه الشعيرة مسروراً قد غنم الكثير من الغنائم والأُعطيات الدنيوية والأُخروية، وكذلك يحصل على العديد من الآثار المادّية والمعنوية التي ستترك أثرها الواضح على مجمل حياته اليومية، وسلوكه وتعامله مع المجتمع.

هذا؛ وقد كشفت أبحاث المجلّة عن أنّ نصوص الزيارة غنية بجوانب كثيرة لم تقتصر على الجانب الديني والفكري حسب، بل تضمّ ـ كما بيّنا ـ جوانب تاريخية، يمكن جعلها وثائق تاريخية مهمّة تؤرّخ لأحداث النهضة الحسينية، وما جرى فيها، وتُلقي الضوء على بعض الأُمور التي ربّما أغفلتها المصادر التاريخية.

بالإضافة إلى أنّ كثيراً من هذه النصوص قد صدرت عن الأئمّة^؛ فلذا صارت مادّة دسمة لعدد من الأبحاث والدراسات الأدبية واللغوية، فحملت بعض الأعداد قسماً من هذه الموضوعات المهمّة في هذا الجانب.

ولم تغفل بعض الأبحاث والدراسات التشديد على أنّ كثيراً من فقرات الزيارات الحسينية تغرس في نفوس الزائرين قيم الجهاد والنهوض ضدّ الظلم، وإحقاق الحقّ، والشهادة والتضحية من أجل القيم السامية.

وإذا ما التفتنا إلى زيارة الإمام الحسين× بوصفها ممارسة عبادية عملية يتنقل الزائر بين فقراتها المختلفة تاركة عليه آثارها المتنوّعة، فتبرز لدينا هنا أبعادها الكثيرة التي أشارت إليها بعض المقالات والدراسات في مجلّتنا، ومنها البُعد الروحي والنفسي؛ فالزيارة وسيلة من وسائل التقرّب إلى الله تعالى يعيش الزائر في رحابها حالة من التذلّل والخشوع أمام الله تعالى، وهو يتأمّل في تضحيات الإمام الحسين× وأهداف نهضته، والتقرّب إلى الله سبحانه من خلال الزيارة إلى قبر أحبِّ خلقه إليه، وعندما يتواصل الزائر مع الإمام الحسين× روحياً، فهو يستمدّ منه القوّة والعزيمة، ويستشفع به عند الله، وعندما يسكب دموعه وهو يستذكر مظلوميّته ومظلومية أهل بيته وأصحابه، فهو يُعبّر عن حبّه وإخلاصه للإمام×، فتسمو نفسه، ويطهر وجدانه، ويفرغ ما في ضميره من عاطفة تجاه مظلومي العالم، ويشاركهم آلامهم وآمالهم في الخلاص من الظلم، والتنعّم بالعدالة والحرّية، وغير ذلك من الدلالات الروحية والنفسية العميقة.

وفي الجانب التربوي تُعدّ الزيارة مدرسة تربوية عظيمة، تزرع في نفوس الزوّار القيم الأخلاقية السامية، مثل: الصبر، والشجاعة، والتضحية، والإيثار، وتُسهم في تعزيز روح التضامن والإخاء بين المؤمنين.

والزيارة في بُعدها الاجتماعي مناسبة لتجمّع الناس وتلاحمهم من مختلف الأطياف والمجتمعات، ومن مختلف الطوائف والمذاهب؛ لتعزيز روح الوحدة والتآخي بينهم، في نموذج فريد من الوحدة الاجتماعية؛ لتقوية أواصر الأُخوّة والتعاون بين الزائرين في مشهد يجدّد البيعة للإمام الحسين× ومناصرته في قضيّته العادلة، ومساعدة الفقراء والمعوزين، وإشاعة روح التكافل بين المؤمنين، والتفاني والإخلاص في العمل الطوعي خدمةً للزائرين.

وأمّا البُعد السياسي لزيارة الإمام الحسين×، فالزيارة تذكّر بالواجب الديني والأخلاقي في الدفاع عن الحقّ والعدل، ومقاومة الظلم والطغيان، والتأكيد على الهوية الدينية والوطنية لدى الزوّار، والتضامن مع جميع المظلومين في العالم. وتمثّل معلماً من معالم الصمود والثبات على المبادئ أمام الظلم والاستبداد، وتُعيد إلى الأذهان ذكرى النهضة الحسينية كرمز للمطالبة بالعدالة والحرّية، والحثّ على مواصلة النهج الثوري مهما كانت الصعاب وغلت التضحيات، واقتلاع جذور اليأس والإحباط والانهزامية من نفوس المؤمنين.

فهذه أبعاد يمكن أن تُستكشف من الزيارة، وغيرها من الأبعاد والدلالات المتشابكة لهذه الشعيرة المقدّسة، لقد أفضت لنا عملية البحث في جوانب هذه الشعيرة وعلى مدار ثمانية أعداد من المجلّة أنّ التراث الحسيني ـ ومنه الزيارة ـ لهو تراث ثرّ وغني؛ إذ لم تُشكّل هذه الأبحاث المتعدّدة إلّا ومضة من نور هذه الممارسة العبادية.

هذا؛ ونتقدّم بوافر الشكر والامتنان للعلماء والباحثين والكتّاب... وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

زيارات الإمام الحسين (عليه السلام) تنوّع الأبعاد وتعدّد الدلالات